الحفاظ على اللغة الأمّ حفاظ على الأمّة
أ. سعاد حويجة
لعلّ من أهم مقومات وجود الأمّة هو لغتها الأمّ ، و اللغة الأمّ أيّة لغة كانت هي تلك التي يتعلّمها أطفال أمّة هذه اللغة, تنمو معهم , وتكبر كما يكبرون فهم يتلقون مفرداتها بالتدريج وحسب عمرهم الزمنيّ , وعندما يكتمل نموّهم الجسديّ والعقليّ يكونون قد حصّلوا , وأتقنوا أبجديتها ,وأحرف هجائها وبتقدمهم العقليّ والفكريّ بعد ذلك تنمو وتتقدم لغتهم . فاللغة مفهوم منظوميّ يشمل الإيماءات , والإشارات والأصوات والرموز المكتوبة وجميع صور التعبير قاطبة من رسم ونحت وموسيقا .... الخ إلا أنّ اللغة المنطوق بها تحتلّ المرتبة الأولى بين جميع هذه الجوانب , وتتمثّل وظيفة اللغة في التفكير , والتواصل والتعبير أو في التعرّف والنداء ... وإن كان بعض الباحثين يرى أنّ وظيفة التعبير، ما هي إلا ضرب من التواصل وإنّ الوظيفة الأساسيّة للغة إنّما هي التواصل ذلك لأنّ اللغة مؤسسة اجتماعيّة إنسانيّة.
وهنا علينا أن نعمل على بناء الإنسان الذي يتمسّك بلغته الأمّ ، فلا يهجرها إلى أيّة لغة أخرى ، لأنّ اللغة وعاء ُتصبّ به الأفكار والمعارف ، وهي أداة التواصل بين أبناء الأمّة أيّة أمّة كانت .ومن هنا كان الاهتمام باللغات الأمّ من قبل المنظمات العالميّة لأنّ الكثير منها يتعرّض للاندثار، والموت في ظلّ هذه العولمة التي تجتاح الكون ، ولأنّ اللغة حاضنة للثقافة كان لزاماً علينا أن نهتمّ بلغتنا العربيّة لأنّها تعرّضت ، وتتعرّض لمحاولات التشويه ، والإساءة والاتهامات الكاذبة من مثل أنّها قاصرة وجامدة ، وعاجزة عن مواكبة العصر ، وإلى ما هنالك من نعوت لا تليق بمكانتها ولا بخصوصيتها ، وعراقتها كأقدم لغة في التاريخ ؛ فضلاً عن أنّها لغة الخطاب الإلهيّ ، و تعاليم الدين الإسلاميّ الحنيف الذي يتعرّض اليوم إلى أكبر مواجهة وأشرس حرب من قبل الغرب وأدواتهم الرخيصة في عالمنا العربيّ .
وكي لا نذهب بعيداً عن موضوعنا الأهمّ وهو الاهتمام بلغتنا العربيّة ، والعمل على التمكين لها وتمكين الناشئة منها في مراحل التعليم كافة ،علينا أن نهتمّ بتعليمها وفق أصولها لاعتبارات كثيرة منها : الاستراتيجيّة ، والدينيّة ، والتاريخيّة , واللغويّة .
- فأمّا الاعتبار الاستراتيجيّ : فيتجلّى في هذه الملايين من أبناء العربيّة الذين ينطقون بها ويكتبون . إضافة إلى الملايين من المسلمين في إيران ، و باكستان , وأفغانستان وغيرها ممّن يكتبون بالخطّ العربيّ ، ولمّا كان للوطن العربيّ أهميته الاستراتيجيّة وموقعه الهام بين دول العالم , وكان لأقطاره دور في توجيه الأحداث ، كان الاهتمام من قبل دول العالم بالإقبال على تعلّم وتعليم اللغة العربيّة , وقيل : إنّ أمريكا افتتحت معاهد جديدة لتعليم اللغة العربيّة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام ألفين وواحد ،ولا أظن أنّ الدافع إلى هذا الإقبال على العربيّة كان نبيلاً، بل من باب ( اعرف عدوّك ) لأنّ الغرب وأمريكا لا يريدان لهذه الأمّة أن تنهض .
- و أمّا الاعتبار الدينيّ الذي علينا أن نعلّم العربيّة من أجله : فهو أنّ الإسلام اتخذ اللغة العربيّة وعاء لكتابه السرمديّ ، وتوثّقت بينهما الصلات , فأصبح تعلّم العربيّة فرضاً وواجباً انطلاقاً من مبدأ: ( ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب ) فاللغة العربيّة لغة تعبديّة للمسلمين يفرضها الدين.
- الاعتبار التاريخيّ : لأنّ اللغة العربيّة كانت الصدر الأرحب الذي اتسع واستوعب حضارات عميقة الأثر في التاريخ الإنسانيّ فنقلها بأمانة ، وصدق للعالم أجمع كحضارة اليونان والرومان , والهند , والصين ..... وهي مرجعية تاريخيّة ، وعلينا أن نعلّم الناشئة ذلك لتفتيح أذهانهم على مفهوم الزمان , ومساعدتهم على معرفة طرائق البحث التي تثير أفكارهم في فهم نشأة الحضارة الإنسانيّة ، والتنبؤ بمستقبلها ، وإدراك أبعاد مفهوم العروبة وطبيعته المتجددة . وإذا كان بعض العرب قد علّقوا عضوية ( سورية ) في الجامعة العربيّة ، وهي العضو المؤسس لهذه الجامعة والبيت الحاضن للعرب والعروبة ؛ والتاريخ والأحداث التي جرت وتجري تثبت ذلك فهي من ساعد الأقطار العربيّة على التحرّر من الاستعمار الغربيّ , وهي التي استقبلت الفلسطينيين عندما هُجّروا من أرضهم ولا يزالون يقيمون عندنا معزّزين مكرّمين واستقبلت العراقيين واللبنانيين ، ودعت وتدعو على الدوام للتمسّك بالعروبة , وباللغة العربيّة وأصدرت المراسيم والتشريعات التي تولي اللغة العربيّة كلّ الاهتمام , وتدعو للعمل من أجل التمكين لها فعلاً لا قولاً لأنّها الثقافة و الهويّة . يقول الشاعر العربيّ السوريّ ( نزار قبّانيّ ) :
علّمينا فقه العروبــــــــة يا شام فأنت البيــان والتبييــــــــــــــن
كيف صارت سنابل القمح أعلى كيف صارت عيناك بيت السنونو
- وماذا عن الاعتبار اللغويّ : وهو ما يتعلّق بشخصية هذه اللغة ومكنوناتها فهي تتمتّع بمزايا وتنفرد بخصائص لم تتح لغيرها من لغات العالم سواء في أصواتها , أم في مفرداتها ، أم في تراكيبها ، أم في قدرتها على التعبير عن المعاني ، واستيفائها ، أم في صورها الجميلة التي تستدعي الأخيلة ، وتثير المشاعر.
|