اللغة العربيّة ومكافحة الفشل بالمدارس الأوروبّيّة
أ. شكري الميموني
ذهب الكثير من الفرنسيّين إلى أنّ تعلّم لغة المدرسة، أيّ اللغة الفرنسيّة، هو الحلّ الوحيد الذي لا مفرّ منه لنجاح الأطفال معتمدين في ذلك على مثل قديم يعود إلى القرون الوسطى، لمّا كانت العلوم كلّها في ظلّ الكنيسة، والّذي يمكن تلخيصه في أنّ الغة الفرنسيّة هي المصعد الإجتماعي الوحيد لمن أمل إلى مناصب راقية. ولذلك اعتُبر عدم إتقان اللّغة الفرنسيّة عذرا رئيسيّا للرّسوب في المدارس الإبتدائيّة ومن ثمّة يُمنع الطّفل من مزاولة تعليمه. وهذا العامل يمسّ أبناء المهاجرين بصفة خاصّة، بعض أولائك الذين ما استطاعوا التّأقلُم مع المدرسة أو بالأحرى ما استطاعت المدرسة إدماجهم. ودفاعا عن ذلك صرّح العديد من المسؤولين، منهم المختصّين وغير المختصّين، بأنّ البرامج التربويّة محكمة، لا خلل فيها، وأنّ الإشكال خارج عن هذا.
حتّى وإن ما كانت هنالك مشاكل لأبناء المهاجرين في إتقان الفرنسيّة فإنّ المدافعين عن هذا الرّأي يركّزون على اللّغة كلُغة بمعنى أنّهم يسلّطون الضّوء على جانبها التّركيبي والنّحوي والمعنوي فقط. وهذه النّظريّة العائدة مباشرة إلى فردينند دي سوسير تطرح إشكالا متمثّلا في أنّ المتكلّم والمصغي إليه أُرجعا إلى أداة للتّواصل. الشّيء الذي لا يتّفق مع المختصّين في هذا المجال لأنّه لا يمكن تجاهل الهويّة الثقافيّة للمتكلّم.
وخلاصة ذلك أنّ حصر اللّغة في مفهوم التّواصل فقط يُفقر مصطلح اللّغة خاصّيته الأولى وهي أنّها جزء لا يتجزّأ من هويّة الإنسان. والسّبب عائد إلى التّركيز على أنّ اللّغة أداة ككلّ الأدوات يمكن التّصرّف فيها متناسين في ذلك أنّها تقرّب بين شخصَين لهما تاريخ وثقافة ودين… ولذلك لا يليق بنا النّظر إلى اللّغة من منظار واحد.
وانطلاقا ممّا سبق ذكره، تُفتح لنا ثغرة أولى لمكافحة الرّسوب والفشل بالمدارس : المشكل الرّئيسي الذي يطرح نفسه على أبناء المهاجرين بصفة عامّة وعلى بعض الفرنسيّين أنفسهم، مثل البريطانيّين، سكّان شمال غرب فرنسا، يكمن في المرور من لغة الكلام إلى لغة الكتابة، عند سنّ السادسة تقريبا، حيث يقف المُدرّس مذهولا أمام سهولة الكلام والتّواصل مع صعوبة تعلّم الكتابة وحتّى استحالتها عند بعض الأطفال. ثمّ يذهب متسائلا عمّا يجب فعله للقضاء على هذه الظّاهرة، باحثا عن حلّ للأزمة التي يعيشها.
وفي هذا الحال يجب الخروج من النطاق الضّيّق الذي تفرضه قواعد الألسنيّة الحديثة آخذين بعين الإعتبار كلّ الخصائص التي لها تأثير وقعي على هؤلاء الأطفال لا سيما اللّغة الأصليّة، العربيّة لأبناء العرب، ولغة المجتمع الذي يعيشون فيه. ونقول بما أنّه ليس ثمّت أيّة نزاعات بين اللّغة الأولى، اللّغة الأصليّة، واللّغة الثانية، لغة المجتمع، فإنّ تعلّم لغة المجتمع مع المحافظة على لغة الآباء والأجداد ليس إلّا إثراء ثقافيا على مثل ما هو عليه للأنجليز الّذين يعيشون بالجهة الفرنسيّة للكندا : فاللّغة الفرنسيّة والتي هي لغة المدرسة والتّعليم لا تمثّل عائقا أمام الآنجليزيّة، اللّغة الأصليّة لأبناء تلك المنطقة. وفي حال تجاهل اللّغة الأصليّة ومنه تجاهل ثقافة الآخر فالمآل هو وضع هؤلاء الأطفال على حافة الطّريق ودفعهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى الفشل المدرسي ناهيك وأنّ التمكّن من اللّغة وإدراك تراكيبها ما تزال غير مكتملة في سنّ السادسة.
