خطب عرفات كنموذج للخطاب الدينى الأكثر تأثيرا فى تكوين الوعى وتطوير المجتمع

أ.د. تغريد عبد الله عمران

يعد الخطاب الديني من أهم أنواع الخطاب المتبادل بين البشر في كافة المجتمعات الإنسانية أيًّا كان الدين الذي يتم تناول الخطاب في إطاره؛ وذلك لتأثيره الوجداني على متلقيه، ولدوره في بناء القناعات وإرساء المبادئ، وما يمكن أن يترتب عليه من تغيير في الأفكار والمعتقدات والعادات، فضلًا عن كونه أحد روافد التعليم المستمر، من حيث طبيعته المميزه؛ فهو خطاب معرفي يؤثر في الفكر ويعالج السلوك، يوجه لفئات عديدة من العمر في ذات الوقت، ومع سهولة وسرعة انتشاره في ظل ثورة التكنولوجيا، واستفادته من خصائص مجتمع المعرفه أصبح موضوعًا جديرًا بالدراسة.
     بدأت دوائر الاهتمام بالخطاب الديني الخاص بالمسلمين تتسع في الآونة الأخيرة من قِبَل الساسة والمفكرين والتربويين وعلماء النفس والاجتماع في ظل أزمات الإرهاب التي اجتاحت العالم، وتخطى الاهتمام بذلك حدود الدول الإسلامية ليشمل النظام العالمي بأقطابه، وعلى الرغم من أن الشكوك مازالت تكتنف العديد من أزمات الإرهاب حول المسؤول الأساسي عن تلك الأزمات، وعن حقيقة تورط المسلمين أو الخطاب الإسلامي في هذا الأمر، وعن ادعاء الغرب وتخوفهم من الخطاب الإسلامى المتطرف بما يفرزه من مسلمين متطرفين كما يزعمون، ومع التسليم  بالمنهجيه العلمية في دراسة التاريخ التي تؤكد على أن الوقت المنقضي في تقصي الحقيقة الغائبة كفيل بالكشف عنها مهما طال الأمد، إلا أن الصيحات تعالت تدعو إلى إعادة النظر في محتوى الخطاب الديني الموجه للمسلمين، وفي الصوره التي يوجه بها، وفي نوعية القائمين عليه، وخرجت دعوات من الدول الإسلامية ذاتها تؤكد على أهمية تجديد الخطاب الإسلامى، وعلى ضرورة النظر في محتواه وطرق إلقائه، والاهتمام بإعداد القائمين عليه، نظرًا لارتباطه بقضايا الإصلاح، وقضايا الأمن العقدي، والأمن الفكري.
    وفى هذا الصدد أجرى "أحمد زايد: 2011" دراسة علمية تعتمد في منهجيتها على عمليات تحليل محتوى الخطاب الديني بهدف التعرف على القيم التي تبث من خلاله، وما إذا كانت تحمل قيما تنموية تحث أفراد المجتمع على الإصلاح والبناء، واستعان في ذلك بعينة من خطب المساجد قوامها 466 خطبة، تنقسم إلى 228 خطبة ألقاها كبار الدعاة، ونشروها، فأصبحت مرجعًا لخطباء المساجد، وأخرى تم تسجيلها من المساجد بلغ عددها 238 خطبة، وقد جمعت الخطب في الفترة ما بين نهاية 2007 وحتى يوليو 2009.
    وقد كشفت القراءة الإحصائية لنتائج الدراسة عن غلبة الطابع الأخروي على الخطاب الديني؛ حيث وضعت الخطب الله تعالى والآخرة في الصدارة، أما عن قيم التنمية: فقد أوضحت النتائج أن أكثر القيم تكرارًا القيم الاجتماعية  (حسن المعاملة، التعاون، التسامح، الصداقة، الإيثار ...) وأقلها تكرارًا قيم العمل، وهناك قيم لم يتم التعامل معها مطلقًا مثل: (القدوة، المصلحة العامة ...)، وطرح الباحث رؤية لتجديد الخطاب الديني تقوم على أربعة مستويات: مستوى محتوى الخطاب الديني والرسائل المتضمنه فيه – مستوى الدعاة – مستوى المتلقين للخطاب الديني – مستوى المؤسسات الرسمية ذات العلاقة بالخطاب الديني.
     تعد خطبة عرفات من أهم نماذج الخطاب الديني في المجتمع الإسلامي لما لها من خصوصية تتمتع بها عن سائر الخطب الدينية، فهي توجه مرة كل عام، يوم وقفة عرفات، تلك الوقفة التي تجمع المسلمين في كل بقاع الأرض كنسك من مناسك الحج وكموقف له قداسة خاصة من المنظور الديني على مستوى علاقة المسلم بخالقه، ومن منظور دنيوي على مستوى اجتماع المسلمين في مؤتمر سنوي يجمع كافة أجناس الأرض من المسلمين في مكان محدد "جبل عرفه"، وفي هذه الوقفه تتوجه الأذهان نحو الخطاب الديني وماذا يحمل في طياته من أفكار في مجتمع تتدفق فيه المعرفة عبر وسائط عديدة سمعية وبصرية ومكتوبة بسرعات فائقة، فضلًا عن قدرات تخزين واسترجاع تتميز بالسهولة واليسر دون التقيد بحدود المكان أو الزمان.
    ومن هذا المنطلق تعد خطبة عرفات نموذج مميز للخطاب الديني الذي من الممكن أن يكون مرجعًا لخطباء المساجد في البلدان الإسلامية على مدار العام.وقد تناول العديد من المتخصصين قضية الخطاب الدينى ، ولم تنل خطبة عرفات ذات الاهتمام ،وبناء على ذلك فإن تحليل خطبة عرفات كنموذج للخطاب الديني ، وتعرف: أهم الملامح المميزه لها، القضايا المتناوله في إطارها، الرسائل الموجهة من خلالها، القيم الايمانية المطروحه في سياقها أمر جدير بالدراسة .
      عمليات تحليل الخطاب منهجيه علمية تعتمد على النهج الكيفيي أكثر من اعتمادها على النهج الكمي؛ حيث تركز على فهم السياق واستخلاص أهم أفكاره "المرتكزات الأساسية للخطاب" والتي تمثل النقاط المركزية، والعقد الخطابية، وتحديد ملامح النسق الفكري الحاكم لبنية الخطاب ، بشكل أكبر من التركيز على النسب المئوية والدلالات الرقمية.
    ووفقا لمنهجية تحليل المحتوى ، تم إجراء تحليل محتوى خطبة عرفات باعتبارها  خطاب عالمي سنوي يوجه في هذا اليوم الفضيل وفي هذا الموقف العظيم لجموع المسلمين –حجاجًا وغير حجاج- ولجميع المنشغلين بأمر الإسلام من غير المسلمين يحدد أهم التوجهات السلوكية التي على المسلمين الالتزام بها خلال العام ، ويتناول قضايا حياتهم ومشكلاتهم التى عليهم معالجتها، فضلا عن كونه خطابا يلقى اهتماما من كافة وسائل الاعلام على المستوى العالمى.
واستهدف التحليل تعرف أهم الملامح المميزه  لتلك الخطب ، وما تتناوله من أفكار وقيم ،  والتعرف على ما بها من توجهات فكرية تضيء الطريق للأمة وفق النهج القويم لرب العالمين جل وعلا اتساقًا مع سنة النبي صلي الله عليه وسلم .
وقد سارت عمليات التحليل وفقا لما يلي:
تحديد التوجهات الفكرية المتناولة في إطار الخطب.
التعرف على الموضوعات المتناولة في كل خطبة.
رصد القضايا المعروضة في كل خطبة من الخطب من حيث درجة تأثيرها فى تكوين الوعى وتطوير المجتمع الانسانى .
 
