اللغة الشاعرة - 9

د. محمد سعيد حسب النبي

الفصاحة العلمية
ويستطرد العقاد في كتابه قائلاً: للأمم في تنافسها بالمناقب والمزايا ألوان من المفاخرة بلغاتها يضيق بها نطاق البحث في بضعة سطور، فمنها التي تفخر بوضوح عباراتها وعذوبة جرسها، ومنها التي تفخر بوفرة كلماتها واتساع ثروتها من ألفاظ الأسماء والأوصاف والأفعال، ومنها التي تفخر بثرائها الأدبي وذخيرتها الفنية، ومنها التي يزعم أبناؤها أنهم هم الناطقون المبينون ومن عداهم متبربرون، لا يبينون عن أنفسهم ولا يحسنون فهم البيان من الآخرين.
ومعظم هذه المفاخر دعوى لا دليل عليها، أو دعوى لها أدلتها التي تتشابه وتتقابل ولا ترجح فيها الكفة مرة حتى تقابلها الكفة الأخرى برجحان مثله، فلا تنهض فيها حجة بينة ولا يزال الناس من شتى الأمم ينظرون إليهم نظرتهم إلى العادات الشائعة بين الناس في مناظراتهم ومفاخراتهم، وحجتهم الكبرى –كما يقول العقاد- (أنانية) قومية تشبه (أنانية) الفرد في حبه لنفسه وإيثاره لصفاته بغير حاجة إلى دليل، أوالقناعة بأيسر دليل.
ولكن الفصاحة العربية في دعوى أهلها مفخرة لا تشبه هذه المفاخر في جملتها، لأن دليلها العلمي حاضر لا يتعسر العلم به والتثبت منه على ناطق بلسان من الألسنة، ولا حاجة له في هذا الدليل إلى غير النطق وحسن الاستماع.
إن اللفظ الفصيح هو اللفظ الصريح الذي لا لبس فيه ولا اختلاط في أدواته، وهذا هو (اللفظ العربي) بدليله العلمي الذي لا تعتمد دعواه على (أنانية) قومية ولا نزعة عاطفية، تقابلها نزعات مثلها عند غير العرب من الناطقين بلغات الحضارة.
فلا بأس بين مخارج الحروف في اللغة العربية، ولا إهمال لمخرج منها، ولا حاجة فيه إلى تكرار النطق من مخرج واحد، تتوارد منه الحروف التي لا تتميز بغير التثقيل أو التخفيف.
وجميع المخارج الصوتية في اللسان العربي مستعملة متميزة بأصواتها، ولو لم يكن بينها غير فرق يسير في حركة الأجهزة الصوتية.
والفصاحة هي امتناع اللبس –كما سبقت الإشارة- وهذه هي الخاصية النطقية التي تحققت في اللغة العربية لمخارج الأصوات كما تحققت للحروف. ويضرب العقاد أمثلة على ذلك منها:
فليس في اللغة العربية حرف يلتبس بين مخرجين، وليس في النطق العربي مخرج ينطبق فيه حرفان. وليس في اللغة العربية حرف يستخدم مخرجين كحرف (بس) في اللغة اليونانية وهو مختلط من الباء الثقيلة والسين. وليس فيها حرف يستخدم مخرجين كحرف تشي في تلك اللغة وهو خليط بين التاء والشين. وليس فيها حرف يعبر عنه بحرفين كالذال أو التاء اللذين يكتبان بما يقابل عندنا التاء والهاء (th) ويتغير النطق بهما في مختلف الكلمات.
ولا تزدحم أصوات الحروف في اللغة العربية على مخرج واحد كما تزدحم الفاء والفاء الثقيلة والباء والباء الثقيلة (f،v،b،p) مع ترك مخارج الحلق مهملة، وهي تتسع من أقصى الحلق إلى أدناه لسبعة حروف هي الهمزة والهاء والألف والعين والحاء والغين والخاء، وهي مميزة في النطق والسمع بغير التباس ولا ازدواج في الأداء.
