اختلافُ اللغاتِ سُنَّة كوْنيّة لا تُفسدُ الأخوّة والوحْدة الوَطنيّة

أ.د. ياسر الملاح

مُنذ مدةٍ لفتَ انتباهي الحوارُ الذي يدورُ بين إخوانِنا في المَغرب الشقيقِ حولَ لغةِ التدريسِ، وذلك على صفحةِ صاحبةِ الجلالةِ اللغة العربيّة، وعلى المَوْقع المَغربيِّ "هسبريس"، فهل تكونُ لغة التدريس في المغرب العربيّة الفصْحى؟ أم هلْ تكونُ الفرَنسيّة؟ أمْ هلْ تكونُ العاميّة الدارجَة ؟ أم هل تكونُ الأمازيغية؟ ولكلِ اتجاهٍ مُناصروه ودُعاتُه، غيرَ أنّ منْ يقرأ سطورَ الحِوارِ يُمكنُه أنْ يَكتشفَ ما وراءَ السطورِ من صراعٍ خطيرٍ لا بد من التحدث عنه بموضوعيةٍ، وعندما يَسْعى المرءُ للكتابةِ بموضوعيةٍ، فهو لا يريد أن يناصرَ فريقا ضدَ آخرَ، ولا يُريدُ أن يُسديَ النصحَ والإرشادَ، ولكنه يريدُ أنْ يلفتَ النظرَ إلى خطورةِ هذا الحوارِ على وحدةِ المجتمع المَغربيِّ وانسجامِ خلاياه.
لقد اطلعْتُ على ثلاثِ مقالاتٍ في هذا السياقِ : المقالة الأولى للأسْتاذِ معاذ أوزال بعنوان :" مَلغاة- ومن اللغة ما علم"، والمقالة الثانية لـ أ. عبد الصمدِ بلكبير بعنوان:" لماذا يُحاربون العربية ؟"، والثالثة لـ أ. بلال التليدي بعُنوان :" في لغة التدريس وتدريس اللغات: في الخيارات العملية"، وغيرها من المقالاتِ. والمحورُ الأساسيُّ لهذه المقالاتِ أنَّ خيارَ العربيةِ لغة للتدريسِ هو أمرٌ أساسيٌّ لأنّ اللغة العربية لغة الحضارةِ العربيةِ التي يَنتمي لها البلدُ، ولأنها لغة قوية في بنْيتِها ومُفرداتِها واشتقاقِها، وغير هذا مما تمتازُ به العربية. كما اطلعتُ على كتاباتٍ أخرى ترى أنّ الأمازيغية هي اللغة الأصْليّة للمَغْرب وأنّ العربية لغة استعمارية. غيرَ أنّ ما أحزنني تلك التعليقاتُ التي قرأتُها بعدَ كلِ مقالةٍ، ولمْ أكنْ أعرفُ بتاتا أنّ المغربَ يعيشُ هذه الفرقة القومية مع أنه بلدٌ مسلمٌ، واللغة الأساسية للإسلامِ هي العربية، لأنها باختصارٍ شديدٍ لغة كتاب اللهِ المنزلِ على سيدِنا محمدٍ، صلى الله عليه وسلم، وهي لغة الأحاديثِ النبويةِ التي تمثلُ المصدرَ الثاني للتشريع الإسلاميِّ، ولأنّ كنوزا من التراثِ الذي ألفه أبناءُ المغرب في الماضي القريب باللغةِ العربيةِ، وهذا وحدَه كافٍ لتوحيدِنا ومنعِ الفرقةِ البغيضةِ بيننا.
وإنّي ليحزُنُني مَرة أخْرى أنْ أقرأ تَعْليقا يقولُ فيه صاحبُه :
" التعريب جريمة شنعاء في حق المجتمع المغربي... التعريب يعني ببساطة تعريب من ليس عربي (هكذا وردت في النص)... أي الأمازيغ. اللغة العربية لغة أجنبية أسيوية (هكذا وردت في النص) وليست لغة الشعب المغربي وهي تثبت أن الاستعمار العربي لا زال في المغرب. كما أنها لغة الدين وليست لغة العلم ولا الحياة اليومية."