    عينة التحليل : تمثلت عينة التحليل فى تناول عدد من خطب عرفات للشيخ عبد العزيز آل الشيخ خلال الفترة من 1422 هـ وحتى 1429 هـ بلغ عددها خمس خطب.
    كشفت نتائج التحليل لخطب عرفات – باعتبارها خطب شاملة جامعة، تعد بمثابة مرجعية دينية يمكن أن يستقي منها الدعاة مواد تصلح للخطاب الديني لمختلف الفئات العمرية على مدار العام- عن تطور محتوى الخطاب في الخطب عينة التحليل؛ وجاء محتوى الخطاب الخاص بالخطبة الأخيرة أكثر تلمسًا لاحتياجات الواقع المعاش، وقد ساعدت نتائج التحليل الأولية في تحديد عدد من المرتكزات الفكرية أمكن في ضوئها  إجراء عمليات تحليل أكثر عمقًا في محتوى الخطاب، مما أسفر عن تحديد النسق الفكري الحاكم لخطب عرفات، واستخلاص المحاور والموضوعات المرتبطة بها، وجد أنها ذات أهمية في تطوير الحياة والأحياء ، ومن بين توصيات الدراسة ،التأكيد على أهمية التأمل في موقف وقفة عرفة باعتباره بمثابة وقفه لمراجعة النفس لكل مسلم مع نفسه، ولجموع المسلمين مع متطلبات دورهم في الحياة، سواء كانوا بعرفة أو كانوا بعيدًا عن عرفة ، توفير مكتبة الكترونية عبر الانترنت للاستفاده مما ورد في خطب عرفات  تربويا واعلاميا بما يرسخ القيم ويعزز تكوين العقل الواعى وييسر سبل تطوير المجتمع الانسانى .
    المراجع    
1-    أحمد عبد الله زايد: 2011، "قيم التنمية في الخطاب الديني المعاصر" مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، سلسة الاوراق البحثية ، الورقة البحثية رقم (21) ،جمهورية مصر العربية، مجلس الوزراء .
2-    أحمد عبد الله زايد:: 2007، "صور من الخطاب الديني المعاصر" القاهرة، الهيئةالمصرية العامة للكتاب.
3-    احمد عرفات القاضى: 2008، "تجديد الخطاب الدينى " الطبعة الاولى ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
4-      تغريد عمران : 2013، " خطب عرفات كنموذج للخطاب الدينىالأكثر تأثيرا فى تكوين الوعى وتطوير المجتمع  " المؤتمر الدولي الثامن للغة العربية "خطاب التجديد في الدراسات العربية بين النظرية والتطبيق: حالة الحقل" 28-31 -2013-21-24  /شوال 1434هـ  ،جامعة إمام بونجول الإسلامية الحكومية بادانج، إندونيسيا .
5-    رشدى طعيمة: 1998، "تحليل المحتوى في العلوم الإنسانية" القاهرة، دار الفكر.
6-    صالح بن حميد: 2008، "قضية الخطاب الإسلامي" مجلة الدعوة، العدد 2124،  24 ذو الحجة 1428  هـ
7-    عصمت محمود: 2009، "التأسيس الفلسفي لمفهوم الحرية وفق منظور قرآني حول منظومة القيم المتلازمة" مجلة (التنوير) العدد السابع،  أعسطس، مركز التنوير المعرفي، تونس.
8-    محمد اركون: 2005، "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"، ترجمة: "هاشم صالح" بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر.
9-    محمد الفاضل اللافي: 2005، "الخطاب الديني الإسلامي: المبادئ النظرية وشروط التجديد" مجلة دار الكلمة للنشر والتوزيع
.