لغة الخطاب في التدريس الجامعي بين الفصحى ... والعامية
أ. د. فاضل خليل إبراهيم
لكي نسعى الى تحقيق جودة التدريس الجامعي ، بوصفه منظومة متكاملة ، تهدف الى بناء شخصية الطالب الجامعي وتنميتها في الجوانب المعرفية والقيمية والسلوكية ، لا بد من التنبيه الى ضرورة تحسين وتطوير لغة الخطاب كأداة للتواصل بين الاستاذ الجامعي وطلبته ، ليس على الصعيد الاكاديمي فحسب ، بل على مستوى التداول اليومي للغة في المحيط الجامعي .
ان ما نقصده بلغة الخطاب ، اللغة التي يستخدمها الاستاذ الجامعي في ايصال المعرفة العلمية الى طلبته في القاعة الدراسية : عرضا ، أو توضيحا ، أو مناقشة ؛ أو اثناء اجراء التجارب في المختبرات ؛ او في العمل الميداني أو الحقلي ؛ او في تقديم النصيحة أو التوجيه التربوي ، وبمعنى آخر ان الاستاذ الجامعي يستخدم نوعين من الخطاب : الخطاب المعرفي والخطاب التواصلي .
ولا شك أن لغة الخطاب لا تعني المفردات والتراكيب اللغوية فحسب ، بل تعني ايضا ما تحمله تلك المفردات من مضامين معرفية وفكرية لبيان الحجة وإقامة الدليل ، فقد اشار القران الكريم الى هذا المعنى في حديثه عن النبي داؤود (عليه السلام) ,
قال تعالى: ((وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ))(سورة ص ، الاية 20) ، اي وقوينا ملك داؤود ، وآتيناه النبوة ، وإصابة الصواب في القول والعمل ، والفصل في القضاء ، وبيان الحق من الباطل. وقال تعالى ، في نبأ الخصمين اللذين دخلا على داؤود ليحكم بينهم : ((إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)) (سورة ص ، الاية 23) ، اي غلبني في بيان الحجة وفي المجادلة .
واللغة العربية بوصفها لغة التدريس في عموم التخصصات الانسانية والعلمية ، باستثناء اقسام اللغات الاجنبية ، تعاني من ازدواجية الاستخدام بين الخطابين الشفهي والكتابي ، ففي الوقت الذي يتقيد فيه الاستاذ بضوابط اللغة العربية في الخطاب المكتوب وبنسب متفاوتة في الجودة ، نجده في الخطاب الشفهي اقرب الى العامية منه الى الفصحى .
لقد كرم الله تعالى اللغة العربية بأن جعلها لغة القرآن الكريم ، كما حفظها من الزوال، لذا فمن واجب اساتذة الجامعة في مختلف التخصصات العلمية ان يرتقوا بهذه اللغة في خطابهم المعرفي وفي تواصلهم مع طلبتهم وبمستوى ((اللغة الفصحى المتوسطة المعتدلة)) ، من اجل ألا تكون الفصحى لغة الادب والشعر فحسب ، والاهتمام بها حبيس اقسام اللغة العربية في الجامعة ، وببعدها الاكاديمي ليس إلا ، اما البعد التواصلي ؛ اي التناول اليومي لها من قبل اهل الاختصاص فبالعامية ايضا ، يقول احد اساتذة العربية :
(( الكلام في قسم اللغة العربية بالذات بالعامية ، فكيف تسود الفصحى اذا كان اصحاب التخصص قد اعرضوا عنها ؟ )) .
لا شك ان اللغة هي وعاء العلم والمعرفة ، وهي تعكس ثقافة المتحدث بها ، ونمط تفكيره، فاذا تمكن منها ، وأجاد مفرداتها وقواعدها وتراكيبها ،استطاع ان يوصل رسالته للآخر بدقة ووضوح ، مقنعا اياه ، وربما فاقه في الجدل والحوار . والفصيح من القول هو خير تعبير عن مكامن النفس والعقل ، وفصيح اللسان يستعان به في النصح والتبليغ والدعوة ،فقد استعان موسى (عليه السلام) بأخيه هارون لكونه افصح منه لسانا ، قال تعالى :
((وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ))(القصص : الآية 34) .
