حاجتنا إلى اللغة العربية

لو ذهبت بنا الذاكرة الزمنية إلى ما قبل تشكيل اللغة العربية وضبط حروفها بالحركات المعروفة، ورسا بنا قارب الزمن عند الفترة إياها، حيث لغتنا منقطعة العلاقة مع التنقيط، ومفارقة لأي اتصال مع الفواصل والهمزات وبدايات الأسطر ونهائياتها، هل كان بالإمكان طباعة كتاب؟ أو صحيفة؟ أو كتابة قصيدة؟ أو تحرير وصفة طبية ؟...أو ؟.

مثل هذا السؤال، أثقل عقول الأقدمين والمحدثين، فذهب بعضهم إلى القول، بأن اللغة العربية، هي لغة التقاطية، ولا تخرج عن دائرة استجماع وخلط بين السريانية والآرامية والعبرية والنبطية والسامية الأولى التي عرفها أسلافنا في بلاد ما بين النهرين في المرحلة التي تحولت فيها البلاد المذكورة من الحكم السومري غير السامي إلى الحكم الآكادي (2300ق.م.) الواقف على رأس التاريخ السامي في المنطقة كلها.

معنى القول، إن لغتنا "الجميلة "والموضوعة في فضاء "القداسة" ليست عميقة الغور في التاريخ، بل هي لغة محدثة، لا من حيث التقعيد، أو التشكيل، أو التنقيط، فحسب، وإنما من حيث الولادة والظهور أيضاً، فاللغة هي مرآة العقل وفق العلماء اللسانيين وفقهاء اللغات، وهي انعكاس لحراكية الفكر وإيقاعات الحياة المضبوطة على قواعد صارمة، ونتاج كل ذلك يتمظهر في الكتابة العاكسة لدواخل العقل المنظم ومكنونه، وما قواعد اللغة إلا تمظهرات للضبط والانضباط الفكريين اللذين يسبقان عملية تنظيم اللغة.

واستكمالاً من النقطة الأخيرة، يُلاحظ على سبيل المثال، خلو "التاريخ" العربي الما قبل إسلامي من الأثر الكتابي، وإذا ما تم استثناء القصائد المعلقة على أستار الكعبة المشرفة،(ولهذه القصائد قصص وحكايات لها حديثها الخاص وتحليلها الخاص)، يكاد الأمر يتوقف على الحكم بغرق اللغة العربية في محيط العدم، في حين أن التاريخ اليوناني كمثال ثان، يزخر بتراث كتابي أسهم وما يزال بصوغ عقل العالم، فاللغة الإغريقية القديمة حافلة بأفكار وكتابات المرحلة القبلية لسقراط (توفي 399ق.م) من مثل طاليس وأنكسمندر وأنكسمينس وفيثاغورس وهوميروس وغيرهم ممن تعود تواريخ ميلادهم إلى العقد السادس أو السابع قبل الميلاد.

ولو تم الاتجاه شرقا، إلى الهند كمثال ثالث، يمكن العثور على كتاب "الفيدا" المقدس العائدة جذوره الأولى إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وربما إلى أبعد من ذلك، فيما ملحمة "المهابهاراتا"، وثيقة الصلة بالقرن السادس قبل الميلاد، وفي الصين، فإن الكتب المنسوبة إلى كونفوشيوس، أو لاو تسو، أو سون تزو أو غيرهم من المفكرين والفلاسفة الصينيين، يستقيم زمنها (الكتب)عند القرون الثالثة والرابعة والخامسة قبل ميلاد السيد المسيح.

لا شك أن السؤال الناتج عن هذا الموجز التاريخي، يكمن في البحث عن التراث اللغوي العربي، وعن الأعلام العرب، ولو تطرف القول قليلا، أو إذا ما جاز له الغلو، لذهب للسؤال عن العرب أنفسهم، غير أن مقتضى الحديث يفرض حصريته حول مكانة اللغة العربية في التاريخ وقدرتها بعد "اصطناعها" في المرحلة الإسلامية، على التحول إلى لغة ناطقة بمخزون العقل العربي ومعبرة عن حركة تفكيره ووعيه.

إن إجابة متسرعة عما سبق ذكره، قد يقذفها متسرع أو متعجل، فيقول إن تاريخ العرب بعد الإسلام، يفيض بالأعلام والمفكرين، الذين أبدعوا بلغة الضاد وأجادوا، إن مثل هذه الإجابة تؤكد أمرين:

الأول : إن العرب وقبل "اصطناع " لغتهم بعد الإسلام، كانوا يتفاهمون على الشفاهة والسماع، والأخيران لا يمتان إلى القواعد بصلة، ولغة بلا قواعد ليست لغة، تماما كما هي حال" اللغات" الإفريقية المتبقية من دهور دارسة، فبقي الناطقون بها في" الغابات العذراء "حتى قرون قليلة خلت، وهي حال التاريخ العربي قبل "اصطناع " لغته، وحين يُقال تاريخ عربي فالدلالة حينها أقرب إلى المجاز،فـ"تاريخنا" رجراج يقارب المغناة أو القصيدة المفتوحة على تعدد المعنى، وعلى الضد من ذلك، يمكن الإقتراب من ثوابت في التاريخ الروماني منذ سقوط الملكية (509ق.م) أو التاريخ اليوناني (حرق أثينا 480ق.م) أو غزو الإسكندر للشرق (326ق.م) أو مولد بوذا(563ق.م) أو كونفوشيوس(550 ق.م)، بينما يعتور "التاريخ" العربي هذه الدقة وما يعادلها، فلا السيل العرم ولا مملكة بلقيس ولا قوم عاد وثمود كان يمكن الركون إلى أخبارها لولا آيات بينات وردت في محكم تنزيله تعالى، فسلمنا بها تسليما.

