اللغة والعلم والإنسان

م. محمد يحيى كعدان

يشهد عالمنا المعاصر تطوراً كبيراً في المعارف البشرية، فيما بات يُطلق عليه عصر المعلومات، وليست العلوم اللغوية بمنأى عن ذلك التطور، فاللغة وعاء الحضارة.
ونشهد إعادة تقييم وتطوير للدراسات اللغوية للتجمعات البشرية، وإعداد دراسات جديدة للّغات واللهجات التي لم يسبق دراستها.
وتسلك تلك الدراسات اتجاهين؛ اتجاه الكشف عن النظم العامة والخاصة لبنية اللغات البشرية، واتجاهاً آخر موازياً وتطبيقياً تنعكس آثاره على الأمور العملية للفرد والمجتمع.
حيث تتم إعادة النظر في قواعد اللغة، لتحديدها وللمزيد من تطويعها؛ ولإعداد وإدماج المفردات والمفاهيم الحضارية الجديدة؛ وتناول مشاكل التعليم والكتاب والقاموس؛ والتطبيق في مجال تحليل وتركيب الخطابات المختلفة من أدبية وسياسية ودينية وعلمية... إلخ، متوفرة ضمن التراث أو خارجه؛ وتحليل المشاكل النفسية والاجتماعية الصحية والمرَضيّة المتصلة بالنشاط الكلامي؛ والمعالَجة الآليّة للنصوص والترجمة؛ وربط كل ما له صلة بالإعلاميات. لتسهيل التواصل مع مختلف التجمّعات البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل. (بتصرّف؛ عن كتاب اللسانيات واللغة العربية، للدكتور الفاسي الفهري).
ولكن ما هو وضع تلك الدراسات في لغتنا العربية حالياً؟
يقول الدكتور الفهري في كتابه "اللسانيات واللغة العربية":  "ما يلفت النظر في وضع اللغة العربية أن الأدوات الأساسية لتعلّمها وتيسير استعمالها والتفقه فيها لم تحظ بالتجديد الذي حظيت به مثيلاتها من اللغات الأخرى، بل مازال القاموس هو قاموس القرن الثاني الهجري (أو الرابع في أحسن الأحوال) تصوراً وتأليفاً ومادة، ومازالت قواعد اللغة هي قواعد نحاة القرن الثاني.
فليس همّ اللساني العربي فقط أن يُعيد النظر في تصور طبيعة اللغة العربية وخصائصها والمناهج الكفيلة بمعالجتها، بل هو مُطالب استعجالاً كذلك، برسم الأدوات اللائقة بتنمية طاقة المستعمل علاوة على أنه مُطالب بالبحث في وسائل تطويع اللغة لجعلها وظيفية".
إن الجواب عن السؤال المطروح دوماً، لماذا تكون اللغة العربية مفهومة منذ ألفي عام وأكثر لابن الثالثة عشرة في الزمن المعاصر؟  
هو أن اللغة العربية الحالية لغة شبه تامة الاكتشاف منذ ذلك الزمن، أو لنقل إنه لم يُضفْ إليها اكتشافات جوهرية منذ ذلك التاريخ.  
ويُطلَق على الدراسات اللغوية المعاصرة مصطلح: اللسانيات؛ وهي تعني الدراسة العلميّة للّغة. ومن الممكن أن نُسميها: فقه أو علم اللغة؛ ويُعَرِّفُها الأستاذ محمد الأنطاكي في كتابه "دراسات في فقه اللغة" بقوله: "فقه أو علم اللغة، هو العلم الذي يجعل من اللغة موضوعاً له، فيدرسها في ذاتها، ولذاتها... وغاية فقه اللغة هي الكشف عن القوانين التي تحكم الظواهر اللغوية".
