تدريس العلوم باللّغة العربية ضرورة وجودية

قبل المقال تفضلوا بالجلوس معي في الحديقة حول طاولة شاي، قهوة أو عصير. نتحدث قليلا ونروي لبعضنا قصصا من أيّام الطفولة والدراسة و"الشقاوة".

كنت ضمن مجموعة من الأصدقاء في الثانوية نكوّن "عصابة تشويش" في المدرسة وخارجها. وكانت لنا ابتكارات في هذا المجال. فمثلا عندما تشير إلينا أستاذة اللّغة العربية بوجوب بناء النصّ. نأتيها من الغدّ بأكياس صغيرة فيها أسمنت وآجر. وهذا مثال "لطيف" لحركاتنا أيامها. وأرجو من الله أن يغفر لي الأمثلة "غير اللطيفة".

كانت كلّ العلوم تدرس بالفرنسية من الكيمياء والفيزياء والرياضيات وأحياء وتقنية.. وكان من مقادير الله أن أصيب مدرسنا في الفيزياء بمرض وقد عافاه الله منه لاحقا. حفظه الله. وعيّن عوضه أستاذ سأسمح لنفسي بذكره لما أكنّه له من احترام رغم غياب أخباره عنّا. نرجو من الله أن يحفظه ويجعل ما فعله من أجلنا في ميزان حسناته.

هوّ السيد "الطاهري" درّسنا في المعهد الثانوي في مدينة باجة بالشمال الغربي التونسي حيث انتقل والدي للعمل هناك. كانت لهذا الأستاذ طريقة عجيبة في احترامنا. أذكرها لجمالها. لم يكن درسه مميّزا عن دروس بقية الأساتذة حيث كان متكاملا قيّما مثل بقية الدروس ولكنّه في نهاية كلّ درس يأتينا بأمر فيزيائي مرتبط بالدرس لم تستطع الفيزياء حلّه أو ثبتت استحالة حلّه.

والاحترام هنا أنّه استفز طبع المراهقة الحادّ عندنا واستغله في الفيزياء واحترم عقولنا بوضعنا أمام تحديّات فيزيائية دون النظر إلى أعمارنا (في حدود 15 أو 16 سنة) ودون أفكار مسبّقة عن جديّة أخذنا للأمر. كأن يقول بعضهم "ماذا تفعل؟ أتتصوّر من هؤلاء الأشقياء التفكير في مثل هذه الأمور؟" نعم استفزتنا تحدّيات السيد الطاهري وتسابقنا في مجموعات لكسرها. فمثلا عندما انتهينا من درس الطاقة صمت قليلا ثمّ تحولت نظرات الطيبة والتقوى في وجهه. نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا من عباده. إلى شرارات تحدّ مع ابتسامة مخفية.

" يستحيل اختراع محرّك يشتغل بصفة لانهائية بكميّة أولية من الوقود دون زيادة".

يرمي جملته دون أن يقول أتحداكم. تأتي في قالب الدرس دون أن يجبرك على البحث فيها. هكذا.

يتركك ويذهب.

طيّب يا أستاذ. نحن لها. تلتقي المجموعة في منزلي الليلة. نرسل إلى شباب الحيّ المجاور أننّا لن نلعب الكرة غدا. (في أحيان أخرى نلغي المعركة).

نبدأ في رسم المخططات لمحرك يعمل بشكل لانهائي بدفعة وحيدة من الوقود. نتدارس. وقع الاتفاق على اقتراحي. رسمناه. وقدمناه في الأسبوع التالي للسيّد الطاهري. أمعن النظر. دققّ. فكر مرّة أخرى. نظر إلينا. أرجع بصره للورقة وغابت هذه المرّة شرارة التحدي من عينيه "لا أعرف أين يوجد الخطأ في هذا المخطط. رغم يقيني بوجوده".

كانت لحظة قوية لي. في نهاية الأمر بإمكاني الإنتاج في الفيزياء. بإمكاني البحث. ليس الأمر فوق طاقة البشر. ليس الأمر حكرا على أجنبي أو أعربي. ليس الأمر مهولا.

