الرقيب اللغويّ - 6

أ. إسَلمُو ولد سيدي أحمد


أشرتُ في الحلقة الأولى من (الرقيب اللغويّ) إلى أنّ دراسة قواعد اللغة ليست غايةً في ذاتها، وإنما هي وسيلةٌ لمساعدتنا على الحدّ من كثرة اللحن في أقوالنا والتقليل من الأخطاء في كتاباتنا. كما أشرتُ إلى أنّ المهم من دراستنا للقواعد هو ما يبقى في الذاكرة من أمثلة نقيس عليها، عند التطبيق، فتغنينا عن الرجوع- في كل صغيرة وكبيرة- إلى المراجع الخاصة بهذه القواعد.
وسأتحدث في هذه الحلقة – ضمن أمور أخرى- عن بعض الأخطاء التي نقع فيها، عند تطبيقنا لهذه القواعد. وذلك على النحو الآتي:
1-     مع أن الملمِّين بالقواعد الخاصة بعمل ( كان وأخواتها)، مثلا، يعرفون أن هذه الأفعال تدخل على المبتدإ والخبر، فترفع المبتدأ ويُسمّى اسمَها، وتنصب الخبر ويُسَمّى خبرَها، فإن كثيرين يلتبس عليهم الأمر، عندما يحُول جارٌّ ومجرورٌ بين كان واسمها، فيعتقدون أن ما يأتي بعد الجارّ والمجرور هو خبر كان،  ولهذا يجب نصبه، فيقولون أو يكتبون، على سبيل المثال: كان في الاجتماع "عددًا كبيرًا" من الشخصيات البارزة. الصواب: كان في الاجتماع عددٌ كبيرٌ....
 وتبقى القاعدة ثابتةً، حتى لو قلنا : كان في الاجتماع، الذي امتدّ إلى ساعة متأخرة من الليل ، عددٌ  كبيرٌ من الشخصيات البارزة.
 الأصل في خبر الأفعال الناقصة أن يكون اسمًا مفرداً صفةً أو موصوفًا، ولكنه قد يكون شبهَ جُملة، ظرفاً أو جاراً ومجروراً. وكل ما حدث هنا، هو أن الخبر ( في الاجتماع) تقدم على الاسم ( عددٌ كبيرٌ...)
وكان بإمكاننا أن نقول : كان عدد كبير من الشخصيات.... في الاجتماع. وأذَكِّر القارئ الكريم بأن هذه الأفعال التي سُميت ناقصةً، لأنها لا يتم بها الكلام إلا باسمها المرفوع وخبرها المنصوب، فيها الكثير مما يُقال، وأنصح بمطالعة بعض المراجع المتخصصة للتوسّع في الموضوع. مع ملاحظة أن الأحكام الخاصة بهذه الأفعال، يختلف بعضُها عن بَعْض . بعضها يتصرف، وقسم منها لا يتصرف، وقسم منها يتصرف تصرفا ناقصا، إلخ.
وما تحدثتُ عنه، من كثرة  الوقوع في الخطإ في هذا النوع من الأمثلة، يقع أيضا على ألسنة كثيرين وفي كتاباتهم،  عندما يتعلق الأمر ب(إنّ وأخواتها) وهي الحروف المشبَّهَة بالفعل، التي تدخل على المبتدإ والخبر فتنصب الأول ويُسَمَّى اسمَها وترفع الثاني ويُسَمَّى خبرها،  بحيث نرى أنّ عملَها  عكسُ عمل ( كان وأخواتها). وفيها ما يقال، هي الأخرى، ولابد من الاطلاع على المراجع المتخصصة للتوسع في الموضوع. والآن، دعُونا نطبّق المثال السابق على (إنّ). يقول مراسل الجريدة إنّ، في الاجتماع، "عددٌ كبيرٌ" من الشخصيات البارزة. الصواب: يقول مراسل الجريدة إنّ، في الاجتماع، عدداً كبيراً من الشخصيات البارزة. وتبقى القاعدة ثابتة، حتى لو قلنا، يقول مراسل الجريدة إن في الاجتماع، الذي امتدّ إلى ساعة متأخرة من الليل، عدداً كبيراً من الشخصيات البارزة. وهكذا نقول: لُوحِظ أَنَّ،  في كلمات الوفود المشاركة في المؤتمر، نوعاً من الاستعداد للتعاون في جميع المجالات. كما يمكن أن نقول: كان في كلمات الوفود...، نوعٌ من الاستعداد، إلخ.
