لغتنا الأم العربية الفصيحة
أ. د. محمود أحمد السيّد
اللغة الأم هي هوية المرء، وهوية الأمة التي ينتسب إليها، وهي محور المنظومة الثقافية المتجذرة والأصيلة بلا منازع، وإذا ما فقد أي شعب لغته الأم فإن ذلك سوف يؤدي لا محالة إلى طمس ذاتيته الثقافية, وفقدانه هويته المميزة لأن اللغة جنسية من لا جنسية له، إنها وطن، ومن فقد لغته فقد وطنه.
ومفهوم الهوية وثيق الصلة دائمًا بأصل الشخص وجذوره، وبالوشائج التي تربطه بالآخرين. وتتكون هويته الشخصية والاجتماعية والثقافية من خلال الانتماء والارتباط بالآخرين عبر سيرورة دينامية مستمرة، أداتها في ذلك مختلف العناصر الثقافية والحضارية، معارفَ ومعتقداتٍ وأخلاقًا وأعرافًا وعادات، التي يكتسبها الطفل من خلال التنشئة الاجتماعية التي تؤدي فيها اللغة الأم دور الناقل والحامل في الوقت نفسه، فهي معين ثقافته وأداة تفكيره.
وتعد اللغة العربية الفصيحة لغتنا الأم لأنها توحّد بين أبناء الأمة، شأنها في ذلك شأنُ الأم التي توحِّد بين أبنائها، وتحنو عليهم، وتشملهم برعايتها وعنايتها حبًا وعطفًا واهتمامًا.
وليست لغتنا العربية الفصيحة مقتصرة على أنها أداة تفكير وتأمل، ووسيلتنا للتعبير عن مشاعرنا وعواطفنا وأفكارنا، وسبيلنا للتفاهم والتواصل مع أبناء مجتمعنا، وإنما هي إضافةً إلى ذلك جامعة شملنا، وحَّدت بين العرب في مواضي الحقب بطريق القرآن الكريم، وما تزال هي أساس قوميتنا، والرابطة التي تجمع بين أبناء أمتنا، توحد بينهم فكرًا ونزوعًا وأداءً ورؤى ومشاعر وآلامًا وآمالاً، تاريخًا وحاضرًا ومستقبلاً.
إنها ذاكرة الأمة ومستودع تراثها، وجسرها للعبور من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل، وهي قلعتنا الحصينة للذود عن هويتنا وذاتيتنا الثقافية، ووحدتنا القومية، وإن في إهمالنا لها اجتثاثًا لشخصيتنا من مسارها التاريخي ومن ثقافة مجتمعنا، فتغدو هذه الشخصية دون هوية، ويضيع طابعها، وتمَّحي ملامحها.
إن الهوية تتضمن الانتماء، إذ إن الحاجة إلى الهوية لا تنفصل عن حاجة الإنسان إلى الانتماء، فالانتماء صفة أصيلة للهوية، ذلك لأن الانتماء الصريح يبرز الهوية الكامنة في النفوس، وإذا تلاشت الهوية تلاشى الانتماء.
وهويتنا العربية هي انتماء إلى لغتنا العربية وشعبنا العربي وتاريخنا العربي وأرضنا العربية وقرآننا العربي، فهي تبرز من خلال مستويات معينة، ويبقى للغة الأم الدور الأكبر في حمل الهوية وتبيان طابعها.
ولقد أسهمت لغتنا العربية في مسيرة الحضارة البشرية أيما إسهام، فكانت لغة العلم والثقافة، وطوَّعت الثقافات القديمة لها، ثم أبدعت وابتكرت، وقدَّمت خلاصة تجاربها إلى أوربا في مختلف ميادين المعرفة.
ولما كانت اللغة الأم هي وسيلة الطفل لاكتساب القيم والاتجاهات والمبادئ التي يتشربها من ذويه ومجتمعه لتشكل شخصيته، وتتحكم في سلوكه عبر التنشئة الاجتماعية، كان الحفاظ عليها بالممارسة والاستعمال الدقيق والسليم والواضح أداة للتعبير الثقافي والتواصل الحضاري أمرًا في غاية الأهمية.
ومن هنا كنا مدعوين جميعًا للوقوف أمام التحديات التي تواجه لغتنا الأم، متمثلة في العامية المستشرية التي تفرّق بين أبناء الأمة، لا بل إنها تفرّق بين أبناء القطر الواحد، وفي هيمنة اللغات الأجنبية واستعمالها على حساب لغتنا الأم، وهذا الأمر يؤدي إلى تهميش العربية الفصيحة وتقهقرها، وفي التقهقر الاندثار والزوال.