ويُعَرِّف الدكتور الفهري النظرية اللسانية في كتابه السابق بقوله: "النظرية اللسانية، كسائر النظريات، هي بناء عقلي يتوق إلى ربط أكبر عدد من الظواهر الملاحظة بقوانين خاصة تُكوِّن مجموعة متسقة يحكمها مبدأ عام هو مبدأ التفسير. ويمكن تمثّلها كمجموعة من المفاهيم الأساسية ومجموعة من المُسلَّمات تُسْتَنتَج منها النتائج التفسيرية للنظرية. وكل المفاهيم اللسانية للنظرية تُعرَّف انطلاقـاً من المفاهيم الأساسية التي تُعتبر أوّلية. وهناك عدة إمكانيات لاختيار مجموعة الأوّليات التي يُبنى عليها النسق الاستنتاجي أو الإكسيوميّة (البدهية) التي تُشتق منها القضايا المبرهَنة".
وفي اللسانيات كونها علماً، تصبح كل الأسئلة مشروعة، بدءاً بالسؤال.. هل اللغة اختراع بشري أم اكتشاف؟ مروراً بلماذا؟ عن كل ما يتصل باللغة والكلام واللهجة من قريب أو بعيد.
في عملنا هذا نسعى لصياغة نظرية لسانية حديثة للغة العربية؛ أكثر تطويعاً، وأكثر قدرة تفسيرية من النظرية التقليدية السائدة؛ ومرتبطة بالمفاهيم الأوّلية للمنطق البشري؛ مما يُثبت أن اللغة فطرية يقوم الإنسان باكتشافها وليس باختراعها.
يعتقد عالم اللسانيات الأمريكي تشومسكي أن الطريقة الوحيدة لاستيعاب تعلّم اللغة، هي افتراض أن كل طفل مولود، مزود بالمعرفة بمبادئ النحو العالمي، وهذا يسمح له بتعلم أية لغة يحتك بها في محيطه اللساني.
يقول جون ليونز في كتابه "تشومسكي": "يقول تشومسكي في أحد منشوراته الأخيرة: إن المبادئ العامة التي تتحكم بشكل القواعد النحوية في لغة كالإنكليزية أو التركية أو الصينية هي إلى حد كبير مبادئ مشتركة بين جميع اللغات الإنسانية. ويعتقد أيضاً أن المبادئ التي تقف وراء بنية اللغة منتظمة ودقيقة إلى درجة يمكن معها اعتبارها محددة بيولوجياً. وبعبارة أخرى فإن هذه المبادئ تشكل جزءاً مما ندعوه الطبيعة الإنسانية التي تنتقل وراثياً من الآباء إلى الأبناء".
ويتابع جون ليونز في نفس الكتاب: "لنستعرض الآن النتائج الفلسفية لفكرة تشومسكي المتعلقة بالنحو العالمي:
إذا كانت جميع اللغات الإنسانية متشابهة من حيث البنية، فإن من الطبيعي أن نسأل لماذا هذا التشابه، ومن الطبيعي أيضاً، أو هكذا يبدو للفيلسوف التجريبي، أن نُجيب عن هذا السؤال بالرجوع إلى بعض الحقائق المتعلقة بالموضوع والتي نعرضها فيما يلي:
1 - إن جميع  اللغات الإنسانية تتناول الخصائص والأشياء الموجودة في العالم المحسوس والتي يُدركها - افتراضاً - جميع من يتمتعون بقدرات فيزيولوجية ونفسية سليمة.
2 - يُطلب من جميع اللغات أن تؤدي وظائف متشابهة (تقرير أشياء معينة، أو طرح أسئلة أو إعطاء أوامر، إلخ.).
3 - تستخدم جميع اللغات نفس الجهاز النفسي والفيزيولوجي، ولنا أن نعتبر طريقة عمل هذا الجهاز مسؤولة في حد ذاتها عن بعض الخصائص الشكلية للغة.
إن لجميع الخصائص التي ذكرتها علاقة بالموضوع وربما أثّرت في بنية اللغة... ويقول تشومسكي إن التفسير المعقول في ضوء ما نملكه حالياً من معرفة هو أن جميع الناس مزودون بملكة لغوية".