خواطر في الخطابة

د. محمد حسان الطيان


ما جرت بي عادتي أن أعتلي المنابر، أو أتكلم بين حشود الناس، أو أقوم خطيبا في مناسبة. ولايغرَّنَّكم مني بضاعة مزجاة في علوم العربية وما إليها، فهذا شأن واعتلاء المنابر شأن آخر، إنه شأن يحتاج إلى تمرس وتدريب.. وطول معاناة وخبرة وتجريب..وإلى ذلك كله لسان فصيح، وجنان قوي، وبديهة مواتية، وحس مرهف, وفقه بقضايا العصر ومشكلات المجتمع، وإلا فما فائدة الكلام في أمور نجترها في كل وقت وحين، وتلوكها بعض الألسنة معادة مكرورة دون أن تمس حاجة من حوائج الناس، أو مشكلة من مشاكلهم، أو معاناة مما يعاني منه مجتمعهم.
    إن الخطيب كالشاعر يهتز لحادث حدث أو طارئ طرأ فيهز الناس من حوله، يحس بما يعاني الناس من خطوب الدهر وما يوجهون من أخطار وما يحيق بهم من مكر فيتلمس لكل ذلك الحلول الناجعة، ويبث في صفوف الناس الأمل المشرق، ويحذر من الأخطار المحدقة، ويتصدى للأفكار الملوثة. إنه يحلل أدواء المجتمع وآفاته وأمراضه ويشخصها ليحاول معالجتها واصفا أنجع الأدوية للخلاص منها.
    إنه عند التبصر والتدبر لسان أمته، المعبر عن آلامها، الماسح لأحزانها، المنبه على أي خطر يحدق بها، والساعي إلى مواجهة كل خطب يلم بها.
وإلا فما فائدة الخطيب إذا لم يفتح فكرا .. أو يضمد جرحا .. أو يرقأ دمعة .. أو يطهر قلبا .. أو يكشف زيفا.. أو يبنِ صرحا.
    ولعمري إن هذا لا يتأتى لكل خطيب حتى يكون له من ورائه عقل واع، وفكر سديد، واطلاع واسع, وثقافة متطاولة متقادمة ترفده في كل أمر يتصدى له. دع عنك سلامة اللغة, ونصاعة العبارة، واستحضار الشواهد, وحسن التمثيل، وعلو البيان، وجودة الإلقاء. إنه كما قال الشاعر:
                  طَبِـيـبٌ بـداء فُنُون الكلا         م لَمْ يَعْيَ يوماً ولم يَهْذُرِ
فإنْ هو أَطْنَبَ في خُطْبَةٍ         قَضَى للمُطِيل على المُنْزر
وإن هو أَوْجَزَ في خُطبَةٍ         قَضى للمُقِلِّ على المُكْثِرِ

