اللسان والبيان في أسواق الذهب

د. محمد سعيد حسب النبي


مُنح شوقي موهبة شعرية فذة، وبديهة سيالة، لا يجد عناء في نظم القصيد، فالطالما انثالت عليه المعاني انثيالاً وكأنها المطر الهطول، يغمغم بالشعر ماشياً أو جالساً بين أصحابه، حاضراً بينهم بشخصه غائباً عنهم بفكره؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية؛ إذ بلغ نتاجه الشعري ما يتجاوز ثلاثة وعشرين ألف بيت ويزيد، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي قريب أو بعيد.
كما كتب شوقي في النثر ثلاث روايات منها عذراء الهند، صدرت عام 1897م، تناولت التاريخ المصري القديم، كما كتب عدداً من المقالات الاجتماعية جمعت في كتاب أسواق الذهب في عام 1932 أي قبل عام من وفاته.
عالج شوقي في كتابه العديد من الموضوعات الاجتماعية والدينية والأدبية، معالجة جمالية أنيقة، وبلغة بهية رشيقة، وإني لأدعو القارئ ليستمتع بذلك الوصف الأبدع للسان والبيان كما جاء في كتاب أسواق الذهب لأمير الشعراء أحمد شوقي:

اللسان:
مضغة لحم في عظم سماها الناس اللسان، وعظموها لفضيلة البيان، فقوَّموها بنصف الإنسان، عضلٌ نبت من الحلقوم وقناته، وثَبَتَ في أصل لهاته، ولبثَ في السجن ظِمءَ حياته، لا يتحرك منه سوى شبَاتِه. رسول العقل في النقل، وأداة الدماغ في البلاغ، وترجمان النفس في رواية العاطفة، وحكاية الصحو والعاطفة. الوحي على عذباته ظهر، ومن جنباته انحدر، فكان أول من سفر، بين الخالق والبين البشر، ثم فجَّر بالحكمة فانفجر، ثم علم الشعر فشعر، فسبحان الذي خلقه وعلقه، والذي قيده وأطلقه، والذي أسكته وأنطقه، والذي يميته فيندثر، والذي هو على بعثه مقتدر.  


البيان:
رحيق النبيين، وإبريق العبقريين، وحظ المرزوقين، ونصيب الموفَّقين، وذَرا الجمال، وذُرا الكمال، والتوفيق الذي لا يُنال، بسلطان ولا مال، والخلدُ الذي يؤخذ باليمين وغيره يؤخذ بالشمال، صديق البشرية، وعدو الجبرية.
حادى الإنسانية، السائق بالمطية، حتى تبلغ الطية، يمر بها على الخير وربوعه، والبر وينبوعه، ويقبلُ بها على الحق وقبيله، ويعدلها إلى العدل وسبيله، ويسلمُّ بها على الجمال ومغناه، وغرف لفظه تحت حور معناه، ويلج بها على العواطف، حنايا الضلوع اللواطف.
وهو الملك على كل اللغات، قد انتظم سلطانه أقطار البلاغات، إذا انتقل من لسان إلى لسان، في أمانة من الناقل وإحسان، أسرع في مضاهاته، وتمكن في جهاته، تمكن اللسان من لهاته؛ فكأنه التغريد أو البغام، أو منطق الأنغام، ترجع له الأمم، وإن ذهبت كل أمة بكلام.