اللغة والمعرفة

م. محمد يحيى كعدان


منذ القديم لاحظ الإنسان أن الكون يخضع لنواميس تتفق ومنطقه، وهذا ليس غريباً (بل الغرابة تكمن في عدم الاتفاق)، لأن الإنسان أحد عناصر هذا الكون الفسيح والغني، وهو بلا شك العنصر الأهم والأغلى، حتى أن الديانات السماوية تفترض تسخيره له.
إن هذا الاتفاق في المنطق هو أساس نظرية المعرفة، ويعود إليه تمكُّن الإنسان من تفسير ووصف ما حوله علمياً، وكذلك مقدرته على صوغ أفكار منطقية يجد لاحقاً تطبيقات لها طبيعية أو اصطناعية كما هو الحال في الفيزياء النظرية.
وذلك يسمح بالتفاعل مع البيئة عبر مظاهر متعددة من عمل أو فن أو لغة... الخ.
إذ بالتدقيق نجد أن اللغة أسلوب ووسيلة تعبير (أو تواصل معرفة أو نقل معلومات) بالصوت، لا تختلف بالمضمون عن وسائل التعبير الأخرى من حركة أو رسم (والكتابة من الرسم) أو صناعة أو فعل... الخ.
فلغة التعبير لدى النحل مثلاً هي الرقص، ولدى الأصم هي الإشارة...
نلاحظ أن وسائل التعبير جميعاً تستخدم أجهزة (حيوية) ليست مخصصة فقط لها (مثلها في ذلك مثل اللغة)، ويسعى كل مخلوق للتعبير مستخدماً إمكانياته المتاحة.
ووفقاً لهذا التعميم والتصوّر ينتفي مبدئياً ارتباط مضمون (دلالة) التعبير (ومنه اللغة) بجهاز مُعبِّر (ناطق).
ومن باب تحصيل الحاصل أن ينتفي ارتباط مضمون الكتابة بوسائل توليدها.
ويتم التعبير بوجود ثلاثة عناصر:
- منطلق التعبير (في حال اللغة هو المتكلم، وفي الصناعة هو الصانع، وفي الفن هو الفنان).
- التعبير (في حال اللغة هو الكلام.. ولاحقاً الكتابة، وفي الصناعة هو السلعة، وفي الفن هو العنصر الإبداعي).
- مستقر التعبير (في حال اللغة هو المستمع، وفي الصناعة هو المستهلك، وفي الفن هو المتلقي).
إن غياب أحد العناصر الثلاثة السابقة يلغي التعبير حتماً، وبالتالي يلغي التواصل.
إن ما سبق يُدعى رياضياً بعناصر الصياغة، التي تتألف من: منطلق الصيغة، ومن الصيغة، ومن مستقر الصيغة.
وهكذا نجد أنفسنا لأوّل مرّة بحاجة إلى الرياضيات لتفسير اللغة.
واللغة كما قلنا، شأنها شأن وسائل التعبير الأخرى، اكتشاف فقط، مثلها في ذلك مثل الرياضيات، فكلنا يعلم أن الرياضيات (لغة العلم) تُكتشف اكتشافاً ولا يتم اختراعها، فهي فطرية مع منطق الإنسان.
واللغة (كما هي الرياضيات) موجودة في الطبيعة ولو لم يوجد الإنسان، فهي موجودة نتيجة وجود الفعل لبعض الطبيعة في بعضها (والإنسان بعض الطبيعة).
فالطبيعة تُعبِّر (تتكلم).. وأداة تعبيرها (لغتها) هي الفعل.
وتكون اللغة الأكثر تطوراً هي لغة القوم الأكثر اكتشافاً لها.
هناك رأي شائع، هو أن اللغة ما قد تم قوله فقط، فاللغة العربية مثلاً هي ما قالته العرب، حتى أن الكثير عاب على اللغويين القدماء إجازتهم لصحة كلام لم تقله العرب، ووضْعهم لأمثلة تدعم حججهم لم تقلها العرب قبلهم، وأنهم في النهاية شوّهوا اللغة بمقدار خدمتهم لها.
لكننا نعارض هذا الرأي ويعارضه كذلك المفهوم العلمي، لأن كل علم من العلوم يبدأ برصد الظواهر الموضوعية في مجاله ثم يقوم بتصنيفها، وفي مرحلة متقدمة يحاول وضع نظرية تفسيرية لهذه الظواهر تفسّر الواقع وذات قدرة تنبئية عن ظواهر المستقبل، فالعلم دوماً يُفسّر الواقع ويتنبأ بالمستقبل، وإلا لما تمكن الإنسان من تصميم الاختراعات وبناء الحضارة .
وبالتالي تتطور النظريات العلمية باتجاه زيادة ساحة تفسير الواقع والتنبؤ بالمستقبل. فنظرية الميكانيك التقليدي مثلاً تفسّر حركة الأجسام ومنها حركة الكواكب، وتتنبأ بمواقعها مستقبلاً، ولكن عندما تم رصد ظواهر جديدة للمادة التي تتحرك حركة سريعة جداً لم تستطع النظرية السابقة التنبؤ بها، جاءت النظرية النسبية لتغطي هذا النقص، وهكذا دواليك يتطور العلم ونظرياته.
ونجد بالمقارنة أنه مطلوب من أية نظرية علمية للغة أن تفسّر ما قد قيل وما سيقال أيضاً، لأننا نتيجة التطور الحضاري بحاجة دوماً إلى توليد كلمات جديدة ذات معان تُعبِّر عن المخترعات والمعارف الجديدة للإنسان.
قام سيبويه وابن جني منذ ألف عام تقريباً بتبديل مواقع الأحرف في الفعل الثلاثي في اللغة العربية مع بعضها بعضاً، وتم الحصول من ذلك على عدة أفعال ثلاثية تشترك بالأحرف، أسقط من هذه التباديل مالم تقله العرب وأثبت منها ما قالته (مثل التباديل: ضرب، ربض، ... الخ).
ولكن أليسَ الأفضل والأجمل أن نجد نظرية لغوية تعطي معانياً لكل هذه التباديل، فتتفق في بعضها مع ما قالته العرب وتعطي معنى جاهزاً للاحتياجات المستقبلية في بعضها الآخر كما هو الحال القائم (كما قلنا) في الفيزياء النظرية؟