على أني لا أرى الإطناب والإكثار والتطويل لائقا بخطيب مهما بلغ من أمره، لأنه مدعاة للملل وإلى انصراف السامع وانشغال فكره، ولأن الكلام الطويل ينسي آخره أوله، ويعجز المرء عن استيعاب مجمله، فضلا عن تفصيلاته ودقائقه. وما أحسن هدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه عنه ابن مسعود في هذا:
" إنّ طُول الصّلاةِ وقِصرَ الخُطْبة مَئِنَّةٌ من فِقه الرّجُل"  
قال الجاحظ: مَـئِـنَّـة كقولك: مَخْلقةٌ ومَجْدَرة ومَحْراة، قال الأصمعيّ: مَئِنَّة: علامة.
    وقد اتبع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، جاء في صحيح مسلم: قال أبو وائل: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفّستَ (أي أطلت) قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنّ طُول الصّلاةِ وقِصرَ الخُطْبة مَئِنَّةٌ من فِقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرا" .
    وأنت لا تكاد تقف على خطبة من خطب البلغاء والفصحاء والأبْيِنَاء تتجاوز الصفحات ذوات العدد، بل إن كثيرا من الخطب العصماء التي اشتهرت في دنيا الخطابة  لا تتجاوز الصفحة الواحدة، مع أنها اشتملت على معان وقيم وشمائل وحكم صلح عليها أمر الناس وأصبحت مضرب المثل في البلاغة والفصاحة والبيان.
ودونك جمهرة خطب العرب.. ونهج البلاغة.. والبيان والتبيين وقد جمع في الجاحظ أجمل الخطب وأبدعها، وأفصحها وأبينها، وأوجزها وأقصرها.
بل هاك خطب رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ولعل أشهرها خطبة الوداع وهي التي جمعت أحكام الدين، وقضايا الإسلام الكبرى، ووصايا الرسول الكريم في الحرمات .. والنساء.. وعلاقات الناس وتفاضلهم.. وفي العقيدة .. والتوحيد.. والميراث.. ثم لم تبلغ مع ذلك كله تمام  الصفحات الثلاث.  
وهاك أيضا خطب الخلفاء الراشدين الهاديين المهديين من بعده. فأين نحن من هذا كله ؟
اقرأ معي إن شئت خطبة أبي بكر رضي الله عنه حينما ولي الخلافة:
"أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم, فإن رأيتموني على حق فأعينوني, وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني, أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم, ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى  آخذ الحق له, وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه, أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم" .
    واقرأ معي تلك الخطبة الرائعة الموجزة التي خطبها أبو طالب يوم عقد قران ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها:
 "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس. وإن محمد بن عبد الله، ابن أخي، لا يوازن به فتىً من قريش إلا رجح به، بركة وفضلاً وعدلاً، ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال مقلاً، فإن المال عارية مسترجعة، وظل زائل، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أردتم من الصداق فعليَّ."
    تجد بلاغة في القول، وإيجازا في الكلم، وسموا في البيان. مع ما اشتملت عليه الخطبة من ثناء جليّ، وفخر عليّ، وحكمة بالغة، وعرض لأهم قضايا عقد النكاح من مهر وإيجاب وقبول.
إنها الفصاحة في أبهى صورها! وهي لعمري تذكر بتلك العبارة الجامعة التي قالها شُبة بن عقال التميمي للخليفة المنصور تعليقا على خطبة سمعها في مجلسه: "لله درّ خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين:ما أفصح لسانه، وأحسن بيانه، وأمضى جنانه، وأبلّ ريقه، وأسهل طريقه!"
إن الخطابة فن وعلم، موهبة واكتساب، سليقة ومهارة. وإن لها أصولا ينبغي أن تتبع، وشروطا يجب أن تتوفر، ولعل خير من أوجز تلك الأصول الجاحظ فيما نقله في بيانه وتبيينه عن  أبي داود بن حريز حيث قال: " رأس الخَطابة الطبْع، وعَمُودُها الدُّربة، وجناحاها رواية الكلام، وحَلْيُها الإعراب، وبهاؤُها تَخيُّر الألفاظ، والمحبَّة مقرونةٌ بقلّة الاستكراه" .
على أن أسوأ ما منيت به الخطابة في أيامنا هذه كثرة اللحن، واللحن قبيح مستنكر حتى لو جاء عرَضا، فكيف إذا فشا وانتشر؟! إنه يحيل الخطبة إلى ضرب من العقوبة يستعجل السامع انقضاءها، ويتنفس الصعداء عند انتهائها! فقل لي بربك أليس عدمها خيرا منها ومن تتبع أخطائها؟!
إن الخطيب الحق هو الذي يأسر سامعه بسلامة لغته.. وعلو بيانه.. وجمال أدائه.. وتناغم صوته مع مضمون كلامه.. يعلو فيه ويجهر في مواضع الإنذار والوعيد حتى كأنه هدير الفحل..أو هزير الريح.. أو هزيم الرعد. ويلين في مواضع اللين والتبشير حتى يمتزج بأجزاء النفس لطافةً.. وبالهواء رقّةً.. وبالماء عذوبةً.. وبالطيب أريجاً..وبالنغم إيقاعاً وجرساً.
ولعمر الله إن من كانت هذه صفاته لتهفو إليه النفوس، وتشتاقه الأرواح، وتشنف بسماعه الآذان، وتسعى إليه المنابر ولسان حالها يردد:
                         شرح المنبر صدرا         لتـلـقّـيـك رحـيـبا
أترى ضَمّ خطيبا         منك أم ضُمِخَ طيبا؟