القصة القصيرة و قصيدة التفعيلة إلى انقراض

أ. فيصل سليم التلاوي

   مثلما تنشأ في الطبيعة أجناس و يتطور بعضها، و تتغير هيآتها و أعضاؤها طولا و قصرا، أو نموا مفرطا و ضآلة، تبعا للحاجة الملحة و ضرورة التكيف، بينما تنقرض أجناس أخرى على مدى الزمن. يحدث كل ذلك تبعا لتغير الظروف المناخية و البيئية و عوامل أخرى متعددة، فإن نفس نظرية النشوء و الارتقاء و التطور، التي تنطبق على الكائنات الحية، يمكن أن تنطبق على أنواع العلوم و الآداب و الفنون، التي يزدهر بعضها و يقفز قفزات واسعة في زمن من الأزمان، بينما يضمحل غيره و يتلاشى أمام تأثير عوامل التدافع و التنافس، بتبدل أذواق و مفاهيم و احتياجات متابعي هذه العلوم و الآداب و الفنون في كل عصر.
    بعد هذه المقدمة نرى لزاما علينا أن نسجل رصدنا، لما نراه رأي العين من ملامح انقراض فنيين أدبيين، يتناقص أعداد مبدعيهما و عدد الإصدارات في كليهما، و يَقِلُ إقبال القراء عليهما، و انصرافهم عنهما إلى ألوان أدبية أخرى، و أقصد بهذين الفنيين ( القصة القصيرة ) و ( قصيدة التفعيلة ).
    أما القصة القصيرة: هذا الفن الأدبي الحديث نسبيا الذي لا يتجاوز عمره القرنين من الزمان عالميا، و أقل من قرن واحد عربيا، فهي في أبسط تعريفها: تلك القصة التي يمكن قراءتها في جلسة واحدة، و لا تتجاوز بضع صفحات، و تجتمع فيها وحدات الزمان و المكان و الحدث، و تتناول في العادة حادثة واحدة أو شخصية واحدة، أو موقفا معينا. و يعد الكاتب الروسي غوغول أب القصة القصيرة، لكنها تطورت بعده، و ترسخت على يد ثلاثة كتاب عظام هم: الكاتب الأمريكي إدغار ألن بو، و الفرنسي جي دي موباسان، و الروسي أنطوان تشيكوف، و ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
 هؤلاء هم الآباء الثلاثة لفن القصة القصيرة، و إن اختلف أسلوب كل منهم، فبينما عمد إدغار ألن بو للاستفادة من الرموز و الخيالات، و جاءت قصصه بعضها تحليلي و الآخر خيالي، فإن جي دي موباسان هو أول من اختار أن تكون القصة القصيرة معبرة عن لحظة محددة، و غايتها اكتشاف الحقائق من الأمور الصغيرة، أما أنطوان تشيكوف فقد كانت قصصه ناقدة للحياة الاجتماعية و السياسية في روسيا في أواخر القرن التاسع عشر، و جاءت قصصه قريبة من الأجواء الأسرية و تتسم بالدفء و الحنو.
    و بعد هؤلاء الرواد ذاع صيت القصة القصيرة، و تعدد كتابها في كافة أنحاء العالم. أما في عالمنا العربي فقد ظهرت بواكير القصة القصيرة في أوائل القرن العشرين، على يد محمود تيمور، حيث كانت قصته ( في القطار ) البداية المكتملة لقصة قصيرة، و بعد ذلك ازدهر هذا الفن و كثر كتابه و مريدوه، و بلغ أوجَهُ في منتصف القرن العشرين، و أبرز أعلامه يوسف إدريس و يحيى حقي و زكريا تامر و فؤاد التكرلي و غسان كنفاني و عشرات غيرهم، و امتلأت المكتبات بالمجموعات القصصية، كما أوسعت الصحف اليومية و الأسبوعية و المجلات الأدبية صدر صفحاتها لكتاب القصة القصيرة، و وصل هذا الفن إلى أوج قمته و تألقه في عقدي الستينات و السبعينات من القرن الماضي.
