حكاية الأسطورة والأدب
د. سناء الشعلان
العلاقة النشوئية الجدلية هي الرابط الأساسي بين الأسطورة والأدب، فالأدب والأسطورة يتداخلان، وقد يتبادلان الأدوار ببعض التحفّظ في لعبة الدخول إلى دائرة المقدس أو الخروج منها، فأسطورة ما قد تكون في دائرة الأسطورة في كتاب ما، وفي دائرة اللامقدس في كتاب آخر، وبذا تهبط إلى مستوى القصة غير المقدّسة، وتدخل في حيّز الأدب.
وكان أفلاطون أوّل من استعمل تعبير Muthologia، وعنى به فن رواية القصة، ولا سيما تلك التي ندعوها بالأساطير، وهذا ليس بالغريب إذ نجد كلمة الأسطورة الإنجليزية Mythos ومثيلاتها في اللغة اللاتينية مشتقّة من الأصل اليوناني Muthos، وتعني قصة أو حكاية، ولا يتحقّق هذا الارتباط من خلال أصل الكلمة فحسب، بل أنّه يمتدّ ليشمل عدداً من الخصائص التي تجعل من الأسطورة أدباً بالمعنى التام، أو نصّاً مدوناً يوفّر لنفسه خصائص النص الأدبي جميعها.
فإذا كانت الأسطورة شكلاً من أشكال النشاط الفكري، فهي بهذا المعنى تلتقي بالأدب بوصفه نشاطاً فكرياً أيضاً، كما تلتقي معه في أنّ لكليهما وظيفة واحدة، هي إيجاد توازن بين الإنسان ومحيطه. وكما تسهم الأسطورة في تحرير العقل من سطوة الواقع، وتحلق به فوق عالم المحسوسات، وتمنحه طاقة ترميم حالات التصدّع التي ينتجها هذا الواقع، فإنّ الأدب يُعدّ هو الآخر بحثاً في الواقع، ولكن دون امتثال لقوانينه الموضوعية أو انصياع لأعرافه المادية.
ونستطيع أن ندرك تلك العلاقة بين الأدب والأسطورة عبر مطالعة الأنواع الأدبية التي هي حقيقة حلقات متصلة في سلسلة الإبداع البشري.
والشعر هو أقدم ما وصلنا من نصوص، لا سيما الشعر القصصي منه، ويبدو أنّ البدايات كانت كلاماً غامضاً يناسب طقوس العبادة والسّحر، وقد تغدو الأسطورة بعد زمن كلاماً موزوناً ذا إيقاع خاص، ويكون للشعر الغنائي الفضل في حمل هذه الأساطير ذات الإيقاع والترنيمات، التي سرعان ما تتجلّى بشكل واضح في الملاحم الشعرية.
ولعلّ من أبرز الصلات التي تقيمها الأسطورة مع الشعر، أو يقيمها الثاني مع الأوّل، أنّ لكليهما جوهراً واحداً على مستويي اللغة والأداء، فعلى المستوى الأوّل يشترك الاثنان في إشادتهما لغة استعاريّة، توميء ولا تفصح، وتلهث وراء الحقيقة دون أن تسعى إلى الإمساك بها، ويتجلّى الثاني من خلال عودة الشعر الدائمة إلى المنابع البكر للتجربة الإنسانية(، ومحاولة التعبير عن الإنسان بوسائل عذراء لم يمتهنها الاستعمال اليومي.
وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم سبب تربّي الأسطورة في أحضان المسرح عند الإغريقي الذي كان معنيّاً بالتأمل بالأمور الدينية، وجاءتْ الأسطورة لتعبّر عن هذا التأمّل بالطقوس المسرحية الدنيوية المعروفة، لا سيما عبر المأساة التي أعطت الأسطورة صوتها ومنحتها الأسطورة قوتها، وبذلك تظهر علاقة الأسطورة بالملحمة التي تُكتب شعراً، وتتناول خلق الآلهة وصراعها، كما تتناول سيرة بطل الملحمة ومغامراته.
وللأسطورة جانب أدبي يتوجّه الاهتمام فيه إلى الجانب الفني البنائي دون الاهتمام بالوظائف الدينية، وعبر هذا الجانب الذي قد يمثّل استطالات للسّرد المثيولوجي كان ظهور الرواية(التي اشتركت مع الأساطير بصفة مركزية وهي "صفة الأحدوثة" لتكون بذلك الرواية مغامرة من المغامرات الإبداعية في تاريخ الخيال البشري.
فقد أكدت أبحاث لوكاتش وليفي شتراوس وجود صلات وثيقة بين الأسطورة والرواية، فالاختلاف عندهما يكاد لا يتجاوز أكثر من حاجز الزمن بين عصر الرواية وعصر الأسطورة، فالرواية في تصوّرهما سمة حضارة تفتقر إلى نظام، واتساع رقعة، ومنطق الأسطورة، لكنّها مع ذلك تبحث عن إعادة اكتشافها في عملية إبداعية جديدة، وهي الرواية.
|
|
|