ثم أقرأ تعليقا آخرَ يقولُ فيه صاحبُه:
" ...وهذا يعني أنكم حزب ينتمي للقومية العربية... والهوية العربية... وهذا يعني تعريب البقية الباقية من الأمازيغ. ماذا فعل العرب في سوريا والعراق ومصر... ماذا أضافت لهم العربية سوى الفوضى والهمجية. نحن مسلمون أعاجم ولسنا عرب (هكذا وردت في النص) ولن نكون عربا..."
ويقولُ آخرُ كذلك :
"...أنا مستعرب كباقي المغاربة الذين تم تعريب آبائهم وتعريبنا قسرا من أجل خدمة إديولوجية وجريمة التعريب وملء دماغنا بل وغسله بخزعبلات أتت من المشرق وتبناها أصحاب المصالح في المغرب منذ الخمسينات... أقول لقد جاءت الساعة وأريد أن أرد الاعتبار للغة أجدادي وهويتي وأرضي التي فقدها أيضا آباؤنا بفعل التعريب التخريبي... أما العربية فهي أيضا دخيلة ولكن أسمح بتعليمها فقط من أجل الدين والصلاة..."
ويقولُ رابعٌ في الموضوع نفسِه:
" ... نستحضر واقعنا الأليم الذي خربته العربية بعد جعلها أداة تخريب وتعريب العقل المغربي والروح الفكرية لأبناء الأمة الأمازيغية وأصبحت عائقا ضد صفاء ذهننا، فكم من طالب علم يستطيع أن يعبر ويوصل علمه أو فكرته بكل اختصار وإفادة وبنتيجة إيجابية في حين يتعثر طول الوقت ويضيع نصف وقته إذا أراد أن يوصل نفس الفكرة بلغة عربية دخيلة على وجدانه، فهذا معناه أننا ضيعنا نصف عمرنا في تعلم لغة ميتة ناهيك عن صرف الأموال الهائلة على العربية النصف ميتة خدمة لتعريب الشعب عنوة... ماذا نفعل بلغة عربية نصف ميتة تتكلمها أمة متخلفة لن تستطيع إنتاج ولو حبة من العلم، لذا فنحن نعيش في عصر الجاهلية تتحكم فينا أهواء أصحاب الفساد... وكل همهم تبديل اللسان الأمازيغي من أجل الاستعلاء والبقاء على الثراء ونهب أموال الشعب... وأقترح جعل الدارجة في التعليم الأولي فقط والأمازيغية اللغة الأولى في كل الميادين خصوصا الجامعات، أما العربية في الدين فقط..."
إنّ هذا الكلامَ لا يكونُ إلا من أعْداءٍ يتسرَّعون في الحُكمِ وتقديرِ الأمورِ، وأسألُ الله أنْ يكونَ حجمُ الذين يمثلون هؤلاء المُعلقين نزرا وقلة قليلة تغردُ في غيرِ السرب الصحيح للمَغرب الشقيقِ، أمّا أنْ يصدرَ عن شعب واحدٍ فأمرٌ مستغرَبٌ إلى أبعدِ الحُدودِ إلا إذا كان وراءَ الأكمةِ ما وراءَها!!! واللهِ إنَّنا نحنُ، في المشرق، لنعتزُ الاعتزازَ كله بالمُرابطين، وعلى رأسِهم يوسفُ بنُ تاشفين الذي لمْ يكنْ يعرفُ العربية، وسرُ اعتزازِنا به هُوَ أنه مُسْلمٌ مُجاهدٌ هبَّ لنجدةِ إخوانِه في الأندلسِ عندما كانتْ مُهددة من أعْداءِ الإسلامِ هناك. وكما هوَ اعتزازنا بالمُرابطين يكونُ اعتزازنا بالمُوحِّدين الذين حَملوا لواءَ الجهادِ في الأندلسِ كذلك، ونحنُ ننظرُ إلى الأمّةِ نظرة الجَسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعتْ له سائرُ الأعضاءِ بالسهرِ والحُمّى. إنّ المغربَ بعربه وأمازيغه جسدٌ واحدٌ، وهوَ عضوٌ مهمٌ من أمةِ الإسلامِ العظيمِ، ونحنُ لا نقبلُ أنْ يُفرضَ تعليمُ العربيةِ على أيٍ كانَ وهوُ كارهٌ لذلك. وإني لأتساءلُ: من الذي أجبرَ سيبويهِ على أنْ يُقعِّدَ للعربيةِ، فيكتب كتابَه الخالدَ ( الكتاب )، وهو ليسَ من العرب؟! أليس هو الدين الذي دفعَه لهذهِ المَهَمةِ الشريفةِ؟! ثم اقرأ هذا النصَّ للزمخشري وهوَ منْ أصلٍ غيرِ عربيٍّ حيث يقولُ:
"...اللهَ أحمدُ على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يُجْدِ عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين، والمشق بأسنة الطاعنين...ولعل الذين يغضون من العربية ويضعون من مقدارها، ويريدون أن يخفضوا ما رفع الله من منارها، حيث لم يجعل خَيْرة رسله وخير كتبه، في عجم خلقه ولكن في عربه، لا يبعدون عن الشعوبية منابذة للحق الأبلج، وزيغا عن سواء المنهج... وذلك أنهم لا يجدون عِلـْما من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بَيِّن لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع...".
