اللغة العربية والعولمة
أ.د. ضياء خضير الشريباجي
ليس الدافع وراء حديثنا عن لغتنا العربية هو المشاعر القومية المجردة التي اعتادت أن ترى في اللغة صورة للوجود الإنساني الأكثر تعبيرا عن الذات والتراث والخصوصية القومية، وانما أيضا لمعرفتنا بأن اللغة بشكلها السيموطيقي الأكثر شمولا واتساعا تلعب دورا أساسيا في الصراع الحضاري الذي يجبرنا عصر العولمة على الانخراط فيه على نحو أكبر و أكثر خطورة من أي وقت مضى. و السيموطيقا هي علم الإشارات التي تتجاوز اللغة المنطوقة أو المكتوبة لتؤلف أنظمة العلاقات الاجتماعية والدينية والأبنية الاقتصادية والثقافية القائمة. فنحن نعرف أن القهر و أشكال التجاوز التاريخي الذي تعرضت وتتعرض له منطقتنا العربية لا يقف عند حدود المظاهر العسكرية و الاقتصادية والإعلامية الضاغطة في كل هذه الحقول، بل يتعداه إلى محاولة (الاستملاك اللغوي ) و زحزحة الكتلة التاريخية للثقافة والوجود القومي الذي مثّلت لغتنا العربية فيه أقوى القلاع التاريخية للدفاع عن الذات
والشخصية الوطنية. وما تلعبه الآن بعض اللغات كالإنجليزية ، من دور خطير في تطبيع الغزو وتوفير الأرضية للانتهاك الثقافي الذي يمارس ضدنا، يعمل على طمس الهوية، و تحويل بعض الناس في أجزاء كثيرة من الوطن العربي وخارجه إلى غرباء أو ( غرفة أصداء ) تغذّي أصحابها الرغبة في العيش بأسلوب حياة الآخرين ، وليس استخدام ألسنتهم فقط .
و قد يكون من نافل القول أن نذكر أن الحرص على تعلم اللغات الأخرى التي أصبحت ضرورة من ضرورات الحياة في هذا العصر، لا يتعارض بالضرورة مع هدف الحفاظ على الذات و الشخصية الوطنية والقومية، اللهم إلاّ في الحالات التي يتحول فيها هذا الحرص إلى رغبة مطلقة في التقليد والمحاكاة. غير أن الخطورة تبقى قائمة مع ذلك حينما يكون الاهتمام باللغة الأخرى قد جاء على حساب اللغة القومية.
وعلى الرغم من أن أحدا لا يستطيع أن يتحدث عن واقع اللغة العربية في عصر العولمة كما يتحدث عن لغات أخرى تُركت أونُحيت عن التداول، أو جرى تهميشها لأسباب مختلفة، منها عدم قدرة هذه اللغات على التعامل مع المصطلحات العلمية والحضارية أو عجزها عن مساوقة لغة الحاسوب، فان لغتنا ليست بمنأى عن مثل هذه المخاطر.
صحيح أنها اللغة التي انتشرت انتشارا كونيا بعد أن نزل بها القرآن الكريم، وتكلمت بها شعوب كثيرة في مشارق الأرض و مغاربها، ولكن ذلك لا يمنع من القول، مع بعض الدارسين، إنه بسبب هذا الانتشار، ربما، لا يوجد للغتنا العربية أب يرعاها، و لا توجد جهة رسمية واسعة ومهمّة تأخذ على عاتقها معالجة المشكلات العلمية الضخمة التي تواجهها هذه اللغة للحفاظ على شخصيتها و استمرارها في مواجهة التحديات التي يطرحها الواقع اللغوي الجديد في عصر العولمة. و ليس لدينا في كليّاتنا وأقسام اللغة العربية فيها، مثلا، استراتيجية عربية واضحة فيما يتصل بالترجمة واستخدام المعجم العربي والتعامل مع الحاسوب والإنترنت. وقد ظلت وسائل المجامع اللغوية العربية عتيقة و محدودة و معزولة عن واقع التطور والاستخدام الحي للغة على الرغم من كل انجازاتها في هذا المجال. وظل وعي الجامعات العربية وأكثر كليات الآداب والعلوم الإنسانية فيها، ضعيفا بأهمية الطفرة الإعلامية التي تحققت في حقول التخطيط لعصر المعلومات الخاص بتصميم الحواسيب و أنظمتها و برامجها و طرق تشغيلها و تطويع تقنياتها، وغير ذلك من أمور من شأنها تمكين لغتنا من الانفتاح على عالم جديد تتحكم فيه الصناعة الإلكترونية المرتبطة بالمعلومات. وهي أمور تتعدى بطبيعة الحال مواقف الحماس والحميّة القومية والنوايا الطيبة، من أجل الاعتراف بوقائع موضوعية شائكة تحتاج إلى فهم عملي لما يجري في الساحة الإعلامية واللغوية، وما يطرحة كل ذلك من ضرورات خاصة بمعالجة الكلم العربي وفق النظم الآلية المتوفرة. و هي نظم تفرض على اللغة، أية لغة، انضباطا و اكتمالا يتعذر دونهما إخضاع اللغة لمنطق الآلة وحسمها الرياضي القاطع من أجل (تأهيلها) للدخول في صندوق العجائب الجديد المسمى بـ (الحاسوب) وماتتطلبه شبكات الإتصال (الإنترنت).
