مدرّس اللغة العربية أولاً

د. زياد الوهر

ما من وسيلة تدريسية أو خطة تربوية إلا وقد تم استعمالها على الطالب العربي في مدارسنا منذ عقود وقد فشل الكثير منها؛ ولو جزئيا في تحقيق النجاح المطلوب من أجل الارتقاء بمستوى مُخرجات مدارسنا وجامعاتنا العتيدة. والواضح أن حلقة تشخيص أسباب الفشل في مدارسنا لم تكتمل بعد، ذلك أن المدرّس هو الركن الأهم والعنصر الأساس في بناء الحضارات؛ لم يتلقّ التقدير الحقيقي والضروري من أجل النهوض بالمنظومة التربوية كلها. بدأ الاهتمام بتطوير المدارس وبنيتها التحتية وتغيير المناهج واستحداث الدروس التي تواكب المستجدات في كل مناحي الحياة، وتم تجاهل المدرس تماما ولم تعره المؤسسات ولا الوزارات الاهتمام الحقيقي ولذلك فإن حلقة تشخيص المعوقات في التربية والتعليم لم تكتمل وما نتج عن ذلك من عدم إحداث أي نقلة نوعية واضحة في التعليم، فتحول طلابنا إلى ببغاوات تكرر ما تسمع ولا تفقه ما تقول أبدا.
يتعرض المدرسون المعاصرون للكثير من التحديات والعقبات الجسام التي تجعلهم غير قادرين على العطاء بصدق ومحبة وإخلاص، فمن رواتبهم ودخولهم المادية المتدنية إلى تعسف الإدارات المدرسية بحقهم وإجبارهم على أعمال لا يجب أن يقوم بها معلم الأجيال، ووصل الأمر إلى أن المدرس بدأ يخشى على نفسه من بطش الطالب وأهله، فتحول المدرس بفعل هذه العوامل وغيرها إلى شبح مُعلّم وخيال إنسان، وطفق يتهرب من بذل أي جهد ولو بسيط من أجل تحبيب الطلبة بالدراسة ونقل المعلومة لهم بطريقة سلسة، وما تبع ذلك من حرمان أبنائنا من التعليم الحقيقي الذي يساعدهم على مواجهة المستقبل وتحدياته العسيرة في زمن تحول فيه العلم إلى مرتبة السلاح الأول في التفوق الاقتصادي والتميز الاجتماعي والتأثير السياسي.
وقد نال مدرس اللغة العربية بالذات الضيم الكثير والظلم الفادح من جراء هذه الظروف دون سواه من المدرسين، فمادته ثقيلة نوعا ما ولا يحبها الطلبة إلا إذا قدّمها المدرس لهم بقالب عصري يمنحهم لذة الاستمتاع بها وبقواعدها، وتمكنهم من سبر أغوارها وتذوّق مكامن الجمال فيها. فمادة اللغة العربية مع هذا الطوفان التقني في الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي فقدت بريقها وكأن شمسها بدأت بالأفول بعد قرون من الإشراق. والحقيقة التي لا جدال فيها أن اللغة العربية هي الضحية الأولى التي ترنّحت وقريبا ستسقط جراء الضربات التي تلقتها على مدى العقدين الماضيين ولم ينفع معها كل وسائل العلاج والاستشفاء لإعادة القوة إلى جسدها المنهك وكيانها المتهالك، فكأنها كالفارس الهمام الذي سقط بأيدي مجموعة من المراهقين وهواة اللعب بالسلاح. ترنّح هذا الفارس وإن لم ندركه ونسنده بقوة فلن ينفع بعدها الندم وستمسي لغتنا عندها أسيرة المتاحف، وتراثا قديما نعرضه لأبناء جيل المستقبل من أجل التعرف على تاريخهم المندثر.
وأول الحلول برأيي تبدأ مع إصلاح وضع مدرّسي اللغة العربية، وليس الفصول ولا المناهج ولا حتى وسائل التدريس الحديثة. فالمدرس الضعيف لن تُفلح كل هذه الوسائل العلاجية في الارتقاء بمستواه أو تحسن أدائه، ولذلك فإني أقترح أن تقوم كل دولة من الدول العربية بتأسيس مجلس خاص يملك من الصلاحيات المطلقة والإلزامية من أجل وضع الخطط والمقترحات القابلة للتنفيذ من أجل تشجيع مدرسي اللغة العربية على العطاء وتطوير مستوياتهم بكل الوسائل من خلال الدورات التنشيطية والتدريبية والتأهيلية، ومن ثم نبذ الفاشلين منهم واستخلاص المتميزين ليكونوا نواة تطوير تعليم اللغة العربية في المدارس العربية والأجنبية على حد سواء. ثانيا تمييز مدرسي اللغة العربية عن غيرهم من كل المدرسين لأن اللغة عصب حياتنا وعنوان هويتنا ووسيلة التواصل بين 300 مليون شخص من المحيط إلى الخليج. لماذا مدرس اللغة العربية دون غيره؟ هذا سؤال إجابته ليست صعبة أبدا فهي واضحة تماما ذلك أننا نحتاج لنقطة البداية التي من خلالها ينطلق قطار الإصلاح في كافة المجالات التعليمية. فبالتأكيد فإني لا أقلل من قيمة المواد الأخرى ولا أهميتها ولكني أعطيت اللغة العربية الأولوية على أن يتبعها بقية الفروع. ثانيا تعتبر اللغة العربية هي الوسيلة التي ننقل فيها المعلومة للطلبة ولذلك لا بد للطالب من أن يتقنها حتى يتمكن من هضم واستيعاب المواد الأخرى باستثناء مادة اللغة الأجنبية. كلنا صغارا وكبار قد عانينا بشكل وآخر بصعوبات في تعلم لغتنا العربية منذ الصغر لأسباب عديدة، هذه الصعوبة تفرض على القائمين على المجلس المقترح اختيار المدرسين ذوي مؤهلات خاصة جدا وليكن عددهم (100 مدرس) كدفعة أولى ويتم تقييم التجربة في المدارس التي باشروا فيها التدريس على أن يخضع هذا الموضوع لقواعد صارمة جدا وبكامل الصلاحيات للمجلس من أجل تحقيق الأهداف بدون عقبات الروتين التي تعاني منها المنظومة التربوية. ولا بد أن يضع القائمون المحفّزات والمرغّبات المالية والوظيفية من أجل جذب الكفاءات العالية من المدرسين للغة العربية بدل أن يكونوا من أولئك الذين تخرّجوا لأجل الحصول على أي وظيفة تمنحهم راتبا شهريا، فهذه الفئة سيكون ضررها أكبر من نفعها وقد لا يجدي معها التطوير ولا التدريب.
المدرس أولا والمدرس أخيرا هي القاعدة التي لا بد أن يسير عليها القائمون على مؤسساتنا التربوية وبدون ذلك فإني أقترح عليهم أن يغسلوا أيديهم من أي أمل مستقبلي في الإصلاح الحقيقي.  وقد يكون ما ذكره د. أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999؛ في كتابه (عصر العلم) أفضل مثل لما ذكرته آنفا، حين وجه سؤالا للرئيس الهندي عبدالكلام السابق عن سر نجاح حركة البحث العلمي في بلاده فأجاب"إنه التعليم والبحث العلمي الذي يعتمد على فكرة المراكز المضيئة". ولذلك فليكن مدرسو اللغة العربية هم نواة هذه المراكز المضيئة بالأمل والمشعة بالمستقبل المشرق وقبل فوات الأوان وساعتها لا ينفع بكاء ولا عويل إلا من أتى الله بقلب سليم.