ولا يلزم في اللغة العربية أن يكون لكل حرف مخرج مستقل في جهاز النطق الذي يشترك فيه الحلق والحنك واللسان واللثة والشفتان، بل كل ما يلزم فيها أن يكون جوهر الحرف سليماً في مجراه من الجهاز الصوتي، وهو في موقعه من السمع، لحسن استخدام ذلك الجهاز وحسن التمييز فيه بين الأصوات المتشابهة أو المتقاربة، فقد يتقارب الحرفان حتى يقع بينهما الإبدال على الألسنة مع اختلاف اللهجات، ولكنه إبدال لا ينشأ من غموض الحرف والتباسه، بل يأتي من اختلاف السهولة والصعوبة مع وضوح الحرفين، فلا التباس بين الذال والدال ولا بين الحاء والهاء ولا بين التاء والثاء، ولا بين حروف الإبدال على العموم، ولكن سبب الإبدال بينها أن حرفاً منها أسهل من حرف في اللهجة السريعة أو اللهجة الدارجة، وجوهره مع ذلك مستقل واضح الاستقلال عند المقارنة بينها في السماع.
واللسان العربي المبين يتجنب اللبس في الحركات الأصيلة كما يتجنب اللبس في الحروف الساكنة، فلا لبس بين الفتح والضم والكسر والسكون، وإذا وقعت الإمالة بين حركتين لم تكن وجوباً قاطعاً تثبته الحروف، بل كان قصاراه أنه نمط من أنماط النطق يشبه العادات الخاصة عند بعض الأفراد أو بعض الجماعات في أداء الحركة وإشباعها أو قصرها، كيفما كان رسم الحرف في الكلام المكتوب وكيفما كان جوهره المميز في الكلام المسموع.
ويقول العقاد في كتابه إن فصاحة النطق مزية نادرة تمتاز بها اللغة العربية فليست هي دعوى من دعوى الفخر والأنانية، ولكنها حقيقة يقررها علم وظائف الأعضاء. لأن جهاز النطق في الإنسان وظيفة معروفة، ولا خفاء بالفرق بين تقسيماته التي تستوفي الأداء وتميز الحروف والمخارج وبين تقسيماته التي تعطل بعض الأداء ويعرض فيها اللبس والتلفيق لما تؤديه، فإن الحكم في ذلك كالحكم على أداة ناطقة أوعازمة من أدوات الأنغام والأصوات.
ويرى العقاد أنه بقي أن نعرف كيف انفردت اللغة العربية بهذه المزية النادرة؟ هل هي مزية من مزايا المصادفة لا تعرف لها علة طبيعية؟ أو هي نتيجة من نتائج التطور الطبيعي، أو نتائج الاختيار بين الأفصح من اللهجات وبين اللهجات التي دونها في الفصاحة على ألسنة المتكلمين بلغة واحدة؟
إن تعليل هذه الفصاحة بالتطور الطبيعي كاف لتفسير هذه الظاهرة في اللغة العربية، فإن لهجات النطق بالحروف العربية إنما هي لهجات قبائل متعددة تنطق بلسان واحد، وتتهيأ أسباب الانتخاب الطبيعي في هذا اللسان لتتابع الاتصال بين الناطقين به من أبناء القبائل المتعددة، خلافاً للأمم الأخرى التي تختلف لغاتها وتفترق مساكنها ولا تظهر آثار التطور اللغوي عندها في بيئة واحدة تتفاهم بلسان واحد.
فلا يخفى أن جهاز النطق واحد في الناس من أبناء الأمم المختلفة وكل ما يتفق له من العوارض الحسنة أو المعيبة يجوز أن يتفق للإنسان العربي في حالة من حالاته، وقد شوهد هذا التشابه في المخارج الصوتية بين لهجات بعض القبائل العربية ولهجات الأمم الأخرى، ولكن الفرق في الحالتين أن لهجات النطق العربي قد اجتمعت في لسان واحد ينتهي إليه الاختيار ويبقى فيه متداولاً بين أبنائه، ولم يتفرق بين أشتات من الأمم يأخذ كل شتيت منه بنصيب غير نصيب سواه.