ولا يعني الحفاظ على لغتنا الأم وثقافتها التقوقع وعدم الانفتاح على لغات أخرى واكتساب ثقافتها، وتَعَرُّف إسهاماتها في مسيرة الحضارة البشرية، لأن في هذا الانفتاح وذلك التعرف إغناءً لثقافتنا دون أن يعني ذلك التفريط باللغة الأم، وإنما يعني الانفتاح الإيجابي، فالهوية العربية تتغذى من الموروث الثقافي العميق الجذور والممتد في تاريخنا العربي، كما تتغذى بمختلف الإسهامات الثقافية الأخرى التي تفرضها طبيعة العصر، والعمل على استيعابها وتمثلها، وإعادة صياغتها بما يتلاءم مع ثقافتنا العربية الأم صياغة تتمثل فيها أصالة الأمة من جهة، والإطلالة على المستقبل الرحب من جهة أخرى، نظرًا للدور الذي يمكن أن تؤديه اللغة الأم في التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمع من طرف، وصياغة ملامحه وهويته وتماسكه من طرف آخر.
وإذا كانت المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» تدعو جميع الدول الأعضاء فيها إلى الاحتفال باليوم الدولي للغة الأم في 21 شباط من كل عام، فإن ذلك يجيء من أهمية اللغة الأم من حيث إنها مقوم أساسي لهوية الأفراد والجماعات، وعامل هام في تحقيق التنمية المستدامة لأنها السبيل إلى مكافحة الأمية، وتحقيق غايات التربية للجميع صغارًا وكبارًا، والتنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
ولما كانت لغتنا الأم هي العربية الفصيحة التي وحّدت بين أبناء الأمة ماضيًا، وتوحّد بينهم حاضرًا ومستقبلاً، كان الحفاظ عليها واجبًا على كل فرد من أبناء الأمة، إذ ليس ثمة أقسى من أن يكون الابن عاقًّا تجاه أمه التي تمده بالدفء والحنان، فتوقظ مشاعره واهتماماته الحسية والحركية، لأن اللغة الممزوجة بعطف الأم وحنانها ودفئها تشعر الطفل بالامتلاء الوجودي، والتفاؤل بالحياة التي بدأ الانخراط فيها.
وانطلاقًا من المرحلة المبكرة من حياة الطفل التي تُبنى فيها شخصيته، وتتكون فيها قيمه واتجاهاته، بفضل ما يتمتع به من مرونة وقابلية للتشكل، يكون للوسط اللغوي المفعم بالمحبة والرعاية والمتسم بالوضوح والدقة في استعمال الألفاظ والتراكيب اللغوية، وتسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة دور كبير في تحقيق تواصل وتفاعل جيدين.
وليست اللغة وسيلة للتعبير والتواصل فحسب، وإنما هي وعاء للفكر والثقافة، وبها يُدمج الفرد في ثقافة مجتمعه، إنها أداة تفكير وتأمل، فالإنسان يفكر لتنقل الرموز اللفظية أفكاره إلى الآخرين، فإذا لم يستوعب رموز لغته ودلالاتها الخاصة لم يستطع الاستجابة لكل الظواهر الاجتماعية والطبيعية التي تحيط به.
وبوساطة اللغة الأم يفهم المرء نفسه وذاته وعالمه، ولا يمكنه الاستغناء عنها إن في التعبير عن المشاعر والآراء، وإن في مناجاة النفس، ووصف الأشياء والأحداث المحيطة به، وإن في التفاهم والتواصل مع الآخرين.
ومن الملاحظ أن الطفل الذي ينشأ في أحضان لغة سليمة، وينهل من معينها الثر معرفته وقيمه واتجاهاته التي تشكل شخصيته ومقوماته الفكرية والوجدانية والثقافية، تتكون لديه قناعة تامة بقيمة لغته ومكانتها بين اللغات العالمية الأخرى، مما يجعله يعتز بها، ويحافظ عليها بالممارسة والاستعمال المناسب أداة للتعبير الثقافي والتواصل الحضاري.
إلا أن هذه المحافظة على لغتنا الأم لا تعني التقوقع وعدم الانفتاح على الثقافات الأخرى ولغاتها، وإنما تعني اكتساب اللغات الأجنبية إغناء لثقافتنا، كما سبقت الإشارة من قبل، وفي تراثنا العربي دعوة لاكتساب اللغات الأجنبية، إذ إن شاعرنا العربي يقول:
وتلك له عند الشدائدِ أعوانُ
بقدر لغاتِ المرء يكثُرُ نفعُه
ج
فكلُّ لسانٍ بالحقيقةِ إنسانُ
فبادرْ إلى حفظِ اللغاتِ مسارعًا
إلا أن هذه الدعوة إلى اكتساب اللغات الأجنبية ينبغي لها ألا تكون على حساب لغتنا الأم العربية الفصيحة، التي تعد أساس قوميتنا وذاكرة أمتنا ومستودع تراثها، وعنوان شخصيتنا العربية وذاتيتنا الثقافية، وهي تتسم بسمات متعددة تتمثل في الدقة في التعبير، وفي الإيجاز والإعراب والغنى في الاشتقاق، والمرونة في مواكبة مستجدات العصر، والاستجابة لمقتضياته.