وكانت اللحظة أيضا درسا عظيما في التواضع من السيّد الطاهري لمّا لم يرّد علينا بعنف عندما لم يجد الخطأ ولم يعتبر الأمر طعنة لغرور. بل تعجب بفرح من بحثنا وأقّر بأخلاق العلماء أنّه لا يعلم مكمن الخطأ. للمعلومة. لقد وجدت مكمن الخطأ عندما درست في الجامعةThermodynamiques أظنّها باللغة العربية "الديناميكا الحرارية".

كان الأستاذ الطاهري يخاطبنا خارج المنهج الرسمي بالعربية (المنهج بالفرنسية) وكان من كرمه أنّه يجيب عن أسئلة التلاميذ الذين يلتقيهم في المسجد (قبل القرار بغلق المساجد خارج أوقات الصلاة).

في درس الضوء وقبل نهاية الدرس حدثنا عن أمرين باللغة العربية (الأمران زيادة منه خارجة عن الدرس والمنهج). كانت صدمة لي. يبدو الأمر تافها ولكنّه هزّني إلى الحدّ الذي غير مسار تفكيري إلى الآن.

أعلمنا السيّد الطاهري بكلّ بساطة أن سرعة الضوء سرعة قصوى وأن الفيزياء الحديثة تقول إن بدايات الكون بدأت بـ"الانفجار الكبير". مرّت دقائق والقسم في حاله العادية وأنا مشدوه جمدت فصائلي. عقلي لا يتبع عينيّ. عقلي ذهب بعيدا. ولا أدري إلى ما تنظر عيناي. الصبورة. أم الأستاذ. النافذة.. لم يبق في عقلي نسبة واحد في المائة من التركيز ليهتمّ ببقيّة أعضائي. ترك الكلّ واهتمّ بنفسه. سبح بعيدا ونسي أنّ وراءه بدنا. هوّ مكلّف بتسييره.

كانت صدمة.

الغريب أني كنت على علم بهذه المعلومات من قبل ولكنّها أوّل مرة تقدّم إلى بلهجتنا التونسية الدارجة القريبة فعلا من اللغة العربية. ماذا وقع إذا؟

الذي وقع هوّ أنّه لدى سماعي للمعلومة. بلغتي. رُبطت حالا بإرثي العربي الإسلامي. ولم يلتق الإرث بالمعلومة. لم أجد مطلقا في الإسلام غير الله. جلّ وعلا. الله قال للكون: كن فكان. ما هذا الذي أسمعه الآن؟

كان أستاذي يكتب أرقام تمارين الدرس على الصبورة عندما رفعت يدي.

"سيّدي"

استدار "نعم"

"لا أوافق"

"ماذا؟"

"نظرية الانفجار الكبير غير مقبولة بالنسبة لي"

لحظات صمت كي يعود أستاذي من عالم التمارين والمنهج إلى هذا القابع خلف الصفوف يتكلّم في نظرية القرن العشرين

"ولم ذلك؟"

عدم مواجهتي بإعصار من نوع "ومن أنت حتّى توقف الدرس وتتكلم في أمر عظيم كهذا؟" أو حمام بارد من نوع "اصمت واكتب تمارين الغد" شجعني على التمادي.

هممت بالكلام بتؤدة حتى أجمع أفكاري

"حسنا."..

رنّ الجرس. وداعا أفكاري.

وباهتمام طلب منّي: "طيب. أكتب أسبابك واعرضها للنقاش على القسم في الحصّة القادمة".

الحمد لله. سيترك لي هذا بعض الوقت للبحث. سخّرت نهاية الأسبوع للقراءة عن "الانفجار الكبير" ووقعت على مفاجأة زادت ثقتي في نفسي.

"الانفجار الكبير" ليس "نظرية" Théorieإنّه "نموذج" Modèle فأساس كل نظرية في بديهياتها وأنّ لواضع النظرية الحرية في اختيار البديهيات. هذا ما له. أمّا ما عليه. فلكي تسمى النظرية كذلك يجب ألا يتناقض التسلسل المنطقي داخلها مع البديهيات التي اختيرت مبتدأ. وما خطر على بالي في القسم حول الانفجار الكبير مخالف لمبدأ مهمّ تعتمد عليه وهو إطلاقية سرعة الضوء.