ولابد ان نطرح سؤالا مفاده ، ما اسباب غلبة العامية على الفصحى في محاضرات بعض الأساتذة ومناقشاتهم ؟ وهل لذلك تأثير على طلبتهم ؟
يرى كاتب هذه السطور ان تلك الاسباب تعود الى :
1- انكفاء بعض الاساتذة على تخصصاتهم العلمية ، الضيقة احيانا ، دون محاولتهم تطوير معرفتهم الاكاديمية في الميدان الارحب .
2- ضعف الاقبال على القراءة الثقافية العامة ، خاصة الكتب والمقالات ذات الطابع الفكري او الادبي او الفلسفي ، وحتى الديني . مما اضعف لديهم المحصول اللغوي من المفردات والجمل والسياقات الفصحى .
3- بعض الاساتذة يبنون ثقافتهم على المشافهة من خلال الآخر ، ويؤسسون معظم استنتاجاتهم عليها ، وذلك بطبيعة الحال يؤثر على افقهم المعرفي.
4- قلة الممارسة الاجتماعية للغة الفصحى داخل اروقة الجامعة ، وقد يجد من يتكلم العربية الفصحى في المناسبات العامة حرجا ، وربما انتقادا من البعض الذي لا يروق له ذلك الامر .
5- غلبة استعمال المفردات الاجنبية على العربية الفصحى ، لمن يتقن اللغة الاجنبية ومن لا يتقنها ، او حتى لا يعرف منها إلا اطرافها ، تزيينا للكلام ظاهره دون جوهره .
6- احجام الكثير من الاساتذة عن الكتابة التأصيلية في ميدان التخصصص او حوله ، وبوجه خاص المقالات القصيرة والهوامش والتعليقات ، لان الاخيرة تتطلب انتاج افكار من صاحبها ذات لغة غنية بمفرداتها المتميزة.
ان عواقب العامي من اللغة شديدة على الطلبة ، فالطالب في الاعم الاغلب مقلد لأستاذه في لغته ومتأثر بها . كما ان الطالب سيلجأ الى الحفظ والتلقين وليس التفاعل مع المعرفة المقدمة له بالعامية ، لان كثيرا من مفردات الفصحى بعيدة عن ادراكه ، فينتج عن ذلك صراع بين رغبة الطالب في التعبير وقدرته على ألتعبير .
ومما زاد في الامر خطورة ظهور ما يسمى باللغة الثالثة بفعل وسائل التواصل الاجتماعي الالكتروني على الشبكة العنقودية ، فتتشكل لدى الطالب ، وحتى الاستاذ اذا شاركه بالتواصل ، لغة جديدة خليط بين العامية وبعض من الفصحى مع غلبة المفردات الاجنبية .
كيف السبيل الى جودة لغة الخطاب في التدريس الجامعي ؟ للإجابة نقدم التوصيات الاتية :
1- حث اعضاء مجالس الجامعات والكليات والأقسام والفروع العلمية على الالتزام بالغة العربية الفصحى في منحاها المبسط ، وتجنب الالفاظ العامية في مناقشاتهم .
2- تشجيع اعضاء الهيئة التدريسية بمختلف مراتبهم العلمية على التحدث بالعربية الفصحى امام طلبتهم داخل المحاضرات وخارجها .
3- اخضاع المتقدمين لإشغال عضوية هيئة التدريس في الجامعات الى امتحان القدرة اللغوية قبل المباشرة بمهنة التدريس .
4- الزام عضو هيئة التدريس الراغب بالترقية العلمية الى مرتبة اعلى اجتياز دورة تطويرية في سلامة اللغة العربية واليات تعزيز الثروة اللغوية ، والتعبير اللغوي ، اسوة بدورة طرائق التدريس.
5- الدعوة الجادة الى تعزيز القراءة الادبية ، وحث الاساتذة على قراءة ادبيات بعينها يتم تحديدها من قبل اقسام اللغة العربية ، تساعد على الاثراء اللغوي .
6- تعزيز المنابر الخطابية في الجامعة ، وتشجيع الاساتذة في التخصصات العلمية والإنسانية من غير المختصين في اللغة على تقديم افكارهم شفاها امام جمهور من الطلبة والأساتذة ، وتخصيص قاعة في مكان ما في الجامعة لهذا الغرض ، تكون بمثابة مختبر لتنمية اللغة المنطوقة .
7- وأخيرا قيام الجامعات بتخصيص يوم في العام يطلق عليه ( يوم الضاد)، يتعهد فيه اساتذة الجامعة وطلبتهم ان يتحدثوا بالفصحى في ذلك اليوم.
|
|
|