فاللهجات العربية وجد فيها ما وجد في أمم عدة من التباس النطق بالجيم والياء والكاف والشين والخاء والظاء والتاء وغيرها من مخارج الأصوات التي يكتبونها أحياناً بحرف واحد وأحياناً بحرفين أو أكثر من حرفين. فالياء تنطق جيماً في لغة فقيم، وتنطق جيماً بعد العين فقط في لغة قضاعة، وقد تنطق الجيم ياء في لغة بعض القبائل على عكس لغة فقيم وقضاعة. وتبدل كاف الخطاب المؤنثة شيناً وكاف المذكر سيناً في لغة ربيعة، ويطرد إبدال الكاف شيناً في إحدى اللغات اليمانية.
وقد عرض العقاد لما لخصه الأستاذ حفني ناصف من أن معظم الحروف التي يقع فيها اختلاف النطق في رسالته القيمة عن حياة اللغة العربية، فذكر منها حرفاً بين الطاء والثاء وحرفا بين الظاء والثاء وحرفاً بين الباء والفاء وحرفاً بين الشين والجيم.
كما ذكر حروفاً أخرى تتردد بين القاف والجيم والكاف ويتشابه فيها النطق بين أبناء اللغات السامية واللغات الآرية في مواطن متفرقة لا يجمعها إقليم واحد.
وليس بمستغرب أن يؤدي الاتصال بين البادية والحاضرة إلى تهذيب بعض الأصوات تبعاً لاختلاف لهجة الحديث في الصحراء الواسعة وفي مجالس المدينة، وقد يكون للتنقل بين رحلات الشمال ورحلات الجنوب مثل هذا الأثر مع ما يقترن به من آثار الرخاء أو الخشونة في أطوار اللهجة الواحدة، ثم يؤدي ذلك مع الزمن إلى اصطفاء لهجة واحدة مفضلة تكون لها الغلبة على سائر اللهجات، وتعم هذه اللهجة بعد ذلك إذا اشترك الناطقون باللغة جميعاً في حفظها وترديدها، وقد حدث ذلك في اللغة العربية خاصة على نحو لا يتفق لغيرها من الزمن القديم والحديث، فأصبح اللسان العربي المبين لساناً واحداً، لكل من يحفظ القرآن الكريم أو يتلوه.
ولا ننس –كما يقول العقاد- أن العرب تباينوا أول ما تباينوا بنطق بعض الحروف، ولكنهم اتفقوا جميعاً في خاصة واحدة من خواص جهاز النطق وهي استخدام أصوات الحلق التي أهملت جميعاً في كثير من اللغات، ويعلل بعضهم ذلك بعلة الجو والمناخ حيث يتيسر للعربي أن ينفتح صدره للهواء ولا يتيسر ذلك لأبناء البلاد الباردة، وحيث يحتاج العربي إلى النداء في الصحراء ولا يحتاج إليه سكان المدن والأدوية المتجاورة، ومنهم من يحسب أن بعض مخارج الأصوات التي تشبه القاف والخاء والعين مألوفة في مسامع الرعاة الذين استمعوا طويلاً إلى أصوات الإبل والضأن وأصوات السباع في الفلوات، وهو تعليل يقال ولا نظنه يفسر انفراد العربية ببعض الحروف التي لم ينطق بها الرعاة والمستمعون بجوار الفلاة إلى أصوات السباع.
وإن هذه التعليلات لتذهب مذهبها من الظن المقبول أو المردود، ولكنها تنتهي إلى حقيقة تعلو على الظن، وهي أن النطق الفصيح فضيلة الحيوان الناطق وأن الفصاحة العربية قد بلغت بأداة النطق الآدمية غاية ما بلغه الإنسان المعبر عن ذات نفسه بالكلمات والحروف.