كتبت ورقتي وعرضتها على القسم وكانت في هذا السياق:

معلوم أن "هابل" واضع هذا النموذج استند على رؤيته بملاحظته لابتعاد الأفلاك عن بعضها البعض عبر الزمن فقال بما أنها (أي الأفلاك) كانت أمس أقرب منها إلى بعضها من اليوم وقبل أمس أقرب من أمس. فبتتبعها هكذا تكون في بداياتها ملتحمة ويجب حينها أن تكون نقطة في فضاء ما. متناهية الطاقة وقع على إثرها تحول ما (المسألة مبهمة هنا). ممّا أدى إلى "انفجارها" (تعبير انفجار عندهم ليس ضرورة بالمعنى الذي نعرفه) وتكوّن الكون كما نعرفه الآن عبر تسلسل زمني إثر هذا الانفجار. وطبعا هذا لا يمكن أن يكون مؤكداً ولإيضاح ذلك سأسرد فقط خواطري وأترك لكم بحث مبررات غيري من التاركين لهذا النموذج. والتي تبين عدم صلاحية النموذج كرأي علمي مستقيم المنطق.

خاطر رياضي: أولا ليس بالضرورة أن تكون الأفلاك مقتربة أكثر قبل أمس عن أمس أو اليوم. إذا اقتربت أمسٍ أكثر منها من اليوم. فلو أخذنا حركة بالونة تنفخ ثم تعاد. ثم تنفخ ثم تعاد (لنتخيل أن البالونة تتنفس ولها شهيق وزفير). ومرسوم عليها نقاط (تمثل الأفلاك). ففي زمن الشهيق تبتعد النقاط. وفي زمن الزفير تقترب النقاط. وهذان الزمنان بمقاييس الكون كبيران يقدران بملايين بل بمليارات السنين مما يعيق فكرنا وتقانتنا عن بحث ما بعد الزمن الذي نحن فيه. فإن كنا في زمن الشهيق صعب علينا تصور وجود زمن الزفير لكبر مدة الزمن الأول. في حين أن الأفلاك في الزمن الثاني. أي زمن الزفير. والتي نراها في أبعاد اليوم قد تكون أبعد عن بعضها قبل أمس من أمس واليوم.

ويمكن الأخذ بمثال ثان أبسط. فلنتصور حركة جسمين على سطح بيضة يتحركان في اتجاهين متعاكسين ولنضع مراقبا على نفس السطح في قمة البيضة. هذا المراقب يرى الجسمان يقتربان فإن وصلا إليه وتجاوزاه سيراهما يبتعدان.

إذا فإن اعتماد "هابل" على المراقبة لتحديد خلق الكون ثم محاولة ترميز ما تحصل عليه من نتائج ناقصة لمراقبة ناقصة في نظرية أو نموذج أمر قاصر ولا يعتمد عليه.

خاطر فيزيائي: نعلم بالتقاء هذا النموذج مع الفيزياء النسبية (كنت درست هذا الجانب سابقا باللّغة الفرنسية ولم يثر اهتمامي) التي تقول إن وجود نقطة لا متناهية الطاقة تقدر حتما (حسب الفيزياء النسبية) بوجود كتلة لا متناهية الوزن. وبالتالي وجود منطقة جاذبية لا متناهية الأثر. مما يعني استحالة "خروج" المادة من تلك النقطة إلا إذا تجاوزت سرعة الضوء وهذا لا يستقيم حسب مبتدآت طرح الفيزياء النسبية. وهنا نلاحظ خطورة ربط ما يمكن أن يكون نظرية (الفيزياء النسبية) بنماذج لم تقم عليها البينة عقلا ولا نقلا. ولكنها رؤى أهوائية. (ولعلماء اليهود والنصارى الكثير من هذه الشطحات فانظر مثلا إلى اعتمادهم على النموذج الدارويني في تفسير الخلق رغم تأكد إفلاسه وخوره علما. فيستحيل علما تطور إنسان عبر قرد أو غيره لاختلاف عدد الكروزومات بينهما. فجنسين بعددين مختلفين من الكروزومات إن التقيا أنجبا عقيما. داروين أهلكه الله من أحمق. سخر منه عدوّ الله وعدوّ بني آدم إبليس. لعنه الله. وأذهبه إلى إهانة الإنسان وأقر على نفسه الحمق والتفهان. وللعلم هوّ لم يكن أبداً عالما أو دارسا جامعيا). أما عن نقدي لوصول الفيزياء النسبية إلى مرحلة النظرية فيعود إلى التقاء الفيزياء النسبية مع "فيزياء الكم" في عجزهما عن تفسير بعض الوقائع الفيزيائية المرتبطة بهما بل وتناقض واقع أمر هذه الوقائع الفيزيائية مع ما تطرحاه رؤيتا الفيزياء النسبية وفيزياء الكم. مثلا تحول الإلكترونات عبر طبقات الطاقة في الذرة يتم بصفة غير متصلة Discrète مما يفرض تجاوز سرعة الإلكترون لسرعة الضوء وهذا مناقض لطرحيهما فسرعة الضوء عندهما مطلقة وحد لا يمكن تجاوزه.

