أيُّها المُفْتَرونَ على العَرَبيّةِ، أيْنَ أنتمْ مِنْ نَواميسِها ؟!؟

أ.د. ياسر الملاح


يكتبُ بعْضُ الناسِ عن العربيةِ، وهمْ لا يَعرِفون كثيرا من الحَقائقِ الأساسيةِ عن شخصيةِ العربيةِ ونواميسِ حفظِها الأبديةِ، فيقعون في تَخْليطٍ من الكلامِ الذي لا يَثبتُ للتّمْحيصِ والدراسةِ العلميةِ. فالعربية لغة لمْ تكتملْ لها شخصية واضحة إلا بنُزولِ القرآنِ الكريمِ، فصحيحٌ أنّ عربية أهلِ الجاهليةِ، وبخاصةٍ قريش، ومَنْ يتبَعُها من العَرَب، كانتْ لها لغة قويّة، لكنّها كانتْ خاضعة للنعْرةِ العصبيةِ التي قد ترْخي عليها ظِلالا من التمزقِ والتشرذمِ الذي قد يَقودُ إلى مزيدٍ من ذلك التمزقِ، لتصبحَ العربية لغاتٍ كثيرة. وقد كان هذا ظاهِرا بشكل جليٍّ في قولِ أبي عمرو بنِ العلاءِ، كما وردَ في طبقاتِ فحولِ الشعراءِ لابنِ سَلامٍ، عن الفرْقِ بين لغةِ الحجازِ وبين لغةِ أهلِ اليمنِ، عندما قالَ :" ما لسانُ حِمْيَرَ وأقاصي اليمنِ بلسانِنا ولا عَربيّتهُمْ بعَرَبيّتِنا "، أيْ أنّ الظروفَ كانتْ مُهيَّأة لإيجادِ عربيةٍ أخرى في اليمنِ غيرِ العربيةِ التي نزلَ بها القرآنُ، غيرَ أنّ هذا لمْ يَحدُث لنزولِ القرآنِ ولِامتدادِ الدينِ الجديدِ إلى اليمنِ، وغيرِها من الأماكنِ العربيةِ وغيرِ العربيةِ، فكانَ ذلكَ الحدث الربانيُّ المذهلُ الذي حفظ وحدة العربيةِ وصيانتها من التمزقِ الذي يصيبُ اللغاتِ عندما تتوافرُ الشروط التي تسمحُ بذلك. ولا بُدَّ أنْ يُسَجَّل هنا لنزولِ القرآنِ وانتشارِ الإسلامِ مُعجزة مُذهلة حصلتْ للعربيةِ، وهي ما يُمكن أنْ يُطلقَ عليه " الإعجاز اللهجيّ" الذي كان عاملا أساسيّا في توحيدِ لهجاتِ العرب في لغةٍ واحدةٍ متمثلةٍ في النصِّ القرآنيِّ.
والأمرُ الثاني أنّ العربية ارْتبطتْ بتراثٍ وحضارةٍ كان لهما دورٌ مُهمٌ في الحضارةِ الإنسانيةِ كُلِها، ولم تدَّخِرْ هذه الحضارة وُسْعا في الإنتاجِ الفكريِّ والثقافيِّ والماديِّ واللغويّ، فاحْتلتْ حَيزا ضخما في المكانِ والزمانِ، وما زالتْ شواهدُها ماثلة للعَيانِ بحيث يَصْعُب تصَوُّرُ اندثارِها أو تجاوزِها في حَركةِ الإنسانِ الإبداعيةِ كلَّ زمانٍ ومكانٍ في الحاضرِ والمستقبلِ. ولو تساءلنا عن السرِ الكامنِ وراءَ هذا كلِه لوَجَدْناه في كونِ القرآنِ الكريمِ هو العمودَ الفقريَّ لهذه الحضارةِ وهذه الأمةِ. وإنّ المُدققَ في هذا التراثِ اللغويِّ وغيرِ اللغويّ سيجدُه تراثا ليْسَ خاصا بالإسلامِ والمسلمين وحْدَهمْ، ولكنّه تراث يخصُ عناصرَ الأمةِ جميعا من مسلمين ومسيحيين ويهودٍ وصابئةٍ وغيرِهم، لأنهم اشتركوا جَميعا في صِناعتِه، وبذلك