أخْطارُ اسْتِبْدالِ العامِّيَّاتِ بالعربيةِ الفُصْحى
أ.د. ياسر الملاح
ما كنْتُ أتوَقّعُ يوماً أنّ هناك أناساً، منْ أبناءِ العُروبةِ والإسلامِ في العصرِ الحاضرِ، يَدْعون إلى استبدالِ عامياتِ بُلدانِهمْ بالعَرَبيةِ الفصْحى!؟! ولئن زعمَ بعضُ الناسِ أنّ هذا مِنْ قبيلِ حُرّيّةِ الرأيِ فليْسَ مِنْ حُريةِ الرَّأيِ العَبَث بالثوابتِ الحَضارِيّةِ لِلأمّةِ. كانَ قدْ حَدَث هذا يَوْماً على ألسنةِ بعضِ مَن افتُتِنوا بالغربِ والتغريبِ، أمثالَ لطفي السيّد وقاسم أمين وسلامة موسى في مصر، وأمثالَ أنيس فريحة في لبنان، وأمثالَ غَيْرِهِمْ من مُخْتَلِفِ أقطارِ العُروبةِ، وإنّما كانَ هذا لأنهم تتلمَذوا على أيدي أغْرابٍ يُخططونَ لِكسْرِ شوْكةِ الأمةِ، والنَّيْل منها ومِنْ حَضارَتِها وَوَحْدتِها الثقافيةِ والتاريخِيّةِ، أمثال ولهلم سبيتا المُسْتَشرِقِ الألمانيِّ الذي كان أميناً لِدارِ الكتبِ المصريةِ (1881)، إذ ألفَ كتاباً بعُنوانِ قواعدُ اللغةِ العربيةِ العاميةِ في مِصرَ، ووليم ولكوكس الإنجليزي الذي دَعا إلى استخدامِ اللغةِ العاميةِ في الكتابةِ الأدبيةِ والتدريسِ بحُجَّةِ أنّ الفصْحى في مِصْرَ تقفُ حائِلاً دونَ الاخْتراعِ والابْتِكارِ، ثم تبعَه ولمور في دَعْوَتِه إلى الاقتصارِ على العاميةِ أداة للكتابةِ والحديثِ، وَوَضعَ كِتاباً بعُنوانِ العَرَبيّة المَحَلِيّة في مِصْرَ. ثمَّ جاءَ لوي ماسينيون لِيُحاضرَ في باريسَ وبيروتَ داعِياً إلى اسْتخدامِ العامِيّةِ في الحياةِ الأدبيةِ والعِلمِيّةِ وإلى اتخاذِ الخطِ اللاتينيّ في كتابتها. غيرَ أنّ هذا الهذرَ كلّه قدْ طوِيَتْ صفحتُه، ولمْ يَعُدْ له أنْصارٌ أوْ مُناصِرون، وَرَكله الأحْرارُ منْ أبْناءِ هذه الأمةِ بأقدامِهم وأقلامِهم، واعتبِرَ من سَوْءاتِ نفرٍ قليلٍ جدا من أبناءِ هذه الأمةِ، ومنْ فذلكاتِ أعاجمَ نصَّبوا أنفسَهم لإسداءِ النَّصائحِ المَلغومَةِ للعَرَب، وانتهى الأمرُ بها إلى غيرِ رَجْعَةٍ، لأننا، الآنَ، أمَّة تتطلعُ إلى النهضةِ في كلِ مناحي الحياةِ، وقدْ قطعْنا شوْطاً كبيراً في هذه السبيلِ، أمّا أنْ يَدْعُوَ فريقٌ منا إلى العَوْدَةِ إلى تُرّهاتٍ مَضَتْ وانْتهَتْ، فهذا هو ضوءُ الحَبَاحِب الذي سَتُكْسَفُ منه الشمسُ وسَيُخْسَفُ منه القمرُ !؟!