وكدليل آخر على أن ما يقره هذا النموذج مناقض لطرحه. فلنأخذ ظاهرة الثقوب السوداء في الكون حسب ما يرونه. وهي كتل كبيرة في حجم صغير تسمى الحجم الحرج بالنسبة لهذه الكتل، حيث تبدأ المادة بالانضغاط تحت تأثير جاذبيتها الخاصة ويحدث فيها انهيار من نوع خاص هو الانهيار بفعل الجاذبية، ويزداد تركيز الكتلة أي كثافة الجسم وتصبح قوّة جاذبيته قوّية إلى درجة لا يمكن معها لأي جسم يمر بمسافة ما منه الإفلات مهما بلغت سرعته وبالتالي يزداد كمّ المادة الموجود في الثقب الأسود، وبحسب النظرية النسبية العامّة فإن الجاذبية تقوّس الفضاء الذي يسير الضوء فيه بشكل مستقيم بالنسبة للفراغ، وهذا يعني أن الضوء ينحرف تحت تأثير الجاذبية، أما الثقب الأسود فإنه يقوس الفضاء إلى حد يمتص الضوء المار بجانبه بفعل جاذبيته، وهو يبدو لمن يراقبه من الخارج كأنه منطقه من العدم إذ لا يمكن لأي إشارة، معلومة، موجة، أو جسيم الإفلات من منطقة تأثيره فيبدو أسود. وللتوضيح فإن تحول الكرة الأرضية إلى ثقب أسود يستدعي تحولها إلى كرة نصف قطرها 0.9 سم وكتلتها نفس كتلة الأرض الحالية.

فانظر إذا كيف أن الضوء لا يستطيع الخروج من هذا الجزء الصغير جدا من الكون فما بالك بخروج الضوء أو أي شيء آخر من الكون كله مركزا في نقطة واحدة وهي (حسبهم زعمهم) نقطة بداية الكون.

خاطر إنساني: لنفترض وقوع هذا التحول المبهم من النقطة اللامتناهية الطاقة إلى مسار تكون الأفلاك. ليس هناك ما يدعنا نفترض أن ما سميناها نقطة لا متناهية الطاقة غير متناسقة homogène وبالتالي فإن "الانفجار" إن وقع ستكون له نفس النتائج في كل اتجاهاته. وكمثال على ذلك فإن القنبلة في انفجارها لا يكون لشظاياها المدفوعة إلى اتجاهات مختلفة نفس الحجم ولا السرعة ولا مسافة السقوط وذلك لاستحالة وجود قنبلة متناسقة في مادتها ومحيطها تماما. وهذا الأمر لا ينطبق على ما سميناها النقطة اللامتناهية للطاقة لأنه لا وجود لما يدعو لعدم تناسق أجزائها ومحيطها (لأنه إن لم يكن هناك تناسق فإن الالتحام النهائي لم يتم بعد وكلامي هنا عن وقت كان فيه الالتحام نهائيا) وبالتالي فإن "شظايا" هذا الانفجار ستكون متشابهة تماما في كل اتجاهاتها لعدم وجود دواعي الاختلاف. أي أنه وبتكون الأرض في هذا الاتجاه عبر التسلسل الزمني الذي نعرفه. ليس لنا ما يدعنا نرفض فكرة تكون نفس هذه الأرض مع نفس ما وقع ويقع وسيقع فيها في الاتجاهات اللامتناهية الأخرى. ومن الحكمة أن نحكم بعدم استقامة هذا الرأي لعدم وجود مصلحة أو منطق لتعدد مسار التكون بشكل لا نهائي كما هو تماما. وإلا فإنّ الإنذار الذي تحصلت عليه الأسبوع الماضي من أستاذ اللغة الفرنسية قد تحصلّ عليه عدد لا متناهي من أمثالي في عدد لا متناهي من الأكوان الأخرى من عدد لا متناهي من أساتذة الفرنسية. وهذا شيء مرعب سيّدي: تصوّر وجود اثنين من أمثال أستاذ الفرنسية في الوجود.