و قد أثبتت بعض التجارب الرائدة التي قام بها بعض الأفراد والمؤسسات الخاصة و الشركات التجارية مثل مجموعة (صخر) العالمية خطأ كثير من المفاهيم الخاصة بالعلاقة الصعبة بين اللغة العربية والحاسوب عن طريق إبرازها للخصائص التي تؤهل اللغة العربية، كغيرها من اللغات الحية في عصرنا، للتعامل بكفاءة مع هذا الحاسوب، حتى إذا كان ذلك قد تم عن طريق الاستفادة من تجارب أجنبية متصلة بالتعامل مع ما يسمى الآن بـ (اللغات الطبيعية). و هو التعبير الذي اختارته شركات صناعة الحاسوب العالمية للتعبير عن الحاجة إلى تأهيل بعض اللغات لتصبح منفتحة للتعامل مع أنظمة أخرى مشابهة عبر النظام أو المنطق الخاص بكل لغة. وهناك من يتحدث الآن عن (كمبيوتر عربي) لا يقتصر عمله على(تعريب) البرامج، وإنما يمتدّ إلى خلق برامج عربية مماثلة تجعل الحاسوب يتكلم اللغة العربية و يفهمها مثلما يفعل مع بعض اللغات المكتوبة بحروف لاتينية.
و مع أن الإنجازات التي تحققت على هذا الطريق حتى الآن ليست قليلة، فيجب الاعتراف بأننا ما زلنا في بداية الطريق. والمهم في كل ذلك هو أن عصر العولمة الذي يتكلم اللغة الإنكليزية بشكل أساسي داخل الإنترنت والحاسوب و شبكات الإعلام، لايستطيع ولا ينبغي له أن يدفعنا إلى استبدال ألسنتنا العربية بأخرى إنكليزية أو فرنسية أو بأية لغة أخرى مهما تكن معرفتنا بها كبيرة. فالأمر لا يتعلق بأداة وظيفية محايدة و موضوعية، كما يقال لنا أحيانا، بل برمز من رموز الشخصية وعلامة من علامات الهوية، والوجود القومي الممتدّ عبر العصور .
والأمر لا يقتصر في لغتنا على هذا النوع من الصعوبات الخارجية التي خلقها ويخلقها الصراع مع لغات أخرى مهيمنة، وإنما يتعدّاه إلى صعوبات أخرى داخلية تصدر عن طبيعة نوع الخطاب اللغوي نفسه.
الإنسان كائن ناطق ، يفكر بشكل منطقي، وله القدرة على تحويل الفكر إلى لغة وكلام، أو " نقل حقيقة الوجود إلى اللغة " بحسب عبارة هيدجر. غير أن هذه الحقيقة لا تقتصر عند الإنسان الناطق على مجرد الإبلاغ والإيصال وكشف المعنى والتعبير عن الرأى، وإنما تتعداهما إلى تجربة يعجز العقل المنطقي بوسائله المعروفة عن نقلها. ولذلك فهو يلجأ إلى الرمز والصورة وتوظيف بلا غة اللغة والاستعارة من أجل الوصول إلى هدفه. وفي حالات من هذا النوع لا تتحدد علاقة متكلّم من هذا النوع باللغة على النحو البرهاني ذي الطبيعة الحسابية أو المنطقية المعروفة، بل على نحو آخر تصبح اللغة معه بيت الوجود ومقطن الذات . وهو ما دفع الفيلسوف الألماني هيدجر إلى القول بأننا لسنا نحن الذين نلعب بالكلمات، بل إن كينونة اللغة هي التي تلعب بنا.
وذلك يحتّم علينا أن نحسن الإنصات إلى كينونة هذه اللغة. إذ لا يستقيم الكلام بدون إنصات ، ومن لا يحسن الإنصات إلى كينونة اللغة، ولاسيما الأدبية منها، لا يحسن الكلام أو القول.
|
|
|