الثاني: يفترض الوقوف مليا أمام ظاهرة الأعلام في التاريخ العربي ـ الإسلامي، وجلهم من غير العرب، وجاؤوا إلى الإسلام مدججين بثقافات ولغات غير عربية، ولعل أحداً لم يسأل عن الأسباب التي أفضت إلى أن يكون "الكندي" هو الفيلسوف العربي الوحيد الذي أنجبته اللغة العربية، في حين أن فلاسفة العصر الإسلامي الذهبي كانوا مستعربين، وقد لايحيد القول هنا عن جادة الصواب إذا ما قيل، إن هؤلاء الأعلام، كانوا يفكرون بلغاتهم الأم، ثم ينقلون محصولهم ونتاجهم إلى اللغة العربية، ولا من جديد يُقال هنا أيضا، إن الكثرة الغالبة من الأعلام أولئك، وضعوا أمهات كتبهم بلغاتهم الأصلية، ثم عملوا على نقلها لاحقا إلى لغة "الأمة" الواحدة ،أي اللغة العربية.

في كتابه "الألفاظ" يقول الفارابي، "إن الألفاظ الدالة والتي يسميها النحويون حروفا، هي على مصنفات عديدة، غير أن العادة لم تجر من أصحاب علم النحو العربي، إلى زماننا هذا (زمن الفارابي ) بأن يفرد لكل صنف اسم يخصه، فينبغي أن نستعمل في تعديد أصنافها الأسامي التي تأدت إلينا عن أهل علم بالنحو من اللسان اليوناني، فصنف منه يسمونه الخوالف، وصنف الواصلات، وصنف الحواشي، وصنف الروابط".

وواقع الحال، لا يخالف ثابتة علمية وتاريخية، مفادها أن أهل اليونان سبقوا العرب والمستعربين بدراساتهم النحوية بأكثر من ألف عام، وبفعل القواعد اللغوية التي ابتدعها اليونانيون نتج ما عُرف لاحقا بعلوم اللغة، حيث تقسيم الفعل إلى أزمنة محددة (ماض ـ مضارع ـ مستقبل ) ودراسة النطق والصوت، ففيتاغورس على مستوى التقريب، عمل على تقريب قواعدي متعلق بالاستفهام والأمر والتقرير والتمني، وأفلاطون عمل في حواراته على تقسيم الجملة اليونانية إلى جملة اسمية وجملة فعلية، وأضاف أرسطو إلى أعمال السابقين الأدوات والضمائر.

ماذا يبقى من فرادة "لغتنا الجميلة "بعد ذلك ؟

سؤال قد يبقى معلقا في حبال الفضاء، إلا أن ما يمكن قوله في هذا الشأن يدور في فلك التساؤل مع ابن خلدون عن مسببات كون "أكثر أهل العلم في الإسلام هم من العجم" كما يقول في مقدمته، وعما إذا كان لمثل هذا الأمر علاقة بغربة اللغة العربية عن العقل بما هو ضابط وصارم ومحدد عدا كونه منطقة تفكير الفرد ، ولهذا السبب ربما، غربت شمس العلوم المنسوبة إلى العرب بعد انزياح الناطقين بغير العربية عن المنطقة، أو بعدما تم استعرابهم تماما، فغدت العربية لغة تفكيرهم ،فأفلوا ،واستكانوا،لإنعدام القدرة على التفكير بلغة تفتقد التحديد والدقة والصرامة في التفكير والتعبير. وهذا ما يناقض اللغة العربية ذات الميزة المثقلة بالخطابة والبيان، وهو الوصف الذي أطلقة أبو حيان التوحيدي على العرب، فيما أهل الروم عنده أهل حكمة وعلم، وأهل الهند أهل روية وحكمة أيضا، وأهل الفرس أهل سياسة وأدب وفنون. قد يكون من لزوميات اللزوم أخيرا، طرح هذه الأسئلة:

1: لماذا حامل الإجازة الجامعية في إحدى اللغتين الفرنسية أو الإنكليزية يُتقن قواعدهما بما لايُقاس مع حامل الإجازة باللغة العربية ؟

2: لماذا الفرنسي أو الإيطالي أو الإنكليزي أو الألماني من حملة الشهادة المتوسطة أو العليا، على جودة ودراية بلغته الأم، في حين أن العربي يستقر على جهل بها.؟

3:ما فائدة لغة لا يفقهها أكثر من خمسة وتسعين في المائة من الناطقين بها؟.

ينقل ابن سلام الجمحي في كتاب "طبقات فحول الشعراء" والسيوطي في كتاب "المزهر" عن النحوي المعروف أبو عمرو بن العلاء (770 م) قوله "ما لسانُ حِمْير وأقاصي اليمن لساننا، ولا عربيتهم عربيتنا، فكيف بها على عَهْدِ عاد وثمود ؟".

وأكثر من ذلك، ذهب آخرون إلى القول إن لغة الجنوب اليمني أكثر اتصالا باللغة الحبشية والأكادية بينما لغة الشمال أكثر اتصالا باللغة العبرية والنبطية.

وأمام كل ذلك، ألا يستأهل الأمر نقاشا ...جدلا ...حوارا، حول لغتنا وتاريخها ...ومدى قدرتنا على التفكير بها وقدرتها على أن تكون منظومة فكرية تعكس أفعال العقل وحراكه.

الغد