وليكن الأمر واضحا. إن عملية توسع السموات أمر حق. فقد أقرها الله. ولله الحمد. في القرآن " وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ"(سورة الذاريات الآية 47).

وما أختلف فيه مع "هابل" القول بوجوب العود مع فكرة التمدد إلى الوراء زمنيا دون وقوف إلى الحد الذي لا يمكن معه وهما أو تخيلا العود وهنا وجه الاختلاف. فالرأي عندي أن عملية التمدد التي نلاحظها هي أمر عرضي بعدي للخلق وليست مصدرا تم عبره الخلق. والله أعلم.

سنترك الآن أستاذي الفاضل الطاهري راجيا من الله أن يجمعني وإيّاه في الدنيا على الخير وفي الآخرة في جنّات النعيم. وأحدثكم عن كتاب من كتب والدي.

لحظة من فظلكم.

خسارة أن نترك قصّة أستاذي الفاضل السيّد الطاهري دون أخذ عبرة هامة منها وهي ضرورة تدريس الشعوب العلوم بلغاتها. لماذا؟

المسألة مرتبطة بالهدف من تدريس العلوم. فإن كان الهدف هوّ إيجاد"تقنيّي علوم" أي أناس عبأتهم بمعلومات لإنجاز مهام معيّنة. في هذه الحال يمكن أن تدرس شعبك بأيّ لغة تريد. بالصينية. بالألمانية. بالفرنسية... سينجز لك من علمته المهمة كما سينجزها لك إنسان آلي عبأته بنفس المعلومات والأوامر.

أما إن كان هدفك هوّ إيجاد قاعدة كبيرة من التقنيين والكوادر القادرة من ناحية أولية على إنجاز المهام الضرورية لمخططاتك لمجتمعك وبُنَاء التحتية وفي الوقت نفسه تكون هذه القاعدة رَحما تولد منه نخبة من العلماء والمبدعين تكون لهم مهمة رسم واستشراف سبيل المستقبل والإبداع وبالتالي المساهمة في أن تأخذ أمتك دورها في خارطة حضارة الإنسان. حينها يجب تدريس شعبك بلغته.

نفس السؤال. لماذا؟

لأنك إن درست ولدك (أو ابنتك. كي لا تغضبن عنّا) بلغته مكّنته من ربط الجديد عنده من العلم بالموروث والمنقول من أمّته. فإن كان هنالك خلل معين في إحداهما أو كليهما أو عملية الربط بينهما أو لم يكن هنالك خلل بل تناسق وتناغم كلّ ذلك يسهل تبيانه إن درّستهم بلغتهم ويصعب إن درستهم بغيرها. عملّية تسهيل التبيان هامة لأنها تؤدي في حال الخلل. مثلا. إلى وقوع "الصدمة" بين "الموروث" المستقرّ في ذاتنا والمعلومة الجديدة الآتية. "الصدمة" تؤدّي إلى "السؤال". السؤال يؤدّي إلى البحث عن الجواب. الجواب إبداع. الإبداع فتح آفاق.

هذا في العموم ماذا عن خصوص لغتنا العربية وفقهنا الإسلامي.