وَلعَلّ من المُسَلماتِ التي لا تَحتاجُ إلى رأيٍ ورأيٍ معاكسٍ له أنّ الفصْحى والعامِيّة توأمانِ للغةِ العربيةِ، وبوجودِهما تتحققُ سُنَّة لغويّة تخضَعُ لها اللغاتُ جميعاً، وهِيَ وُجودُ الفصحى والعاميةِ، فحيثما اتجهْتَ ووَجَدْتَ لغة يَتحَدث بها شعْبٌ ما، فلا مَناصَ من أنْ تجدَ هذين الوجْهينِ في أيِّ لغةٍ. غيرَ أنّ وجودَ توأمين في أسرةٍ واحدةٍ لا يقودُ بالضرورةِ إلى إذكاءِ نارِ الخُصومةِ بينهما، أو إلغاءُ هذا لذاكَ، ولكنّ الأنسبَ أنْ يعرفَ كلٌ منهما وظيفتَه التي وُجِدَ من أجْلِها ليلزمَ كلُ واحدٍ منهما وَظيفته لدفعِ حركةِ الحياةِ. ففي ماضينا العريقِ كان هناك فُصْحى وعاميّة، عاشتا مَعاً، دون أنْ تَطغَى إحْداهُما على الأخرى، بلْ عرفَ كلٌ وظيفتَه دون أنْ يعتديَ على الآخر، وكانَ الناطقُ بالعاميةِ يُقِرُ للفصْحى بالسَّبْقِ والإجْلالِ، ولذلك آنَ الأوانُ لإعلانِ الصّلح بين هذين التوأمينِ غيرِ المُتخاصِمَيْنِ أصْلا، وبين أنصارِهما، على أساسِ أنّ للفصحى وظيفة، وللعاميةِ وظيفة أخْرى، وأنْ لا تناقضَ في وجودِ هاتينِ الوظيفتينِ لأنّ كلَّ مُجْتمعٍ يَنْقسِمُ فيه الناسُ إلى ما يُسَمّى بالخاصّةِ والعامّةِ، فللخاصةِ لغتُها وهيَ الفصْحى، وللعامّةِ لغتُها، كذلك، وهِيَ العامّيّة، وقدْ يتداخلُ المستويان وفقَ ظروفٍ اجتماعيةٍ معروفةٍ.
وَلِمَزيدٍ من التَّوْضيحِ نَقولُ: الوظيفة الأساسية لِلفصْحى هي أنَّها لسانُ العلمِ والفكرِ والأدبِ الرفيعِ والقضاءِ والتشريعِ والإدارةِ والخطابةِ والتدريسِ والمُحاضراتِ والحوارِ بين الخاصَّةِ، وَوَظيفة العاميةِ هِيَ أنَّها لسانُ الحياةِ العاديةِ البسيطةِ اليوميةِ والشئونِ العاديةِ، ولا يُمكنُ لأيٍّ منهما أنْ تَحلَ محلَ الآخرِ بتاتاً. وإنما كانتِ الفصْحى لساناً للعلمِ والفكرِ العميقِ لأنّ لها قواعدَ مُنْضَبطة ويُمكنُ التعبيرُ بها بدقةٍ وعمقٍ، وهِيَ كذلك شخصية واحِدَة غيرُ متعددةِ الصُّوَرِ والأنماطِ، غيرَ أنّ العاميّة لا تملكُ هذه المقوماتِ بتاتاً، فليسَ لها قواعدُ واضِحَة، ولا يمكنُ صياغَة قواعدَ واضحةٍ ثابتةٍ لها، لأنها ليْسَتْ نمطاً واحداً بل إن العامية عامياتٌ تتوالدُ بسرعةٍ ولا يمكنُ ضبط هذا التوالدِ أو منعُه.