    لكن الراصد للساحة الأدبية لا يغيب عن ناظريه، أن نجم هذا الفن قد بدأ يأفل، فلم يعد في أحسن حالاته كسابق عهده، بل إن أضواء الشهرة التي واكبته في النصف الثاني من القرن العشرين، قد بدأت تخبو لصالح فن قصصي آخر هو ( الرواية ) التي أخذت تنتشر سريعا، و يقبل على كتابتها أعداد لا حصر لها من الكتاب، فبعد أن كانت مقتصرة على أسماء يمكن تعدادها، كنجيب محفوظ و جمال الغيطاني و يوسف القعيد و عبد الرحمن منيف و حنا مينا و جبرا ابراهيم جبرا و الطيب الصالح و غيرهم. انتشرت اليوم انتشارا واسعا يعجز المتتبع عن حصر كتابها، و صارت قوائم الروايات التي تتقدم للمنافسة لنيل جائزة البوكر للرواية العربية، أو لجائزة كتارا للرواية العربية تعد بالمئات ، حتى تبدل القول القديم ( الشعر ديوان العرب ) إلى قول جديد ( الرواية ديوان العرب )، و لا ضير في ذلك فهو تنافس إبداعي جميل.
   لكن المؤسف أن موسم الهجرة إلى الرواية، قد جاء على حساب القصة القصيرة، فكأنما هجر كتاب القصة القصيرة فنَّهم ليلتحقوا بالفن الجديد، حتى من أمضى منهم عمرا بطوله متفرغا لكتابة القصة القصيرة و القصيرة جدا مثل محمود شقير، الذي نجده قد تحول أخيرا إلى كتابة الرواية، فأصدر حديثا روايتيه ( فرس العائلة ) و ( مديح لنساء العائلة ) بعد أن كان إبداعه مقتصرا على القصة القصيرة قرابة نصف قرن ، ويندر أن تجد بين كتاب القصة القصيرة من يتمسك بموقعه فلا يبرحه، و لا يغادره إلى ميدان الرواية، و أبرز هؤلاء  في مواقعهم القاص زكريا تامر، الذي عبر عن موقفه بقوله: ( لم أكتب إلا قصة قصيرة و لا أنوي كتابة غير قصة قصيرة، و عندما يسألني أحدهم: لماذا لا تكتب رواية؟ أدهش و أراه كمن يسأل صانع الخبز: لماذا لا تزرع وردا؟ و من المؤكد أن استمرار ي في كتابة القصة القصيرة لا يعني موقفا معاديا من الأجناس الأدبية الأخرى، بل لأن القصة القصيرة لا تزال بالنسبة لي شكلا فنيا قادرا على التعبير عما أريد ).
   لكن  بعض الكتاب يكتب القصة القصيرة مدة، كأنما ليتدرب على فن الكتابة، فإذا وثق من أدواته هجر القصة القصيرة إلى الرواية، و كأن القصة القصيرة سُلّم للصعود إلى الرواية، أو ميدان تدريب ليس إلا، مع أن مجال الفنيين مختلف تماما، فبينما تصلح القصة القصيرة لغالبية الناس، حيث قراءتها لا تستغرق أكثر من جلسة واحدة، أو جزء من الساعة، فقد تقرأها في لحظات انتظار، أو في حال ركوب وسيلة المواصلات، أما الرواية فتحتاج أن تتفرغ لها عدة أيام ، و لا يقوى على التفرغ لها سوى المثقفين المتفرغين للشأن الأدبي، وبينما تقتصر القصة القصيرة على حدث معين أو شخص بعينه أو تسليط ضوء على ظاهرة بعينها، فإن الرواية عالم قائم بذاته، تتعدد فيه الأحداث و الأشخاص و تتشابك الوقائع، و يحتاج تتبعها لتركيز و متابعة و إعمال ذهن، و المنطقي و الحالة هذه أن يكون قراء القصة القصيرة أكثر عددا و كتابها كذلك. لكن الدراسات و الإحصاءات الحديثة تشير إلى عكس ذلك.
