اللغة الشاعرة - 5

د. محمد سعيد حسب النبي


أوزان الشعر
لاشك أن فن الشعر في اللغة العربية يناسب اللغة الشاعرة التي انتظمت مفرداتها وتراكيبها ومخارج حروفها على الأوزان والحركات وفصاحة النطق بالألفاظ، فأصبح لها من الشعر الموزون فن مستقل بإيقاعه عن سائر الفنون التي يستند إليها الشعر في كثير من اللغات.
وقد أكد العقاد في كتابه اللغة الشاعرة أن الشعر العربي لا يحتاج إلى إيقاع الرقص الذي يصاحب إنشاد الشعر في اللغات الأخرى، لأن أشعار تلك اللغات تستعير الحركة المنتظمة من دقات الأقدام وحركات الأجسام في حلقات الرقص أواللعب المنسق على حسب خطوات الإقبال والإدبار والدوران، ولا حاجة بالشعر العربي إلى ملازمة الإيقاع المستعار من الرقص واللعب لأن أوزانه مستقلة بإيقاعها الذي يميز أقسامها وحدودها ويغنيها عن الأقسام والحدود في الفنون الأخرى.
ولا حاجة بالشعر العربي إلى مصاحبة الغناء لترتيب أوقاته، وضبط مواقع المد والسكون في كلماته، لأنه مرتب مضبوط في كل كلمة، بل في كل جزء من أجزاء الكلمة، يجمع بين الحركة والسكون،  فما من كلمة عربية تخلو من حرف متحرك وحرف ساكن على اختلاف الترتيب بين الحركة والسكون، وما من وزن على وضع من الأوضاع لا تضبطه حركة الشعر المسموع بغير حاجة إلى الغناء.
وأسباب هذا الفن الكامل الذي استوفى أوزانه في بحوره وقوافيه تظهر من دراسة تاريخ النظم في اللغة العربية. ويشير العقاد إلى أن السبب الشامل الذي يحيط بجميع تلك الأسباب أن التركيب الموسيقي أصل من أصول هذه اللغة لا ينفصل عن تقسيم مخارجها ولا عن تقسيم أبواب الكلمات فيها ولا عن دلالة الحركات على معانيها ومبانيها بالإعراب أو بالاشتقاق.
وهذا السبب الشامل هو الذي يسر النظم المطبوع لأصحاب السليقة الشعرية من الناطقين باللغة العربية منذ أقدم عصور الجاهلية إلى هذه الأيام، فإن الشاعر المطبوع ينظم الأشعار في بحورها المتعددة بغير حاجة إلى علم يدرسه ويستهدي به غير سليقته الفنية، ولم تكن بالشاعر الجاهلي حاجة إلى دراسة العروض ولا إلى تعرف أسماء البحور وتقسيم ضروب التفاعيل، وليس لناظم الزجل في أيامنا هذه حاجة إلى ذلك وهو ينظم في كل بحر من بحور العروض وكل مجزوء من مجزوءاتها، وإنه ليجهل أسماءها وقد يجهل قراءتها في الورق كما يجهل معانيها إذا هي قرئت عليه، وكثيراً ما نظم الأزجال في بحور العروض المتعددة أناس من الأميين جهلوا كتابة الحروف كما جهلها قبل مئات السنين شعراء الجاهلية المشهورون.
ولولا جريان اللغة في ألفاظها وتراكيبها على السليقة الموسيقية لما تيسر ذلك للشاعر الجاهلي بالأمس ولا للزجال الأمي في هذه الأيام.
وقد أشار العقاد في كتابه أن الخليل بن أحمد أحصى من بحور الشعر خمسة عشر بحراً، وزاد عليها الأخفش بحراً أسماه المتدارك لأنه استدركه على العروض الذي وضعه الخليل، واستحدث الشعراء بعد ذلك في هذه البحور ضروباً من الأوزان تتسع لأغراض النظم في كل حالة من أحوال الشعور والعاطفة التي تعرض للنفس البشرية، فوافقت هذه الأوزان أغراض الحماسة والفخر والغزل والرثاء كما وافقت أغراض الغناء والرقص وأغراض القصة والمسرح وأغراض الأحاديث والثنائيات، ولم تضيق بالتوشيح والتسميط ولا بالأناشيد الفردية والأناشيد الجماعية، ولم يعجز عن التعبير بها في فنون القصة على التخصيص ناظم ذو معرفة وثقافة ولا ناظم من الأميين أصحاب السليقة المطبوعة في ملاحم العامية.
فالملحمة اليونانية الكبرى-وهي الإلياذة- نقلت إلى العربية الفصحى في هذه الأوزان، وملاحم أبي زيد الهلالي نظمت في هذه الوزان، فلم يعجز ناظمها العامي عن سرد الحوادث وحكاية الأحاديث في مواقف المناجزة أوالمعاتبة أوالغزل أوالنصيحة أوالوصف أوالرواية، ولم يزد ما استخدمه من الأوزان على أربعة بحور إلا ما ندر.
وفي اللهجات الشائعة مقطوعات نظمها الأميون والأميات في موضوعات الأفراح والمآتم والمساجلات والأمثال ولا تخرج عن أوزان تلك البحور ولا يحس الناظم الأمي أنها عسيرة عليه، فهو لا يحتاج إلى أداة غير السليقة الفنية والقدرة المطبوعة على التعبير.