دور العرب في تطوُّر الشعر الأوروبي.. إشراقات متبادلة



يجد كتاب «دور العرب في تطوُّر الشعر الأوروبي»، لمؤلفه الدكتور عبدالواحد لؤلؤة، أنَّه ومنذ فجر التاريخ، كان ثمَّة تداخلات بين الحضارات- الثقافات، بسبب الحروب والغزوات والتجارة والتزاوج، بين شتى الأجناس والقوميات. ولعلَّ من أهمِّها، ذاك التأثُّر والتأثير في اللغة؛ وما اتنتجه من آداب وفنون.

 ويجيء في مقدِّمتها الشعر وفنونه، والذي كان يدل على التلاحم الحضاري- الثقافي، عبر عصور التاريخ. وفي بلادنا العربية، لدينا مثال بارز على ذلك، في تأثُّر اللغة العربية بمفردات دخلت في لغة قريش، وهي أنشط القبائل العربية في التجارة قبل الإسلام.

 ولغة قريش هي التي نزل بها القرآن الكريم، فاستَوَت معياراً للفصاحة. وبسبب تجارة قريش مع الأقوام غير العربية، من فرس وبيزنطيين وأحباش وغيرهم، دخلت لغة قريش كلمات عديدة، مثل: درهم «دراخما الإغريقية»، دينار «ديناريوس اللاتينية الرومية».

 وحدث مثل ذلك، حسب لؤلؤة، وعلى نطاق أوسع، في دخول مفردات عربية إلى اللغة الإسبانية، يقدِّرها بعضهم بألوف كثيرة، بسبب الوجود العربي في شبه جزيرة أيبيريا لمدة ثمانية قرون.

شعر غنائي
ويرى لؤلؤة، أنَّ المنطقة العربية عرفت صنوفاً من الشعر، بدءاً من «ملحمة جلجامش»، وتوقُّفاً عند الشعر العربي في العصر الجاهلي، ووصولاً إلى ما تطوَّر منه عبر العصور. كما عرف الإغريق الشعر.

 وورثت شعوب أوروبا عن الإغريق صنوف هذا الشعر. وفي العصور الأوروبية الوسطى، ظهر في الزاوية الجنوبية الغربية من أوروبا، نوع من الشعر الغنائي بلغة عامية، بعيدة عن اللاتينية، وفي موضوعات تحتفي بالحب الدنيوي، الشخصي، غير الكنسي؛ يقدِّس المرأة، ويشير إلى أنَّ الرجل إذا أحبَّ، ارتفع منزلةً في عيون الآخرين.

وكانت تلك الزاوية الجغرافية هي إقليم «الباسك». ولم يكن ذلك الشعر الجديد ليرضي الكنيسة، التي حسبته مروقاً، كما وصفت إقليم الباسك- جميعه، بالوثنية، لكن هذا الشعر الجديد ازدهر وتطوَّر وانتشر إلى أصقاع أوروبية أخرى.

تلاقح حضاري
ويشرح المؤلف أنه تطوَّر الشعر العربي الذي حمله الفاتحون العرب من المشرق، فظهر الموشَّح وبعده الزجل. كما تطوَّر شعر محلي في جنوب غرب فرنسا وشمال غرب إسبانيا، في الخارطة الحالية، بفعل التلاقح الحضاري- الثقافي بين الشمال الأوروبي المسيحي، والجنوب العربي الإسلامي، فكان شعر «التروبادور» الجوَّالين، الذي انتشر بدوره إلى الشرق، فانتعش مجدَّداً في إيطاليا بما يدعى الأسلوب الحلو الجديد:

«dolce stil nuovo»، ثمَّ انتشر إلى شمال فرنسا، في شعر «التروفير» ومن هناك عبرَ إلى الجزر البريطانية بوساطة شعراء البلاط الفرنسي- الإنجليزي في القرن الثاني عشر، وتواصلت حلقات التطور حتى عادت أجراس الشعر الغنائي عند شكسبير، تردِّد أصداءً من غنائيات التروفير والتروبادور، وما ورثوه عن أجدادهم الوشَّاحين والزجَّالين.

ثنائية لغوية
ويستطرد لؤلؤة فيقول إنَّ اختلاف الروايات عن الفتح خرافات، لكن الروايات التاريخية غير العربية تتحدَّث عن حروب الكرِّ والفرّْ منذ 713م، يوم دانت شبه جزيرة أيبيريا إلى الإسلام. وتواصلت هذه الحروب حتى سقوط غرناطة ونهاية الوجود العربي- الإسلامي في الأندلس عام 1492م.

ويتبنى الناقد عبد الواحد لؤلؤة هذا الرأي الذي يعتبر أنَّ فيه خدمة للفتح الإسلامي للأندلس، فهو يقف بوجه الشائع من الآراء الغربية عموماً، التي تقول إنَّ الإسلام انتشر في العالم بحدِّ السيف. ويلفت المؤلف هنا، إلى أن الفاتحين المسلمين، من عرب وبربر، دخلوا الأندلس من دون زوجات، فتزوَّجوا من الأندلسيات بعد إسلامهن، أو حتى بعد بقائهن على النصرانية في كثير من الأحوال..

وكان من الطبيعي أن يتكلَّم الأبناءُ، من هذه الزيجات، اللغة العربية مع الأب واللغة (اللطينية)، كما يدعوها العرب والمستعربون، مع الأم. كانت هذه الثنائية اللغوية عند الأجيال الأولى وما بعدها، من أهم عوامل التأثُّر والتأثير الحضاري- الثقافي. وظهرت آثارها في السفارات والعلاقات التجارية، وفي تأثير الشعر العربي الأندلسي في نشوء وتطوُّر شعر جديد في ذلك العالم الجديد البديع.

المؤلِّف في سطور
الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، ناقد وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي عراقي، لديه حوالي خمسين مؤلفاً، منها: «موسوعة المصطلح النقدي»، «منازل القمر»، «البحث عن معنى»، «النفخ في الرماد».

الكتاب: دور العرب في تطوُّر الشعر الأوروبي/ دراسة
تأليف: الدكتور عبدالواحد لؤلؤة
الناشر: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2013
عدد الصفحات: 256 صفحة
القطع: الكبير


البيان