يَكونُ هذا الكتابُ العظيمُ قد ضربَ أرْوع الأمثلةِ في صَهْرِ عَناصرِ هذه الأمّةِ المتعددةِ الأعراقِ والقومياتِ والأديانِ في بُوتقةٍ واحدةٍ، فكانتْ أفضلَ نموذج للتعدديةِ في التاريخ. فإذا كانَ هذا في الماضي، وقد أكده مَنْ كتبَ بهذه اللغةِ، واقعا ملموسا، فلنْ يَضيرَ عناصرَ الأمةِ جميعا، هذه الأيامَ، أنْ يَعْتبروا القرآن جُزءا من تُراثِهم الثقافيِّ، ثم يُقبلون على قراءتِه للاستفادةِ مِنْ لغتِه لأنه أعظمُ نصٍ كتِبَ بالعربيةِ؟ ولأنه كان من العواملِ التي ساعدتْ على وحدةِ الأمةِ، وصيانةِ حضارتِها وتثبيتِ وجودِها واكتساب جيشٍ من الأنْصارِ للعربيةِ مِنْ غيرِ العرب. ولقدْ أقبلَ على دراسةِ القرآنِ نفرٌ لا يُستهانُ به من النصارى ورهبانِهم، وعُلماءِ المِللِ الأخرى، فنَهلوا من بلاغتِه، واعتبروه نبْعا أساسيا من ينابيع العربيةِ الصافيةِ. إن هذا الكتابَ كان أكبرَ عاملٍ من عواملِ الإلهامِ اللغويِّ والإنتاج الأدبيِّ والفنيِّ والعلميِّ الذي يزخرُ به تراثنا الفِكريُّ، وهو مُؤهلٌ اليومَ لأنْ يقومَ بالدورِ نفسِه في المحافظةِ على اللغةِ العربيةِ، وإثرائِها بما يشدُ أزرَها، ويَجْعَلها لغة عالمية بكلِ المقاييسِ.

ولِتأكيدِ هذه الفكرةِ لننظرْ إلى الثمرات الإنسانية التي أنجبتها هذه الحضارة تلك الكوكبةِ الفريدةِ التي صنعَتْها  فأصبحتْ نجوما ساطِعة متوهجة في دنيا الفكرِ والأدب والعلومِ واللغةِ والفلسفةِ كعبد الحميد الكاتب، وسيبويه، والزمخشري، وابن سينا، وهم من قافلةٍ عريضةٍ ارتفعتْ عن انتمائِها الضيقِ المتمثلِ في جنسٍ أو شعبٍ أو عرقٍ، وتمسكتْ بهذا الانتماءِ الواسع الذي جمعَ بين العربيِّ والفارسيِّ والهنديِّ والروميِّ، وجمعَ بين المسلمِ والمسيحيِّ واليهوديِّ والزرادشتيِّ، في بوتقةٍ واحدةٍ انصهرَ ما فيها فأخرجَ لنا حضارة منقطعة النظيرِ بلسانٍ عربيٍ مبينٍ.
وأمرٌ آخرُ أنّ العربية ارْتبطتْ بدينٍ قويٍ يُشبعُ نوازعَ الإنسانِ في التفكيرِ والعملِ، وقد شكلَ هذا الدين جُمهورا غفيرا يفوقُ المليارَ ونصفَ المليارِ من البشرِ، ورسَمَ هذا الجمهورُ أنماطا من المُؤسساتِ الثابتةِ والمزدهرةِ تمثلتْ في دولٍ راسخةِ البنيانِ والعمرانِ، وما زالتْ هذه المؤسساتُ تتنامى كلّ يومٍ في مُختلِفِ بقاع العالمِ كلما سنحتِ الفرْصة لشعب من الشعوب المقهورةِ أن يَتخذ له مَكانا تحتَ الشمسِ، فإنه لا يدخرُ وُسْعا في اغتنامِ فرصتِه في الاستقلالِ والتحررِ ليُضافَ إلى هذه المؤسساتِ مؤسسة جديدة تنتظمُ في عِقدِ مؤسساتِ الأمةِ، ولا رَيْبَ في أنّ هذا يزيدُ من جُمهورِ مُحبي العربيةِ وأنصارِها.