وأذَكّر بأن اختياري لهذه الصيغ، ليس نابعا من أنها أهمُّ  من غيرها، فيما يخص الأحكام المتعلقة بالأفعال الناقصة ( كان وأخواتها)، أو بالحروف المشبَّهة بالفعل (إنّ وأخواتها)، وإنما السبب في اختيارها والتوسع في إعطاء أمثلة عليها، هو كثرة ما نسمعه ونقرأه يوميا من أخطاء في  هذا المجال. وقد نبهتُ على الموضوع في مقال سابق بعنوان:" عودة إلى مسألة الأخطاء الشائعة"، بالمثالين الآتيين: الخطأ:"قلنا إن، في هذه الإجراءات، "نوعٌ" من البطء.
الصواب: قلنا إن، في هذه الإجراءات، نوعاً من البطء.
الخطأ: كان، في هذه الإجراءات "نوعاً "من البطء.
الصواب: كان في  هذه الإجراءات، نوعٌ  من البطء.
2-    لم "يرمي"الطفلُ الحجرَالذي كان بيده.
الصواب: لمْ يرْمِ الطفلُ الحجرَ...
هذا نَمُوذج من الأخطاء  التي تتكرر باستمرار في بعض الصحف والمجلات، وحتى الكتب. وذلك بسبب عدم مراعاة القواعد الخاصة بتصريف الأفعال.
جاء في كتاب " المرجع في اللغة العربية" لعلي رضا: الفعل المضارع يكون مرفوعا أو منصوبا أو مجزوما. يُرْفَع بالضمة الظاهرة، إذا كان صحيحَ الآخِر ولم يتصل به شيء، نحو: يكتُبُ، ويُرفع بالضمة المقدَّرة إذا كان مُعتلَّ الآخِر، نحو: يَسْعَى، يدعُو، يرمي.... ويُرفَع بثبوت النون، إذا كان متصلا بألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المخاطبة، نحو: يكتبان، تكتبان، يكتبون، تكتبون، تكتبينَ، وهذه الأخيرة تُدعى الأفعالَ الخمسةَ. ثم تحدّث المؤلِّف عن المضارع المنصوب ونواصبه، وعن المضارع المجزوم وجوازمه.
والذي أريد أن أركّز عليه، في هذا المجال، هو أن علامة جزم الفعل معتل الآخِر: حذف حرف العلة، نحو: لم يدْنُ مني الشخص الذي كان يطاردني (دَنَا يَدْنُو). لم يَسْتوفِ حقَّه (استوفى يستوفي). لم يسْعَ القاضي في الصلح بين الخصمين (سعى يسعى). ونحو: المثال الوارد في العنوان: لم يَرْمِ(رمى يرمي). مع ملاحظة أن الأمر أيضا، من الفعل معتل الآخِر، يُبنى على ما يُجْزَمُ  به مضارعُه، نحو: ارْمِ، اسْعَ، ادعُ، إلخ. علما بأن الأصل في فعل الأمر أن يكون مبنيا على السكون، إذا كان صحيح الآخِر ولم يتصل به شيء أو اتصلت به نون النسوة، نحو: اكتبْ، اكتبنَ (المرجع السابق). ولا بد من الاطلاع على المراجع المتخصصة للتوسع في الموضوع، لأن ما ذكرتُه هنا، هو غَيْضٌ من فَيْضٍ (أي قليل من كثير)، أتيتُ به ليكون حافزا للمهتمين بالأمر، على مراعاة القواعد الخاصة بتصريف الأفعال، لأنها مُكمّلة للقواعد  النحوية. مع التذكير بأن أكثر الأخطاء التي اطلعتُ عليها بهذا الخصوص، تتمثل في عدم القدرة على التمييز بين الحالات التي يكون عليها الفعل. وبصفة خاصة، الفعل المضارع، معتل الآخِر المجزوم.
