اللغة .. هوية وسلاح مقاوم

أ. جواد محمود مصطفى

في البدء كانت الكلمة،والكلمة مشكلة من حروف،والحروف بمكوناتها تدل على أشياء وأسماء ذات معنى مباشر أو بالايحاء،وهي اللغة ،والله تعالى أوعز لمخلوقه البشرى الأوّل باللغة ليتعرّف على الأشياء، ويعبّر عنها، كما حدّثنا القرآن الكريم في (سورة البقرة) : "وعلّم آدم الأسماء كلها..." الى آخر الآية الكريمة،ومن هنا ندرك أن اللغة هي أساس الحياة،وبها تتفاهم البشرية مع بعضها ،ويدرك الانسان مطالبه،ويلبي حاجاته ،وبها أيضا يعبّر عن عواطفه ومشاعره .
اللغة هي ايضا سلاح ثقافي قوي وفعّال،يد الشعوب المقهورة لمقاومة المحتلين والغزاة،ولنا في الجزائر أقوى نموذج لهذه المقولة، فلم تستطع فرنسا إحلال لغتها مكان اللغة العربية رغم استخدام كل وسائل الترهيب والترغيب، فبقيت لغة الضاد هي السائدة، وكذلك في فلسطين حيث لم تستطع اللغة العبرية الهجينة والدخيلة السيطرة على الثقافة العربية الفلسطينية.
قدّر لي في العام 1976، وتحديدا في شهر أكتوبر، أن أكون في فيتنام، بعد اندحار القوات الأمريكية من جنوب البلاد في 17 يونيو1975 ، ومن الأمور التي استرعت انتباهي بشدّة خلال جولات في شوارع هانوي شبه المدمّرة، ثم في مدينة هوشي منه "سايغون سابقا" أن لوحات "آرمات" المحلات التجارية والبقالات، والأسواق، والشركات والفنادق وأسماء الشوارع والمدارس، والبنوك والشركات وغير ذلك، مكتوبة باللغة الفيتنامية فقط، ولا شيء مكتوب باللغة الانجليزية أو الفرنسية حيث كانت فرنسا قد احتلت ما كان يعرف بالهند الصينية وفيتنام جزء منها في العام 1954 ، ولا باللغة الإنجليزية كذلك .
الشعب الفيتنامي يشعر بالفخر والاعتزاز بهويته الوطنية وتاريخه، ويعتبر اللغة رمزا للسيادة والكرامة للوطن والمواطن على حد سواء، وبهذه الروح الكفاحية، إلى جانب المقاومة المسلّحة استطاع دحر القوات الفرنسية وإرغامها على الانسحاب من عموم الأراضي الفيتنامية ... وهكذا كان الحال مع المحتلّين الأمريكيين لجنوب البلاد.
وجدت نفسي مضطرا لهذه المقدمة التاريخية قبل الولوج في ما أريد من تحذير أمّة العرب بأن لغتهم، وهي الرابط الأقوى الذي مايزال يجمع أبناء الأّمة في كل أقطارهم في خطر شديد.
الاستعمار الجديد جاءنا بما يسمى بالعولمة الثقافية،تحت عناوين مشبوهة، وهو يسلك مسالك عديدة،منها تشجيع نشر اللهجات العامية "المحكية" في كل بلد عربي، ومنها الادعاء بأن لغتنا لا تستوعب أو عاجزة عن تلبية متطلبات العلوم والمعارف المستجدّة واحتياجات العصر.
في الوطن العربي مفارقات عجيبة، من هجر للغتنا القومية التي هي مكوّن مهم من مكوّنات حضارتنا التي كانت يوما مزدهرة ورمزا لعزّتنا وكرامتنا وسيادتنا القومية، ومقوّمات وحدة أمّتنا.
تجوب شوارع العواصم والمدن العربية، فترى أهل اللغة أنفسهم سواء كانوا قيادات فكرية ، سياسية أو ثقافية ،علمية واعلامية ، لم يعودوا يحفلون بالحفاظ على اللغة، فتصاب بالغثيان من المتحذلقين "المتفرنجين"، وحتى الناس العاديين وهم يرطمون بلغات أجنبية، وحتى صناعة السينما بات الممثلون يتحذلقون في حوارهم بالإنجليزية،وبات أهل الفن يكتبون أسماءهم بنظام الكليب باللغة الإنجليزية .
كما أن من الظواهر الواضحة لتراجع استخدام"اللسان العربي"، يعود إلى المناهج التعليمية في البيت والمدرسة والجامعة والبيئة الاجتماعية،وفي المقدمة من كل ذلك وسائل الإعلام المتعددة،وبخاصة المرئية منها،أي محطات التلفزة والفضائيات العربية،التي تلعب دورا خطيرا في تحجيم "لغة الضاد"، وإحلال اللهجات العامية والمحلية، مكان اللغة العربية المبسّطة والسّهلة، وتصاب بالهلع من العديد من مقدمي البرامج التلفزيونية من الجنسين يقحمون بعض المفردات والعبارات الأجنبية في سياق الحديث إلى المشاهدين والمستمعين، فكل مذيع، أو مقدّم برامج أو صحفي أو سياسي له دور مؤثر في المتلقي العربي ..وللإنصاف أقول إن الصحافة المكتوبة ما تزال أقل ضررا في هذا المجال .