اللغة الشاعرة - 8

د. محمد سعيد حسب النبي

اللغة العربية لغة المجاز
ويستطرد العقاد في كتابه إلى المقارنة بين اللغة العربية واللغات الأخرى في استعمال المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في وقت واحد، فيبدو من هذه المقارنة أن الكلمات التي تستعمل للغرضين كثيرة في اللغة العربية وليست بهذه الكثرة في اللغات الأوروبية. وقد يرجع هذا الفارق إلى غير سبب واحد، فلعله راجع إلى تطاول العهد بين بداوة الأمم الأوربية وحضارتها.
ولعله راجع إلى انتقال لغاتها إلى حالتها الحاضرة من لغات قديمة بطل استعمالها وانقطعت فروعها عن أصولها، ولعله راجع إلى خاصة عربية بدوية في التعبير بالتشبيهات المجازية أو الشعرية.
وأياً كان السبب فالخلاصة العملية التي نتأدى إليها من هذه الملاحظة –كما يقول العقاد- أننا لا نحتاج كثيراً إلى التسلسل التاريخي في وضع معجماتنا الحديثة، لأن هذا التسلسل ضروري في اللغات التي يكثر فيها إهمال الكلمة في معنى وسيرورتها في معنى آخر. ولكنه لا يبلغ المبلغ من الضرورة حين توجد الكلمة مستعملة في جميع معانيها على السواء أو على درجات متقاربة. ومن النتائج العملية لتلك الملاحظة أن نذكر في سياق التجديد والمحافظة على القديم –كما يشير العقاد- أن العرب كانوا مجددين على الدوام في إطلاقهم الكلمات القديمة على المعاني الجديدة. ونحن –أي العقاد- لا نعدو سياقنا هذا حين نلتفت إلى الأصل في كلمة القديم والأصل في كلمة الجديد، فنتخذ منها شاهداً على ما ذهبنا إليه. فالتقدم هو السير بالقدم، ويقال تقدم أي مشى بقدمه، كما يقال ترجل أي مشى برجله، وتقدمه أي مشى أمامه، ومن هنا التقدم بمعنى السبق والقديم بمعنى الزمن السابق.
ولا يدري العقاد على وجه اليقين كيف أطلقت كلمة الجديد على معناها هذا من أقدم أطوارها، ولكنه يدري أن الجد هو القطع وأن الثوب الجديد هو الذي قطع حديثاً، فلعل هذا المعنى من أقدم معاني الجديد إن لم يكن أقدمها على الإطلاق. وظاهر من جملة هذه الملاحظات أن أهل العربية جددوا كثيراً من مجازاتهم وأننا نستطيع أن نحذو حذوهم.
ويقول العقاد (إننا نحذو حذوهم) ولا نظن أننا نبعد في اتخاذ الكلمات لمعانيها المستحدثة مسافة أبعد من المسافة بين الأصل في حذو الجد وبين المجاز في دلالته على الاقتداء والاهتداء، ولا أبعد من الأصل في كلمة (المسافة) حين أطلقت على الموضع الذي يسوف فيه الدليل تراب الأرض ليعرف موقعه من السير، ثم استعيرت لما نعنيه اليوم بالمسافة وهي كل بعد بين موضعين.
وشرط اللغة علينا أن نصنع كما صنع أهلها، فنجدد في المعاني من طريق المجاز بحيث لا يكاد السامع يفرق بينهما للوهلة الأولى أهي أصل في اللغة قديم أم مجاز جديد.
في المبحث المتقدم للعقاد والذي عرض الأمثلة المتكررة التي يقترن فيها المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي في وقت واحد، لأن الصورة المجازية قد استحالت إلى ما يشبه الحروف الأبجدية في تطور الكتابة، فلم يبق من البيت إلا الباء، ولم يبق من الجمل إلا الجيم، ولم يبق من اليد إلا الدال، ولم يبق على هذا القياس من الغزال إلا خفة الحركة، ولا من المرجان المفتر عن الدر النضيد إلا احمرار في الشفة يتفتح عن ثنايا الثغر المبتسم، بغير حاجة إلى استحضار آكام المرجان وعقود اللؤلؤ وتراكيب الأفواه ذوات الشفاه.
إن قول البديعي العربي (رأيت قمراً على غصن كثيب) يربك السامع من غير أبناء اللغة العربية، ويجتهد هذا السامع في استخراج الصورة المحسوسة من أطوار هذه التشبيهات فلا يدري كيف يجتمع منها رسم جميل، ثم ينفض يديه من البلاغة العربية قائلاً لنفسه إنها بلاغة مزاج آخر يسيغ مالا يساغ في كل مزاج.
إلا أن المسألة في حقيقتها ليست من مسائل المزاج المختلف بين الأجناس، ولكنها مسألة اللغة والاصطلاح في استخدام الصور والكلمات، وليس بين الأمزجة في هذه المصطلحات كبير اختلاف لو اتفقت على المفتاح المشترك في هذا (الجفر) المكشوف.
إن العربي أيضاً يزعجه أن يضع قمر السماء على غصن الشجر على كومة الرمل ليستخرج منها محاسن إنسان يهواه ولا يعجب السامع من هواه. ولكنه يبتهج ولا ينزعج حين يفهم الصورة على طريقته في ترجمة المجاز من الصور الهيروغليفية إلى الحروف الأبجدية.