3- اطلعتُ كذلك على أخطاء،  يقع فيها بعض المحرِّرين، عند تصريفهم للفعل الأجوف،  وهو الفعل الثلاثيّ الذي اعتلّ ثانيه، نحو: قال ،وباع، فيكتبون: لم "يبيع" التاجر بضاعته. الصواب: لم يَبِعْ التاجر بضاعته. ولو رجعنا إلى القواعد الصرفية، لوجدنا أن المضارع الأجوف المجزوم يُحْذف منه حرف العلة. نحو: لَمْ يَقُلْ ولَمْ يَبِعْ، إلخ. علما بأن اختياري لهذا المثال، لا يُغني عن مراجعة القواعد الصرفية للاطلاع على الجوانب المختلفة للموضوع، لأن القواعد الصرفية- كما أسلفتُ- مُكَمِّلة للقواعد النحوية.
4- ما دمنا نتحدث عن تصريف الأفعال، ينبغي أن أذَكِّرَ بما أشرتُ إليه، في مقال سابق، بعنوان:" رأي في مسألة الأخطاء الشائعة"، حول استعمال حروف الجر، حيث قلتُ إنني أتفق مع الرأي القائل بأن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض، إذا لم يلتبس المعنى، ومع ذلك يجب وضع هذه الحروف كما وردت في المعجمات والمراجع المتخصصة، مراعاةً للدقة، فمن الأفعال ما يختلف معناه، بحسب حرف الجر الذي يتعدى بواسطته، نحو: رَغِبَ فيه: أي أحبه ومال إليه، ورغب عنه: أي تركه، ورغب إليه: أي طلب وسأل وابتهل إليه .
5- أشكُرُكَ و أشكُرُ لَكَ
نسمع من يقول أو يكتب في نهاية كلمة يُلقيها في اجتماع: أشكركم على حسن استماعكم، كما نسمع آخر يقول أو يكتب: أشكرلكم حُسنَ استماعكم. وأشير إلى أن من الأفعال ما يتعدى بنفسه تارة، وبحرف الجر تارة أخرى، وكلاهما صحيح. وقد وردت أمثلة من هذه الأفعال  ( في المرجع السابق)، على النحو الآتي:
جاء في أدب الكاتب لابن قتيبة: تقول: شكرتك وشكرت  لك، ونصحتك ونصحت لك، وكِلْتُك وكِلْتُ لك، واستجبتك واستجبت لك، ومكنتك ومكنت لك، قال الله عز وجل: " مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ"، واشتقتك واشتقت لك، واخترت الرجال خالداً، واخترت من الرجال خالداً، قال الله جل ثناؤه: " وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً"، وأستغفر الله ذنبي ومن ذنبي...، وكَنَّيْتُك أبا فلان وبأبي فلان، وسميتك فلانا وبفلان، ولسْت منطلقا ولست بمنطلق، وسرقت خالداً مالاً وسرقت من خالد مالاً، وكذلك سلبتُ، وزوجته امرأة وبامرأة.
6- حَضَرَ وجَلَسَ خالد، وعلّمتُ وأفدتُ سالماً، و حننتُ وعدتُ إلى الوطن.
وردت هذه الجمل (  في المرجع السابق) في باب (التنازع).
ونظرا إلى أهمية الموضوع، بالنسبة إلى الكتّاب والمحررين،  فإنني أنصحهم بمطالعة المراجع المتخصصة في هذا المجال.
يقول المؤلِّف: التنازع: هو توجه عامِليْن ( أو أكثر) إلى معمول واحد كل منهما يطلبه لنفسه، كقولك حَضَر وجَلَس خالد، إلخ. فحضر: فعل ما ض وهو  يطلب  ( خالد) ليكون فاعله، وجلس: فعل ماض، وهو كذلك يطلب ( خالد) ليكون فاعله، فخالد معمول تنازعه عاملان، هما: حضر وجلس، وكل منهما يطلبه ليكون فاعلا له، والعاملان (أو العوامل) إما أن يتفقا في الطلب، كأن يطلبا المعمول ليكون فاعلا، أو مفعولا به، أو مجرورا بالحرف، كما مُثِّل ، أو  يختلفا في الطلب.
إذا اتفق العاملان في الطلب، فالعمل لواحد منهما، ولك أن تُعمِل أيَّهما شئت في المعمول الظاهر، وتقدر المعمول الآخر، لدلالة معمول صاحبه عليه، فمن أَعْمَلَ الأولَ اعتمد على سَبْقِه، ومن أعمل الثاني اعتمد على قربه من المعمول. تقول: أَكَلَ وشَربَ الطالبُ أو الطالبان أو الطلابُ، شكرتُ وحمِدت الطالبَ أو الطالبيْن أوالطلابَ، والَّلهم صلِّ وسلِّم وباركْ على أنبيائك.