ومن هنا نعتقد أنّه لا مفرّ من التفكير في بيداغوجيّة جديدة تشجّع على المحافظة على أكثر من لغة إذا ما علمنا علما راسخا أنّ أولائك الأطفال هم مستقبل البلد الذي يعيشون فيه وعموده الفقري، شئنا أم أبينا.
وفي نطاق آخر، هناك أيضا من يتساءل عمّا إذا وجب التمكن من اللّغة الأم، اللّغة الأولى، للتمكن من اللّغة الثانية، لغة المدرسة والمجتمع؟ نقول بأنّ المجتمع الحديث أوجب بصفة عامّة ربط النجاح في الحياة الإجتماعية بالنّجاح في المدرسة. الشيء الذي يجعل من المدرسة الباب الوحيد لطموحات الشباب والأطفال. وهذا ما أدّى بمرشدي المدارس والمسؤولين إلى التّأثير على مستقبل بعض الأطفال بتوجيههم إلى شُعب مهنيّة لتعلّم صنعة ما، غير مبالين في كثير من الأحيان بآراء الأولياء. وهذه ظاهرة تخصّ أبناء المهاجرين. ومن حسن حظّ هؤلاء أنّ القضيّة لم تترك سدى. وبما أنّ الطفل الراسب في الإمتحانات يُنصح بالتّوجّه إلى عالم النفس وإلى مقوّمي اللّغة (orthophoniste) فإنّ دور هؤلاء كان إيجابيّا في محاربة أفكار أولائك الذين يرون الرّسوب على أنّه مرض عُضال في مجتمع استوجب توجّه كلّ الأطفال إلى المدرسة. ومعاناة أبناء الهجرة أكثر فأكثر هي نتبجة ذلك كلّه حيث اتّهموا بخيانة طموحات الأسرة من ناحية و قبلوا التّوجه إلى شُعب لم يختاروها كرها. ومن هنا اضمحلّ دور العائلة شيئا فشيئا ولم تعد لها المكانة الأولى للتّربية.
وهناك نقطة أخرى وجب أخذها بعين الإعتبار وهي التي تتمثّل في طموحات الشركات الدوليّة والخاصّة إلى اقتحام الأسواق العالميّة والتي أدّت إلى التّأكيد على الجانب التقني أكثر منه الأدبي. وأصبح تعلّم اللّغات حالة ثانوية لا أهمّية لها. إلّا أننا نعلم جميعا أنّ تعلّم لغة الآخر والتّطلّع إلى ثقافته وتاريخه يساهم بطريقة فعّالة في تحقيق الطّموحات السّابق ذكرها. وبالإضافة إلى ذلك صار الوقت المخصّص للمدرسة أوسع بكثير من ذاك الذي يواصل فيه الطفل تعلّمه بالبيت. الشيء الذي أدّى إلى أنّ الأطفال يقضّون أكثر أوقاتهم خارج البيت وكأنّ التطوّر والتقدّم شنّا حربا عاتية على الأسرة. ومن هنا أصبحت المدرسة وكأنّها تصنع بدورها شبابا لمجال التصنيع لا أكثر وتجاهلت دورها الأوّل في مساعدة الأطفال على الإندماج في المجتمع. وحتّى ما إذا نظرنا إلى النّجباء من بين الأطفال فكأنّ نظرتهم للمستقبل تغيّرت وأصبح الشّاب لا يرى في طموحاته سوى عوائق متتالية ولا متناهية. فهل يُعقل تعريف النجاح وتحقيق الطموحات بهذا الشكل خصوصا وأنّ مآل البشرية جمعاء معروف لا مفرّ مفرّ منه.
كلّ ما ذكرناه يمسّ بدرجة أولى أبناء الهجرة المغاربيّة نظرا لعلاقة دول المغرب العربي بفرنسا. فأبناء تلك الهجرة يكونون منبسطين في المدرسة إذا كان كلّ المناخ ملائما ومناسبا لذلك. وأبناء الجاليات الجزائريّة، على سبيل المثال، يمكن أن تكون لهم وجهتي نظر مختلفتين تماما : نظرة ايجابيّة للعلاقة بين الجزائر وفرنسا، وبالتالي نظرة ايجابيّة لوجود أهله بفرنسا، تمكّن الطفل من تأقلم «عادي» في المجتمع الذي يعيش فيه. ونظرة أخرى يستمدّها من وقع سلبيّات وجود أهله ببلد الإقامة والظروف التي آلت إلى ذلك. وآذا فكّر البعض في أنّ اللّغة الفرنسيّة هي لغة الآخر، فإنّ الطفل يميل دوما إلى رأي أسرته وبالتالي تصبح المدرسة قلعة الثقافة الأخرى، ثقافة الآخر. وعدم الإهتمام بالبرامج التعليمية يكون غالبا نتيجة ذلك ويصبح الطفل في حالتين : إمّا أن ينغلق على نفسه وإمّا أن يكون مّخلّا بالقوانين المدرسيّة.