علينا ألا نخجل من الكلام بصوت مسموع جدا وعال لإعلام الإنس والجنّ إن لزم. إنّ منهجنا هوّ الفقه الإسلامي. للفقه الإسلامي منهج علمي. هو أسلوب تفكير يختلف عن ما يسمّى الفلسفة. لا وجود لفلسفة في الإسلام بل لا وجود لشيء اسمه فلسفة أصلا. ما يسّمونه فلسفة هوّ فقر في اللغة.

عدم التمكن من تعريف المفاهيم كمفهوم الخير والشر والشجاعة والإيمان... وعملية محاولة الدوران على الجهل بالتعريف باستعمال شروحات ذاتية هوّ فقر في اللغة.

فشروحات نيتشه تختلف عن شروحات ديكارت تختلف عن شروحات إنغلز... وهلّم جرّ إلى أن نصل إلى أفلاطون وسقراط وغيرهم.

وانظر إلى الغزالي. رحمه الله. حيث عنون كتابه "تهافت الفلاسفة" واستعمل كلمة تهافت ولم يستعمل كلمة "سقوط" مثلا. لأنّ في "السقوط" إثبات لوجود شيء قد سقط والفلسفة ليست بشيء لتسقط وكلمة تهافت قد توحي بمعنى فيه "التفاهة والتيه والوهم".

ومن الرقائق التي خطرت ببالي هوّ أنّ تعريف ما هوّ "معنوي" أو "أدبي" في اللغة العربية أوثق وأوضح ممّا هوّ مادي. تذكروا معي حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإسلام والإيمان والإحسان.

الإسلام: أن تـشـهـد أن لا إلـه إلا الله وأن محـمـداً رسـول الله، وتـقـيـم الصلاة، وتـؤتي الـزكاة، وتـصوم رمضان، وتـحـج البيت إن اسـتـطـعت إليه سبيلاً.

الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.

الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

هذه المفاهيم هيّ مفاهيم غير مادية ويعرفّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. بأبلغ ما يكون. بحيث أنّ المعنى لا يمكن له أن يتزحزح قيد أنملة عن التعريف.

ولنأخذ الآن كلمة "حديد". هوّ معدن: الحديد. الكلّ يعرفه. نعرفه بترقيمه الكيميائي أيضا. إن أردتم. المسمّى والتعريف واضحان هنا.

ليس تماما..

" فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ " ق22

هنا. كلمة حديد يمكن توجهها إلى أمر آخر غير المعنى المعروف. غير المعدن.

هل يمكن توجيه كلمة إسلام إلى أمر آخر؟ الجواب: لا.

هنالك ملاحظة أخرى في عنوان كتاب الغزالي وهي.. "الألم".

نَعَم "الألم".

كلّما قرأت هذا العنوان أحسّ بألم الغزالي. رحمه الله. على ضياع سنين طويلة من حياته غارقا في هذا الوهم المسّمى فلسفة. سنين كان يمكن استغلالها في إنتاج ما فيه خير لأمتّه خصوصا ونحن نعرف ما للغزالي من ذكاء ونبوغ وفراسة.

وهنا نقطة أرجو التعريج عليها كي لا تفوتني فأنساها. قد يقول قائل: من له أن يتحدثّ عن الغزالي وينتقده. ولو كانت نيّته خيرا. وهو ما هوّ عليه (الغزالي) من ذكاء جاوز حدود المعهود وفطنة كانت فلتة عصرها.

أجيبك..

جاري "عمّ عمر".

رجل أميّ لا يحسن القراءة والكتابة. عامل يوميّ في البناء. نراه كلّ يوم في الصلوات الخمس حاضرا في المسجد. يتكلّف في كثير من الأوقات بتنظيف بيت الوضوء في المسجد. ليس فيه ما يميّزه إلاّ شيء واحد. تقوى الله. نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا من عباده.

هناك شيء فوق الذكاء شيء يجعل من عمّ عمر أذكى من أينشتاين. هوّ الإيمان بالله.

اطمأنوا أنا لم أخرج من موضوع العلوم وسأبيّن لاحقا بعض نقاط المنهج العلمي في الفقه الإسلامي في الرياضيات. سأعود لذلك.