والأمرُ الرابعُ، في هذه اللغةِ، أنّ الفصْحى والعاميّة فيها لا تختصمانِ أبدا، فهُما توأمانِ مُتلازمانِ مُتداخلانِ، وقد يأخذ هذا من ذاك، في وئامٍ واحترامٍ وانسجامٍ. قد نجدُ الشخصَ يتكلمُ العامّيّة، ويتكلمُ كذلك الفصْحى، فيصدرانِ عن حَنْجَرَةٍ واحدةٍ دون أنْ يَطغى هذا المُستوى على المُستوى الآخرِ. ولا يَحْدث الخصامُ بين المُسْتويَيْن، ولا يتآمرُ أحدُهما على الآخرِ إلا عندما يجْهلُ نصيرُ هذا المُستوى أو نصيرُ المُستوى الآخرِ هذه الحقيقة السّاطِعة والثابتة عبرَ تاريخِ الأمّةِ. ما أجملَ ما يعمدُ إليه بعضُ الشعراءِ والأدباءِ عندما يتوقفُ توضيحُ الفكرةِ عند أحدِهِم على اسْتخدامِ لفظةٍ عاميةٍ، ليكون لها وقعٌ جميلٌ ومُعبِّرٌ لا يمكنُ للفظةِ الفصيحةِ المُقابلةِ لها أنْ تقومَ بالدورِ نفسِه. ولا يغفلنَّ أحدُنا عن رصدِ التدافعِ بين العاميةِ والفصحى في تاريخ الأمةِ، وخلاصَته أنّه تدافعٌ أخويٌّ وديٌّ لا ينتهي دائما إلا بإقرارٍ واضحٍ باحترامِ الفصحى وتقديرِها، والإجلالِ والتقديرِ لها، لأنَّ الفصحى هي لغة القرآنِ الذي تجله الأمَّة، وتتبركُ به، وهو البوصَلة التي تدُلها إلى سُبُلِ الرشادِ في الدُنيا والآخِرةِ. فهلْ منع هذا التدافعُ، أو عوّقَ، إنتاجَ هذا الصرحِ الحضاريِّ الذي أنتجته الأمَّة في مُختلِفِ أنواع العلومِ والمعارفِ والأفكارِ الواسعةِ والدقيقةِ؟ وكان هذا الصرحُ سَبَبا مُباشرا في نهضةِ عَددٍ كبيرٍ من الأممِ الأخرى لِاحتكاكِها بالمُسلمين وأخذِهم عنهم هذه المعارفَ، ومازالتْ مَكتباتُ هذه الأممِ مَليئة بالمخطوطاتِ الكثيرةِ التي تشهدُ على هذا.
إن هذه الحقائقَ وغيرَها يَجبُ أنْ تكونَ واضحة وُضوحَ الشمْسِ لكلِ مَنْ يتصَدّى لِلكتابةِ عن العربيةِ وقضاياها، سواءٌ أكانتْ قضاياها المَوْروثة أم كانتْ قضاياها المُعاشة في العَصْرِ الحاضرِ. أما أنْ يقولَ شخصٌ عن العربيةِ :"... ماذا نفعل بلغة عربية نصف ميتة تتكلمها أمة متخلفة لن تستطيع إنتاج ولو حبة من العلم، لذا فنحن نعيش في عصر الجاهلية تتحكم فينا أهواء أصحاب الفساد..."، ثم يقول آخر :" ...إن التعريبيين يتعاموْن عن حقيقة بسيطة جدا، وهي أن العربية ليست لغة حية حتى تستعمل في الحياة والتواصل، وإنما هي نصف حية لا تستعمل إلا في الكتابة. وهو الاستعمال الذي استنفده التعريب واستنزفه. وإذا كان هذا التعريب لا زال ناقصا ( والصحيح ما زال)، كما يرى محررو المذكرة، فذلك لأن العربية لغة نصف حية، أي ناقصة في حياتها وحيويتها. ولذلك فإن التعريب هو كذلك يبقى دائما ناقصا تبعا للنقص الملازم للعربية ..."، إنّهمْ ينشرون هذا الكلامَ العفنَ بغيرِ علمٍ وبغيرِ أدلةٍ عِلميةٍ، فهذا مَحْضُ افتراءٍ، ويخبط خبْط عَشواءَ، وربما نلمسُ وراءَ هذه الأقوالِ، بالإضافة إلى الجهلِ، سوءَ النيةِ وفسادَ الطويةِ.