   أما الفن الأدبي الآخر الذي يبدو انقراضه واضحا للعيان، فهو الشعر الحر أو المرسل، أو ما اصطلح على اختزاله ب ( قصيدة التفعيلة )، تلك الموجة التجديدية المتحررة، المتأثرة بما يماثلها من تجديد في الشعر الإنجليزي و الفرنسي، و التي برزت في منتصف القرن العشرين أو قبل ذلك بقليل، و إن سبقتها إرهاصات متعددة، لكنها لم تكن بمثل اندفاعتها و قوتها، و التي تمحورت حول ثلاثة رواد من الشعراء العراقيين: هم بدر شاكر السياب و نازك الملائكة و عبد الوهاب البياتي، ثم تبعهم بعد ذلك بلند الحيدري و صلاح عبد الصبور و محمد الفيتوري و نزار قباني و غيرهم كثير، ثم جاءت موجة شعراء المقاومة: محمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياد و رفاقهم.
و لقيت هذه الاندفاعة التجديدية المتمردة على قيود القافية الواحدة، و النسق المتماثل في عدد التفعيلات في شطر كل بيت شعري رواجا كبيرا، لكنها ظلت ملتزمة بالوزن الشعري و بالتفعيلة أساسا، و إن تنوعت أعداداها في كل بيت، لا يوقفها سوى توقف الاندفاعة الشعرية المتدفقة لدى الشاعر، فقد يتكون البيت من تفعيلة واحدة أواثنتان أو ثلاث أو أربع تفعيلات مع تنوع القوافي، لكن رونق الشعر و نغمته و موسيقاه ظلت باقية، و إن صار عصيِّا على الحفظ مثلما كان الشعر العمودي القديم، بل صار شعرا يُقرأ و يُتَمعن في صوره و أخيلته و ابتكاراته، و جِدَته في اجتراح دلالات جديدة للألفاظ تخرج عن سابق عهدها، و الغوص في رموزه التراثية و إيماءاته الأسطورية.
    لقد لقي هذا اللون الشعري الجديد قبولا و استحسانا، و تتابع الشعراء ينسجون على منواله قرابة نصف قرن، حتى غلب على الشعر العمودي، و حاز على قصب السبق، و تدافع مئات الشعراء للخوض في هذا الميدان، و طبعت مئات الدواوين الشعرية من شعر التفعيلة، وبدا كأن المستقبل كله له، حتى غشيته موجة عاتية مما يسمى بقصيدة النثر التي أبدع الشاعر عز الدين المناصرة عندما سماها ( القصيدة الخنثى ).
عندما تدفق هذا السيل العَرِم من النثر، الذي يكتب في سطور مقطعة على هيئة قصيدة التفعيلة و ما هو منها، و هو بالنسبة للقارئ العادي الذي لا يمتلك أذنا موسيقية، تميز الشعر من النثر كمثل السراب يحسبه الظمآن ماءً، ينخدع بهيئته التي تماثل قصيدة التفعيلة في طريقة عرضها، فلا يمكنه التمييز بينهما، و يحسب أنهما لون واحد. و من يتتبع الصحف و المجلات الأدبية الورقية منها والإلكترونية، فربما وجد من بين كل عشر قصائد تنشر على صفحاتها، واحدة من شعر التفعيلة يقابلها تسع من النصوص  النثرية، التي يُصِّرُ أصحابها على تسميتها قصيدة النثر، و لست أدري أي ضَير يلحق بهذه النصوص البديعة لفظا و معنى و صورا مبتكرة،  لو بقيت ضمن حقلها الطبيعي، الذي هو النثر البديع، فسميت خاطرة أو نثيرة أو جنسا ثالثا أو نصا إبداعيا، أو أي اسم آخر يتفق عليه إلا الشعر. و صرفت كل جهدها الإبداعي نحو تفجير طاقة النثر، و تركت تفجير طاقة الشعر لقصيدة التفعيلة.
     لقد انفض شعراء قصيدة التفعيلة عن قصيدتهم الرائدة، لما أيقنوا عجزهم عن مجابهة هذا السيل الجارف من النثر، الذي ينافسهم و يُصر على أن يسمي نفسه قصيدة النثر، و يعرض بضاعته أمام القراء على نفس هيئة قصيدة التفعيلة، مما يستحيل معه التفريق بين اللونين على القارئ العادي. و أمام عجزهم عن تمييز أنفسهم، و استحالة إيجاد طريقة لفرز اللونين المتشابهين شكلا، و الأخذ بيد القراء للتفريق بين قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر، و عجز شعراء التفعيلة عن التصدي لمن سماهم محمود درويش يوما مليشيات قصيدة النثر، الذين يتصدرون المشهد الأدبي برمته. إزاء ذلك فقد توقف معظم شعراء التفعيلة عن إنتاج الجديد، أو قلَّ جديدهم عما سبق، و لم يعد يلج هذا الباب سوى قلة من الشعراء الجدد، ما دام باب قصيدة النثر على سهولة صنعها مفتوحا للجميع على مصاريعه. بل إن كثيرا من مبدعي الشعر العمودي و شعر التفعيلة، قد ركبوا موجة قصيدة النثر، إما لأنهم لم يستطيعوا الوقوف في وجه هذا التيار الجارف، أو رغبة في إثبات قدرتهم و تفوقهم في شتى المجالات، و النماذج على ذلك كثيرة فهذا الشاعر عز الدين المناصرة الذي سماها في البداية ساخرا ( القصيدة الخنثى ) قد عاد ليكتب بها، و مثله محمود درويش الذي وصف أصحابها بالمليشيات التي لا تقاوم، قد كتب قصيدة نثر، و شاعر آخر مبدع متألق في ميداني الشعر العمودي و شعر التفعيلة هو يحيى السماوي، لم يدخر جهدا في خوض غمار قصيدة النثر.
   من كل ما سبق يتضح لنا أن قصيدة التفعيلة في طريقها إلى الانقراض، بفعل جناية قصيدة النثر عليها، و في ذلك جناية على الشعر العربي الحديث كله، فقد انقطعت السبل تقريبا أمام العودة للشعر العمودي المُقفى، و لم يعد يطرق بابه إلا القليل من الشعراء، و في موضوعات الحماسة  و الوطنية، التي تستلزم نبرة خطابية، أو في موضوع الرثاء فقط. و كان المؤمل أن تكون موجة شعر التفعيلة هي التجديد الحقيقي للشعر العربي في العصر الحديث، و قد قطعت شوطا بعيدا في هذا المضمار، لولا أن داهمتها هذه الموجة العاتية من قصائد النثر فطمرتها تحت رمالها، و مهدت السبيل لانفضاض الناس عنها و انقراضها تدريجيا.
  أما القصة القصيرة فإن سبب نفور الكتاب و القراء عنها، و تلاشي دورها بشكل متسارع يعد أمرا مبهما و غير مفهوم، فالرواية فن آخر مستقل لا يتماهى معها لا من حيث الشكل و لا من حيث المضمون، فلكل منهما مجاله الرحب و ميدانه الفسيح، و المفترض أن يكون لكل منهما قراؤه المختلفون، و المنطق يقضي أن يكون قراء القصة القصيرة أكثر عددا. و تبعا لذلك فإن ازدهار الرواية و رواجها لا يتحمل وزر انقراض فن القصة القصيرة. فإذا كان خصم قصيدة التفعيلة و الجاني عليها محدد و جَليّ و هو قصيدة النثر، فإن خصم القصة القصيرة غير معروف، و أمر تراجعها و انحسارها غير مفهوم و لا مبرر.