إنّ أخطارَ استبدالِ العاميةِ بالفصحى- كما يزْعُمون، وإن استطاعوا، لأنهم يُجدفونَ ضدَ نواميسَ طبيعيةٍ للغةِ- كثيرة جدا، ولا يُمكنُ لمتعلمٍ بسيطِ الثقافةِ أنْ يَجْهَلها لأنها واضِحة ومعلومة بالضرورةِ، ونذكرُ منها :
1) الخطرُ الأدبيُّ والعلميُّ : للفصحى قُدْرة مذهلة في التعبيرِ الأدبيِ والعلميِ لأنها تملكُ تاريخاً أدبياً وعلمياَ غنياً بالمفرداتِ والمصطلحاتِ والتراكيب، بينما لا تمْلِكُ العامية شيْئاً من هذا، فكيفَ يُمكنُنا إحلالُ العاميةِ التي لا تملكُ مقوماتِ التعبيرِ الناجحِ محلَّ آلةٍ أخرى تملك كلَّ مقوماتِ التعبيرِ الناجح؟ وللفصحى نظامٌ كتابيٌّ دقيقٌ وجميلٌ، فلماذا نَتَسَوّلُ على موائدِ الآخرين، كما يقترحُ ماسينيون ومَنْ رَوَّجَ لِرَأيِه؟ إنّ العامية مَحْدودة وَفقيرَة في المُفرداتِ، وهِيَ مُضطربة في القواعدِ والأساليبِ والمعاني، وأداةٌ هذا شأنُها لا تَقْوَى على التعبيرِ عن المعاني الدقيقةِ وحقائقِ العلومِ والآدابِ والإنتاجِ الفكريِّ العَميقِ. ولأنّ العامية تتغيرُ بسرعةٍ كبيرةٍ كالرمالِ المتحركةِ، فلا تثبتُ أصْواتها على حالٍ واحدةٍ، وكذلك دلالاتُ مفرداتِها، وقد تختلفُ عامية جيلٍ عن الجيلِ الذي يَليه، وتختلفُ عامية الشباب عنْ عامية الشيوخِ في الجيلِ الواحدِ، فقد نضطرُّ، إذا سَلمْنا باستبدالِ العاميةِ بالفصحى، إلى تغييرِ لغةِ الكتابةِ بلغةٍ أخرى كلَّ خمسين سنة تقريبا، وهذا هو أقصى ما يُمكنُ أنْ تصلَ إليه الفوضى في شعبٍ إنسانيٍ كما يقولُ الدكتور علي عبد الواحد وافي.
2) الخطرُ الحضاريُ : للفردِ الواحدِ تاريخٌ وماضٍ لا يمكنُه التنصلُ منه بتاتاً، فإذا حصلَ هذا اضطربت النفسية والشخصية، وكذلك الأمة لها تاريخُها وماضيها، واللغة الفصحى جزءٌ أساسيٌّ من هذا التاريخِ الحضاريِّ للأمةِ، وهي لسانُ صَرْحِها الثقافيِّ الذي أنتجته عبرَ تاريخٍ طويلٍ. وإنّ استبدالَ العاميةِ بالفصحى يعني الانقطاع عن تاريخِنا وتراثِنا الحضاريّ، وهو يقطعُ صِلة أجيالِنا بماضينا العريقِ، ولا أعرفُ أمّة من الأممِ أقدَمَتْ على مثلِ هذا، حتى إن الأوروبيين عندما سَعَوْا إلى نهضتهم عادوا إلى جذورِهم القديمةِ المرتبطةِ باليونانِ والرومانِ قبلَ الميلادِ.
3) الخطرُ العقديُ : إن عقيدة الأمةِ مرتبطة بالإسلامِ ومعالمِه وبالقرآنِ الكريمِ والحديثِ النبويِّ الشريفِ وتاريخِ هذه الأمةِ، وهذه المعالمُ الكبْرى جميعاً مُرْتبطة بِقوَّةٍ باللغةِ الفصحى لسانِ القرآنِ الكريمِ. فإذا أكرَمَنا اللهُ باتخاذِ العربيةِ لساناً لِكلامِهِ، وبدلا من أنْ نفتخرَ ونعتزَّ بهذا، أليْسَ مِنَ العارِ أنْ ندْعوَ إلى دَعْوَةٍ تقودُ إلى قطعِ هذه الصلةِ بالقرآنِ ولغتِه !! إنّ مثلَ هذه الدعوةِ لا يُمكِنُ أنْ يتقبَلها إنسانٌ عربيٌ ذو عقلٍ أو عنده ذرة من التوازنِ الفكريِّ، وماذا عندَ العرب غير الإسلامِ والقرآنِ الكريمِ الذي هو كوْنٌ نَصِّيٌّ وكيانٌ لغوِيٌ مدهشٌ !؟!