ولا يمكننا أن ننسى أن لغتنا الأم تواجه تحديات كبيرة على الصعيدين الخارجي والداخلي، فعلى الصعيد الخارجي وفي ظلال الهيمنة، تهيمن الثقافة ذات القطب الواحد ولغتها الإنكليزية على الصعيد العالمي على أن الإنكليزية هي لغة العلم والعمل والتواصل على جميع الصعد، بدءًا من النشر العلمي وتبادل الخبرات التقانية «التكنولوجية»، ومرورًا بالتعليم العالي والتجارة والصناعة وغيرها وصولاً إلى التعليم الأساسي ورياض الأطفال.
وهذا يعني ضمور اللغة العربية، واستعمالها في مجالات تقليدية محددة، وقد يزداد دور اللهجات العامية في تأثيرها في الفصيحة، وتلقى هذه اللهجات تشجيعًا لبحوثها على الصعيد العالمي وتعليمًا لها بدلاً من العربية الفصيحة، إضافة إلى المحاولات الحثيثة لتهميش العربية في المحافل الدولية استنادًا إلى ذرائع مختلفة وحجج واهية.
ومن التحديات أيضًا على الصعيد الخارجي ضآلة نسبة ما يُنشر باللغة العربية على الشابكة «الإنترنت» إذ إن أغلب صفحات المواقع المتوفرة على الشبكة الدولية «الويب» مكتوب بالإنكليزية. وثمة نقص رقمي على الشابكة «الإنترنت» بالعربية، إضافة إلى عدم اعتماد مواصفات محارف اللغة العربية مما يسبب الكثير من الإشكالات.
أما التحديات الداخلية التي تواجهها لغتنا الأم فتتمثل في الأمية، إذ إن في وطننا العربي ما يقرب من مئة مليون أمي، ونحن في العقد الأول من الألفية الثالثة، ومعظمهم من النساء، مما يؤثر سلبًا في مسيرة التنمية، ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي إذ يقول:
رضع الرجالُ جهالةً وخمولا
وإذا النساءُ نشأْنَ في أميةٍ
ج
وإلى جانب الأمية هناك البيئة الملوثة لغويًّا بأخطاء لغوية ولهجات عامية مستشرية، وكلمات أجنبية تحيط بك من كل جانب، وهناك ضبابية في تمثل أهداف تعليم اللغة وتعلمها، وذلك في أذهان القائمين على تعليم اللغة وتعلمها، وبُعد في اللغة المختارة في المناهج عن الحياة النابضة الزاخرة، وتخلّف في طرائق تعليم اللغة وتعلمها، وإخفاق في غرس الشغف بالقراءة، ومحبتها في نفوس المتعلمين، وإخفاق في إكساب المتعلمين مهارات التعلم الذاتي، وقلة ما يُترجم من الأجنبية إلى العربية، ومن العربية إلى غيرها، وقلة البحوث العلمية التي تعالج مشكلات اللغة بالأساليب العلمية، وفتور في الانتماء والوعي اللغوي على نطاق الساحة القومية.
إن هذه التحديات التي تواجهها لغتنا الأم على الصعيدين الداخلي والخارجي، تتطلب منا وضع الخطط والسياسات اللغوية الرامية إلى العناية بلغتنا والمحافظة عليها، وإتقان مهاراتها، والارتقاء بها.
ولقد كانت سورية سبَّاقة على نطاق الساحة العربية في مجال التعريب، وكانت سبَّاقة في افتتاح مجمع يُعنى باللغة العربية، إذ إن مجمع اللغة العربية في سورية يعد أبا المجامع اللغوية العربية، فقد كان افتتاحه عام 1919 باسم المجمع العلمي العربي.
وها هي ذي الآن سورية تضع خطة عمل وطنية للتمكين للغة العربية بقرار جمهوري من السيّد الرئيس بشار الأسد، وتعمل على تنفيذ بنود هذه الخطة، ويعد مجمع اللغة العربية بدمشق المرجعية العليا في كل ما يتعلق بشؤون لغتنا الأم العربية الفصيحة.
|
|
|