والدّواء لهذا الدّاء يجب استقصاؤه من خارج الحدود المدرسيّة.
١ - لغة الأمّ وتكوين الشخصيّة : منذ الأيّام الأولى من التكوين في بطن الأمّ، يكون الإنسان في حياة تكاملية مع أمّه. وإلى جانب الأكل ولوازم النموّ، فالأمّ هي المصدر الأوّل لأسس ثقافته وشخصيّته عبر العلاقة المألوفة بين الأمّ وابنها. وبعد الولادة يستكمل المولود من أمه كل ما يستلزمه في تكوين طاقته الفكريّة، بطريقة مباشرة أو غبر مباشرة. وقد أثبتت التجارب العلميه الحديثة أنّ المولود الجديد بإمكانه معرفة صوت أمّه ولغتها. الشيء الذي يؤكّد على الأخذ بجدّيّة بهذه النقطة في تكوين الفكر وبعث أسسه.
٢- تعدّد اللغات والهويّة : إنّ وضع أبناء الهجرة يختلف تماما عن وضع أولائك الذين لهم لغة واحدة كالفرنسيّة مثلا. فإلى جانب لغتهم وثقافتهم الأمّ (العربيّة) وجب عليهم التّأقلم مع لغة بلد الضيافة ويصير الجذب والرّدّ بين اللغة العربية واللغة الفرنسية موقع جدال في كل يوم وفي كل لحظة. وتصبح المحافظة على لغته مع واجب التأقلم عنصرا من شخصيّته وهويّته. وهذا لا يخصّ العرب فقط وإنّما نلاحظه في عائلات فرنسيّة متشبّثة بلهجاتها على مثل البريطانيين والبروفنسال الذين عملوا جادّين لإعادة مكانة لهجاتهم إلى جانب اللّغة الفرنسيّة اليوم. الشيء الذي لا يترك وقعا إذا ما نظرنا إلى ثقافتين متماشيتين مع اختلاف اللّغة كما هو الحال على الحدود الفرنسيّة/الألمانيّة. فتعلّم الفرنسيّة هناك لا يأثّر لا على اللّغة الأمّ (الألمانيّة) ولا على الثقافة عند بعض الشبّان. ونلاحظ نفس الشّيء عند أطفال الأنجليز الذين يعيشون في الجهة الفرنسيّة من الكندا. فلا تأثير للفرنسيّة على الآنجليزيّة التي بقيت لغة التعامل خارج المدرسة هناك.
٣- كيفيّة تدارك الأمور : الإحاطة علما بكلّ ما سبق ذكره يساعد المدرّسين على فهم خصائص التلاميذ الموجودين أمامهم وينذّرهم إلى احترام العلاقات بين ثقافات فئات الأطفال ويبعدهم عن الحكم على الطفل في علاقته مع الآخر. والطّفل لن يفتح فكره للتْعلّم إذا ما منحناه احتراما وقيمة في الحاضر والمستقبل.
الخلاصة : حتّى نكون واقعيّين فإنّ الهدف من هذا البحث لا نريد منه التّشكيك في الوظيفة التعليميّة ولا نقد السّياسات المُطبّقة. إنّه من واجب الأبناء تعلّم لغة البلد الذي يعيشون فيه وثقافته. لكن، إلى جانب هذا، ألا يجب على المسؤولين الخروج من المشاكل العرقيّة للنّظر إلى الطّفل كإنسان كامل قبل كلّ شيء، إنسان عاقل، ذو ثقافة ولغة وتاريخ؟ ألا يكمن الحلّ في فتح المجال لتعليم اللّغة الأولى للطّفل، ولو في قبل سنّ السّادسة، وتعليم الفرنسيّة يأتي شيئا فشيئا لتكون فيما بعد لغة التعليم؟ ومن ثمّت ألا تستطيع اللّغة العربيّة التّماشي مع اللّغة الفرنسيّة، تلك اللّغة العربيّة التي استطاعت سابقا المحافظة على الثقافة اليونانيّة واللّاتينيّة؟ ألا يمكن إعطاء اللّغة العربيّة مكانة أكبر من أنّها لغة المستعمَر ولغة البترول؟
|
|
|