إشراق كالإشراق الذي يحسه الناظر إلى القمر، وخفة كالخفة التي يتمايل بها الغصن النضير، وجسم بض كالجسم الذي يمسك ذلك الغصن، وإنسان يتقابل فيه الإشراق والخفة والبضاضة في رشاقة واعتدال، ولا موجب بعد ذلك للحيرة ولا لنفض اليدين من بلاغة المزاج الغريب الذي يأبى أن يأتلف بكل مزاج.
وهكذا يصنع اليوم من يقرأ كلمة (أبجد) حين يذكر أنها كانت في أول عهد الكتابة خليطاً من صورة الثور والبيت والجمل واليد المبسوطة ثم ينسى هذه الصور المتراكبة في غير معنى ليجمع منها حروف الألف والباء والجيم والدال.
ويشير العقاد إلى مقولة المستشرق (أدوين هول) في كتابه عن الأندلس في ظل المسلمين: "إن أكثر هذه المنظومات مما لا يطيقه العقل الغربي، وهو رأي يصرح به الخبراء بتلك المنظومات ولا نعرف من هو أحق بالحكم عليها من جارسيا جوميز الذي يجمع بين الأستاذية في العلم والذوق المرهف لفهم القريض، وهو يقول في فصل عقده للكلام على ابن قزمان أحد الشعراء المتأخرين: (إن الصناعة اللفظية هي موضع العناية الكبرى في الأدب العربي، بين نثر مقيد بالأسجاع وبين ألوان من المجازات والأشباه، والطلاوات واللوازم، تعوزها الحرارة والشعور، وكأنما هي كلها عرض من العروض المقنعة بالبراقع حيث البسمات لآلئ، والعيون أزهار بنفسجيات، والرياحين والجداول سيوف، وإن القارئ ليجتهد اجتهاده بين ترجمات بير Peres أو شاك Schack فينوء ذهنه بما يطبق عليه من النسق المتفق المتواتر! خصور كالأغصان تنبثق من آكام الرمال، أو شاعر يشبه نفسه بالطير الذي أثقل ندى الممدوح جناحيه فأعياه أن يطير، أو برق يومض بين الغمام كأنه ضرام العشق في قلب الشاعر، يتوهج من خلل دموعه، ونصفها-أو أكثر من نصفها- قوالب منقولة يحكيها الناظمون من وحي الذاكرة)
هذا الخطأ الذريع في الحكم على الشعر العربي شائع غالب على أقوال المستشرقين –كما يقول العقاد- نفهمه ولا نرى صعوبة في فهمه إذا ذكرنا (أولاً) أن الغالب على هؤلاء المستشرقين أنهم من زمرة الحفاظ، يشتغلون بجانب الحفظ في الأدب ولا يشتغلون بلباب الأدب في لغاتهم ولا في لغات غيرهم من المشارقة أو المغاربة، فهم لا يحسنون الحكم على الشعراء من أبناء اللغات التي تخالف لغاتهم في تراكيبها ومصطلحاتها ومن أبناء الأمم التي تخالف أممهم في أمزجتها وعاداتها وقد ينظر الكثيرون منهم إلى القصيدة الرائعة فيقفون عند مجازاتها ويشعرون بالربكة التي يشعر بها عندنا من يقول مثلاً: "هات الأسطوانة" فيحضر له السامع قرصاً من أقراص الغناء المسجل، فيختلط عليه الأمر بين ما توقعه من لفظ الكلمة وما رآه بعد ذلك من حقيقة المسمى.
وكذلك يشعر المستشرق بالربكة حين يتوقف بذهنه عند مجازات التشبيه فيحسبها مقصودة لذاتها ويتقيد بقشورها اللفظية دون ثمراتها وبذورها ولا يدري كيف يطرب العربي لهذا الشعر ولا يحاول أن يرجع بالعجب إلى نفسه قبل أن يتهم أمة كاملة بضلال الحس وسوء التعبير، وهي –فيما يعلم- من الأمم التي تفخر بلسانها وتنكر العجمة من ألفاظها ومعانيها.
ولقد كان من أقرب التفسيرات إلينا –كما يرى العقاد- أن نرجع بأخطاء المستشرقين في فهم الشعر العربي إلى الفارق الأبدي المزعوم بين أذواق الشعراء في لغتنا وأذواق الشعراء في لغاتهم على تباينها، وكنا نستقرب ذلك التفسير لولا أننا نعلم أن قراءنا يتذوقون شعرهم كما يتذوقون شعرنا، وأن الفوارق الكلامية لا تحول دون ظهور المعاني الإنسانية لمن يلتمسها في مواطنها ويتحرى أن يزنها بموازينها وأن ينفذ إلى بواطنها. فليس بين الأذواق الإنسانية من فاصل في تمييز فنون البلاغة الخالدة، وإنما هو الفاصل بين الحفظ والذوق، يضاف إليه الفاصل بين المجاز في صورته الحسية والمجاز في معناه، فيحول دون الفهم الصحيح في اللغة الواحدة فضلاً عن اللغات المتعددة، وهذا هو الفاصل بين المستشرقين الحفاظ وبين محاسن الشعر العربي في ظواهره وخفاياه، وفي ألفاظه ومعانيه.