إن لم يهدنا البحث العلمي إلى الإيمان بالله فقد دخلنا دائرة الخسران والعياذ بالله. فالإمام الغزالي أظنّه ظنّ أن "التعقيد" في "البحث الفلسفي" يخفي في طيّاته ثنايا معرفية. فسخّر ذكاءه في البحث في هذه الثنايا.

والحمد لله أنّ الإمام الغزالي لم يكن مغرورا بل مسلم حرّ. عندما بان له تهافت هذا "السبيل" أدار له ظهره. فماذا اكتشف؟

اكتشف بعد هذا السفر الطويل أنّ قمّة المعرفة هيّ الإيمان بالله.

وهذا الإيمان. منزلته فوق منزلة الذكاء. وهذا ما تحصلّ عليه "عمّ عمر" هبة من الله. فعندما تسمع من "عمّ عمر" أو غيره كلمة "اتق الله" لا تأخذ هذه النصيحة في جانبها السلوكي أو العبادي فقط. بل اتق الله أيضا في عقلك. في سبيلك ومنهج تفكيرك وبحثك.

ستكون لي كتابة خاصة بإذن الله في هذا الموضوع.

الإيمان بالله وتقوى الله. إن خرجنا من هذا الإطار ظللنا. حتّى في الرياضيات وأعطيكم أمثلة.

سأقدّم أولا أمثلة عن الأرضية التي يتمّ عليها طرح نظرية.

فلنقسم عملية طرح نظرية إلى ثلاثة أقسام

1) أن تكون لك رؤية واضحة لمحيطك (الكون. الزمان. المكان. الوجود. الإنسان...)

2) بناء منهج فكري لتفسير طرحك

3) الترميز الرياضي

وكمثال لنأخذ المعادلات التفاضلية.

المعادلات التفاضلية هيّ أداة دراسة كلّ ما هوّ حتمي. بمعنى لنأخذ مثلا قارورة (بلاستيكية وفارغة لتطمئنّوا) وأقذفها على رأس هذا الطفل المشاكس الذي لا يكفّ عن الصياح أمام منزلي. تقع على أم رأسه.

لو أعدت التجربة بنفس المعطيات من حجم ووزن القارورة إلى مقاومة الهواء إلى زاوية قذف القارورة.. ستقع حتما على أم رأسه في نفس النقطة.

هذه الحتمية تدار رياضيا ورمزيا بالمعادلات التفاضلية. المعادلات الرياضية من إنتاج نيوتن (وهو معروف بأنّه مسيحي متطرّف. ولا أقول هذا للحطّ من المعادلات التفاضلية ولكنّها معلومة قد لا يعرفها الكثير). وتمّ استغلال. وتوجيه النظرية الحتمية خارج الرياضيات في أمور خطيرة أثّرت بشكل راديكالي على التاريخ البشري. كالماركسية والداروينية.. إلى أن جاء علماء فيزياء الكمّ في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فطعنوا في إطلاقية هذه النظرية واعترفوا بأثرها في الفيزياء الكلاسيكية فقط. واستعملوا التفاضل في احتمالية حدوث الوقائع لا في الحدوث ذاته. وللتوضيح خذ مثلا جهاز تلفازك وشغله دون البث. ستجد الشاشة بيضاء والإلكترونات تصطدم بالشاشة. فلنأخذ الإلكترون الأوّل. انطلق واصطدم بالشاشة. الإلكترون الثاني انطلق بنفس المعطيات ولكنّه لم يقع في نفس نقطة الإلكترون الأول. فيزيا الكمّ تقول بحتمية وقوعه ضمن قرص دائرة مركزها موقع الإلكترون الأول وفي أيّ مكان من هذا القرص. هذا الاحتمال هوّ المحدّد بحتمية المعادلة التفاضلية.

هنا نرى أنّنا دخلنا في مجال نظري آخر يجب ترميزه برموز أخرى.

هذا فيما يخصّ النظرّية. والحقيقة أنّه كان من الأجدر قبل البحث فيها. البحث في طريقة التفكير أساسا.

بوابة الشرق