وقد يختلف العاملان فيطلب أحدهما رفعه والآخر نصبه، نحو: أفادني وأفدتُ أخاك، فالأول يطلب (أخاك) فاعلا، والثاني يطلبه مفعولا به.
ويجب أن يكون العاملان فعلين متصرفين أو اسمين مشتقين من فعلين متصرفين، نحو أتْقَنَ وأَجَادَ الطالبُ، أو مُتقِنٌ ومُجيدٌ الطالبُ.
إذا طلب عاملان معمولا واحدا أَعْمَلْتَ أيّهما شئتَ، كما سبق، ويرجِّح أكثر النحاة إعمالَ الثاني لسلامته من الفصل بين العامل والمعمول، فإن احتاج الأول إلى مرفوع  ألحقت به ضمير المعمول مرفوعا، نحو: قاما وقعَد أخواك، وإن أعملت الأول، وجب الإضمار في الثاني، نحو: قامَ وقعداَ أخواكَ.
وقد تحدث المؤلِّف عن حالات أخرى من التنازع، حيث أتى بمثال عن تنازع أكثر من عاملين معمولا واحدا، نحو: كما صليتَ وباركتَ ورحمتَ  على إبراهيم، فإبراهيم مطلوب لكل واحد من هذه العوامل الثلاثة ثم أَعملَ الأولَ وهو صلّيتَ وبمثال عن تنازع أكثر من عاملين أكثر من معمول، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: تسبحون وتحمدون وتكبرون، دُبُرَ كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فدُبُرَ منصوب  على الظرفية، وثلاثاً منصوب على أنه مفعول مطلق، وقد تنازعهما كل من العوامل الثلاثة السابقة عليهما.
7- لَيْتَ: حرف تَمَنٍّ، يتعلق غالبا بالمستحيل أو بأمر عسير الحصول. المستحيل، نحو: ألاليت الشبابَ يعود يوما***** فأخبره بما فعل المشيب.
وعسير الحصول، نحو: ليتَ الجاهلَ يعلم ( المرجع السابق). وأنبه على أهمية مراعاة الدقة في التعامل مع هذا النوع من الحروف، لأننا نسمع من يقول لصديقه، المقيمِ معه في المدينة نفسِها: يا ليت!، بعد أن يعلم منه أنه سيزوره.
والأفضل، في مثل هذا السياق، أن يستعمل عبارة أخرى، كأن يقول- مثلا- هذا شيء ( أو خبر) يسعدني، لأن هذه الزيارة، في الظروف المذكورة، ليست مستحيلة، وليست عسيرة الحصول. وأنبه كذلك  على أهمية مراعاة الدقة في استعمال حرف (لَعَلّ) الذي يفيد الترجي والتوقع والإشفاق، فالترجي: طلب الممكن المحبوب، كقوله تعالى: " لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً" والإشفاق : هو توقع الأمر المكروه والتخوف من وقوعه، نحو: "لعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ" (بخَع نفسَه قتلها غمًّا (المرجع السابق).
وإذا كنتُ، في هذه الحلقة، قد توغّلتُ في بعض التفاصيل الخاصة ببعض القواعد النحوية والصرفية، فليسامحني القارئ الكريم، فهدفي هو حثُّه على المزيد من مطالعة المراجع المتخصصة، التي تزخر بها المكتبة العربية، لله الحمد. وليعلم أن معرفة القواعد مُعِينَة على الفَهْم والإفْهَام، وضرورية للتواصل بين المخاطِب    (بكسر الطاء) والمخاطَب  (بفتح الطاء). يقال: قَلَّ  من أُوتِي أن يَفْهَم ويُفْهِم. ولنا عبرة في القصة التي كانت سببا في وضع باب التعجّب وباب الاستفهام في النحو العربيّ.  يُذكر أن ابنة أبي الأسود الدُّؤَلي وقفت مرة تتأمل السماء، فقالت لأبيها: ما أحسنُ السماء (بضم النون)، فقال أبوها : نجومُها ( بضم الميم)، فقالت له: ما عن هذا أسأل، وإنما أنا أتعجّب، فقال لها: إذاً، فقولي: ما أحسنَ السماء (بفتح النون)، وافتحي فاكِ.