فمَن الذي فرضَ على هذا العالِمِ الجليلِ أنْ يُعْلن تعصّبَه للعرب والغضب لهُمْ وهو غيرُ عَربيّ؟ وها هوَ يحمَدُ اللهَ لأنه جَعله منْ عُلماءِ العربيةِ، ولأنه عَصَمه منْ مَذهَب الشعوبيةِ الذي يَغضُّ من العربيةِ، ويضعُ من مِقدارِها، ويخفضُ ما رفعَ الله من مَنارِها، ولا يبتعدُ عمَلهمْ هذا عنْ منابذةِ الحقِ الأبلجِ، والزيغ عن سَواءِ المَنْهج.
وإذا عدْنا إلى التاريخ الإسلاميّ سنجدُ أنّ أكبرَ عمليةِ تحولٍ لغويّ أو تعرّبٍ لغويّ حصلتْ في العصرِ العباسيّ، فهناك شعوبٌ بكامِلِها اتخذتِ العربية لِساناً، فتشربَها كبارُها وصغارُها طواعية وحُبّا وإعجابا بالعرب والعربيةِ، ولمْ يكنء ذلك بدوافعَ مصلحيةٍ دنيويةٍ، ولكنّ هذا كله قدْ حدث إيمانا بالله وكِتابه العظيمِ وبالرسولِ القدوةِ. فالمسلمُ الذي يحرصُ على قراءةِ القرآنِ ويُحبُ الرسولَ الأكرمَ لامَناصَ منْ أنْ يُحبَ العربية لأنها لغة القرآنِ ولغة الحديثِ الشريفِ، أما مَن يزعُمُ أنه مُسلمٌ، ثم يَعتبرُ العربية لغة مُتخلِفة، كما وردَ في تعليقاتِ من أوردنا تعليقاتِهم سابقا، ثم يعودُ لِيقولَ: إنه يُحافظ على العربيةِ لخدمةِ الدينِ وللصلاةِ، فهو في موقفٍ غيرِ سويّ، وفي تناقضٍ يَسْهلُ اكتشافُه وفضْحُه.
إنّ الحكمَ على اللغةِ العربيةِ بأنها لغة عظيمة لم يذهبْ إليه العربُ وحدَهم، ولكنّ نفرا لا يُستهانُ به مِن عُلماءِ الغرْب والشرقِ ذهبوا إلى هذا المَذهب، ولم يكنْ وراءَ آرائهمْ إغراءٌ مَصلحيٌّ أو نفعيّ، ولكنهم قالوا هذا اختيارا ونزولا عندَ حقيقةِ ما اعْتقدوه. لنقرأ لِيوهان فكْ في كتابهِ "العربية"، ثمَّ لنقرأ لبرجستراسر في كتابهِ "التطور النحْوي" عندما يتكلمُ عن خصائصِ العربيةِ ومَزاياها، ولنقرأ لبروكلمان وغيره مِمَّنْ أرَّخوا للأدب العربيّ مِمّا يَعْني أنّ الأدبَ العربيَّ ظاهرة أثبتتْ وجودَها في مَعمعانِ الثقافةِ العالميةِ والإنسانيةِ، وأنه أدبٌ يَستحقُّ الدراسة. وإني لا أريدُ أنْ أسهبَ في هذا الباب لأنه أمرٌ تجاوزه الباحثون وأقروا بنتائجه، ولمْ تَسْلمِ العربية إلا منْ فريقس واحدٍ في العالمِ همْ أعداءُ هذه الأمةِ، وأعداءُ هذا الدينِ العظيمِ، ثم المستعمرون الذين لا هَمَّ لهم إلا الإفساد في الأرضِ.