4) الخطرُ السياسيُ والاجتماعيُ : إنَّ اتخاذَ الفُصْحى لِساناً لأدبنا وعُلومِنا يُوَحِّدُ الأمَّة، ويُوثقُ عُرى التواصلِ بين شُعُوبها، ويصنعُ دِعامَة قوِيّة منْ دعاماتِ الوحدةِ والترابطِ بين هذه الشعوب، لأنّ الرابطَ الثقافيَّ، وهو ما يحققه التمَسُّكُ بالفصحى، منْ أقوى الروابطِ في تحقيقِ الوحدةِ والحب والتفاهمِ بين هذه الشُعوب، وإنّ استبدالَ العاميةِ بالفصحى سَيَقودُ إلى إضعافِ أو قَطعِ التواصلِ بين الشعوب العربيةِ، لأنّ العاميّاتِ عواملُ تفكيكٍ لا عواملُ وَحْدَةٍ.
5) الخطرُ اللغوِيُّ: إنّ اللغة العربية من اللغاتِ العالميةِ التي لها امتدادٌ عريضٌ على مستوى العالمَيْن العربيِّ والإسلاميِّ، وهُناك إقبالٌ كبيرٌ على تعَلمِها وتعْليمِها في مُختلِفِ دُولِ العالمِ، كما أنّ الأممَ المتحدة أقرتْ التحَدّث بها من على مِنصَّةِ الأممِ المتحدةِ فأصبحتْ إحْدى سِتِ لغاتٍ دوليةٍ، وقد لفتَ نَظري ما نشِرَ على صَفحةِ العَرَبيّةِ أنّ فرنسا سَتدَرّسُ العربية في مدارسِها، أليسَ هذا كله بكافٍ للدلالةِ على عَظمةِ هذه اللغةِ؟ أضفْ إلى هذا ما تَتَمَتّعُ به اللغة العربية مِنْ مزايا جَماليّةٍ وتعبيريّةٍ وموسيقيةٍ يَنْدُرُ أنْ نَجدَ لها مَثيلاً في لغاتِ العالمِ. فما الذي دَهانا حتى نُخَرِّبَ بُيوتَنا بأيدينا إذا أصْغيْنا لِهذه الدعوةِ الهَدَّامةِ الذاهبةِ إلى استبدالِ العاميةِ بالفصحى؟!؟
إنّ الدعوة إلى أيِّ خَطرٍ من هذه الأخطارِ تمثلُ جَريمَة كبْرى في حقِ الأمةِ ومصالحِها العُليا، فكيفَ بالدعوةِ إليها جميعاً باستبدالِ العاميةِ بالفُصْحى!؟! ويجبُ أنْ يَعْرِفَ مَنْ يَدْعو إلى مثلِ هذه الدعوةِ أنّ الأمة كالجسدِ إذا اشتكى منه عُضْوٌ تداعتْ له سائرُ الأعضاءِ بالسهرِ والحُمّى، وإنّي لأعجبُ كيفَ تغيبُ هذه المفاهيمُ الأساسية عنْ أجيالٍ ذاقتْ ويلاتِ الاستعبادِ والتفرقِ وكانتْ تطمحُ يوماً ما إلى الحُرِّيَّةِ والوحدةِ!؟! وإني لواثقٌ منْ أنّ ما يَجْمَعُ بين أبناءِ أمتِنا مِنْ فِكرٍ وثقافةٍ ولغةٍ وتاريخٍ لكفيلٌ بإفشالِ هذه الدعواتِ ووأدِها إلى الأبدِ .
|
|
|