وإني لأتساءلُ : ما الذي يَضيرُ هؤلاءِ الذين يُعادون العربية التي غطتْ شمسُها على كلِ نجمٍ ماضيا وحاضرا، أنْ تكون لغة تدريسٍ لأهْلِها ولمَنْ يرغبُ في ذلك من المسلمين من غيرِ العرب؟ وبخاصةٍ أنّ الدستورَ المغربيَّ قد ضَمِنَ حقَّ الأمازيغيةِ للشعب الأمازيغيّ، وبذلك يَستطيعُ الأمازيغيون أنْ يَجتهدوا لجعلِ لغتِهم في مَصافِ اللغاتِ الكبْرى في العالمِ، وإني لأرجو مِنْ هؤلاءِ الذين يُهدِرون أوقاتَهم في السباب غيرِ المُسَوَّغ إطلاقا، لا في العلمِ ولا في الأصولِ الاجتماعيةِ، أنْ يَسْتغلوا جهودَهم في أمورٍ تفيدُ الشعبَ المغربيّ. وقدْ قرأتُ لبعضِ الباحثين، لِتسويغ غربَةِ اللغةِ العربيةِ على تراب المغرب، ربْطهمْ اللغة بالتراب الوطني ذاهبين إلى أنّ الأمازيغية هي اللغة الوحيدة التي يَجبُ أنْ يتكلمَها أهلُ المغرب لأنها لغة تراب أهلِ المغرب قبلَ أنْ يأتيَ العربُ إلى المغرب، وهذا ربْط عجيبٌ، فاللغة نشاط إنسانيّ قدْ يَسْطعُ نجمُه في أيِّ مكانٍ إذا تهيأتْ لهذا الانتشارِ جُمْلة من الشروطِ المَوْضوعيةِ، وعندئذ فإنّ منْ حقِ أيِّ إنسانٍ أنْ يتخذها لسانا إذا شاءَ ذلك. ونحنُ لا نحظرُ على أيِّ إنسانٍ أنْ يُدليَ برأيه كما يشاءُ، ولكنْ يُشترط في هذا الرأي أنْ يحققَ وحْدَة الشعب لا تمزيقه تمزيقا مُريبا ويُلهبَ الصراع بين أفرادِه فيما لا يُجْدي نفعا. إنّ عُقلاءَ الأممِ طوالَ التاريخ الإنسانيِّ يبحثون عما يقربُ الناسَ من بعضِهم في المشاعرِ والأخلاقِ الفاضلةِ التي تحُدُّ من الصِّراع المشبوب بينهم، وهل وُجدَ في تاريخ الإنسانيةِ مثلُ دينِنا الحنيفِ الذي جعلَ سلمانَ الفارسيَّ قدوة لكلِ عرَبيٍّ وهوَ ليْس عَربيّا؟ وكذلك بلالا الحبشيَّ وصُهيبا الروميّ وصلاحَ الدينِ الأيوبيِّ، وكلَّ الذين ضربوا أروع الأمثالِ في التقوى والعملِ الصالحِ، وهمْ جميعا منْ غيرِ العرب، جَعلهم الإسلامُ رموزا لا تُنسى أبدَ الدهرِ، ومناراتِ هدايةٍ للعرب ولغيرِ العرب، فهلْ نجد مثلَ هذا، في تاريخ المبادئِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ،  مِثالا في الأخوةِ والتقارب؟!؟