 قلْ لي بربك: كيفَ تكونُ العربية نصفَ مَيتةٍ تتكلمُها أمّة مُتخلفة وقدْ بَلغ انْتشارُها مَدىً جغرافيّا واسِعا بَعدَ تعرب شعوب بكامِلها، واتخاذِ العربيةِ لِسانا لها؟!؟ وعلى الرَّغمِ من هذا الِانتشارِ الذي بلغ غايتَه في العُصورِ الوسيطةِ فإنه أخذ ينْحسِرُ في أيامِنا هذه، وأيامٍ سَبقتْها بقليلٍ، لأسباب كثيرةٍ لعَلّ أهمَّها انْحسارُ السلطانِ العربيِّ والإسلاميِّ عن المسرحِ العالميِّ، فأدى هذا إلى سَيْطرةِ دولِ الِاستعمارِ على مُقدراتِ الحياةِ العالميةِ مما أسْفرَ عن مُزاحمةِ لغاتِها اللغة العربية حتى في عُقرِ دارِها . وعلى الرَّغمِ من هذا الواقع المريرِ فإنّ الظروفَ مُهيّأة تماما إلى أنْ تستعيدَ العربية رُقعة انتشارِها إذا وَجَدَتْ منْ أهلِها النشاط والإخلاصَ في العملِ والإبداع العلميَّ الجاذبَ، وللخصائصِ الحيويةِ التي تتمتعُ بها بنية اللغةِ العربيةِ. وإنّ ارتباط العربيةِ بالقرآنِ الكريمِ جَعَلها لغة مُقدسّة ربّانية، وساعدَ على حِفظِها من التشرْذمِ والتفككِ، وَينْدرُ أنْ تجدَ لغة يتحدُ فيها ماضيها البعيدُ لفظا ودلالة بحاضرِها القريب كما هو الحالُ في العربيةِ، فالدارسُ للغةِ العربيةِ يُمْكنه أنْ يفهمَ نصا شعريا مُعقدا فهما إجماليا لامرئ القيسِ، مثلا، قاله قبل 1600 عام، بينما لا يستطيعُ طالبٌ إنجليزيٌ أنْ يفهمَ نصا سهْلا لأحدِ شعراءِ الإنجليزِ قِيل قبلَ 500عام. فهذا الارتباط بالقرآنِ جعلِ شخصية اللغةِ تمتاز بالثباتِ والاستقرارِ مع قدرةٍ هائلةٍ على استيعاب الجديدِ في الدلالاتِ والألفاظِ، وهي التي تدفع ملايينَ المسلمين المُنْبثين في مُخْتلِفِ أصْقاع الدنيا، تدْفعُهم أشْواقهم الدينية والعاطفية إلى تعلمِ هذه اللغةِ، وهم يُشجعون أبناءَهم على تعلمِها ليُحْسنوا قراءة القرآنِ الكريمِ.

ويُجمعُ عددٌ كبيرٌ من العلماءِ الذين كانتْ لهم صِلاتٌ علمية باللغةِ العربيةِ، أيْ أنهم درَسوها وتخصَّصوا في أحدِ جوانبها، أنّ اللغة العربية لها خصائصُ فنية على مُسْتوى الأصواتِ والمفرداتِ والنحوِ والصرفِ والدلالةِ تتفوقُ فيها على غيرِها من اللغاتِ. فمن أبرزِ سماتِ اللغةِ العربيةِ في مجالِ الأصواتِ أنها أوسعُ اللغاتِ الإنسانيةِ في المخارج، فمَدْرَجُها الصوتيُ يمتدُ من الشفتين إلى الحَـنـْجرة، بينما ينحصِرُ المدرجُ الصوتيُ في مُعظمِ اللغاتِ في مساحةٍ أقلَّ. وأما عَلاقة الأصواتِ العربيةِ بمَعانيها فتعودُ إلى مُحاكاةِ الأصواتِ الطبيعيةِ وإلى قواعدَ صرفيةٍ واشتقاقيةٍ، كالاشتقاقِ العامِ الذي يُعطيك مَعنىً عامّا يتحققُ في كلِ كلمةٍ يوجدُ لها أصلُ ثلاثيٌ مُؤلفٌ من أصواتٍ مُرتبةٍ على نحوٍ مُعَينٍ، فكلُ كلمةٍ توجدُ فيها الأصواتُ الثلاثة بالترتيب نفسِه الذي وُجدَ في الأصلِ تحملُ هذا المعنى العامَ، وتختلفُ بما يُضافُ إليها من لواصقَ تـُضَيـِّق المَعْنى أوتـُوَسِّعه. وتمتازُ العربية باتِّساع مُفرداتِها اتساعا تتفوقُ فيه على أخواتِها السامياتِ جميعا، وكذلك ما يَجْتمعُ فيها من المُترادفاتِ في الأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ، وربما يَندرُ وجودُ مثلِ هذه الظاهرةِ في لغةٍ من لغاتِ العالمِ. فمثلا يَندرُ أنْ نجدَ للأسدِ في لغةٍ غيرِ العربيةِ خمْسَمِائةِ اسمٍ، وللسيفِ ألفَ اسمٍ، وللعسلِ ثمانين اسْما، وللداهيةِ أربعَمِائةِ اسْمٍ، وهكذا. ويساعدُ نظامُ الِاشتقاقِ في استخراجِ عددٍ كبيرٍ من المفرداتِ من المادةِ الواحدةِ، فمثلا يُمْكِنُنا اشتقاقُ أكثرَ من سبعين كلمة من الجذرِ الواحدِ. وهي تتمتعُ بخصائصَ تتيحُ لها إنتاجَ أكبرِ كمٍ مُمكنٍ من المفرداتِ والمُصطلحاتِ عن طريقِ الاشتقاقِ والمجاز والنحتِ والتعريب والترجمةِ. وهذا يقرُّ به أهلُ اللغةِ وعلماءُ العربيةِ منْ كلِ حَدْب وَصوْب.

 ولقد اتسعتِ العربية لعددٍ كبيرٍ من الألفاظِ الدخيلةِ إليها من اللغاتِ الأخرى، وقد وُجدَ هذا في القرآنِ والشعرِ الجاهليِّ وأصبحَ سُنّة لا تتخَلفُ في حياةِ العربيةِ لمرونتِها واتساعِها عندما تحتك بغيْرِها من اللغاتِ حتى يومِنا هذا. كما بلغتْ دقة قواعدِ النحوِ العربيِّ مَبْلغا يندرُ أنْ يكونَ له مثيلٌ في اللغاتِ الساميةِ أو اللغاتِ الأخرى. و تتمثلُ ظاهرة الإعراب في أصواتِ مَدٍّ قصيرةٍ ( الحركات) تلحقُ أواخرَ أغلب الكلماتِ لتدُلَّ على وظيفةِ الكلمةِ في الجُملةِ وعلاقتِها بعناصِرِها الأخرى. ويكثرُ في اللغةِ العربيةِ استعمالُ الألفاظِ والتراكيب في غيرِ ما وُضعتْ له لِأغراضٍ بلاغيةٍ لِخدمةِ المَعْنى توضيحا أو مُبالغة في إبانتِه، أو إخراجهِ في أقلِ قدرٍ من اللفظِ ، أو عَرْضِه عَرْضا جَميلا جَذابا. ويتضحُ هذا في المجازِ بأنواعِه، وفي الكنايةِ بأنواعِها، وانتقالِ الدلالةِ بأنواعِها. وقد كان لهذهِ الصورِ البلاغيةِ أثرٌ كبيرٌ في سُمُوِّ الأساليب العربيةِ، وشدةِ تأثيرِها في النفوسِ وقوةِ بلاغتِها وحُسنِ بيانِها وسلاسةِ تعبيرِها ومُطابقتِها لمُقتضياتِ الأحوالِ. وقد ضربَ القرآنُ بسَهمٍ وافرٍ في هذا المجالِ إذ كان له وقعُ السحرِ في نفوسِ العرب، وكان مما اتهِمَ به الرسولُ، صلى الله عليه وسلم، أنه يقولُ كلاما يُفرِّق به بين المرءِ وزوجهِ، أيْ كما يفعلُ السَّحَرَة.

وكان للمجازِ والنقلِ أثرٌ عظيمٌ في اتساع العربيةِ للعلومِ والفنونِ وللحضارةِ والمدنيةِ على اتساع مَجالاتِها، ولم نشهدْ تعثرَ العربيةِ أمامَ أيِّ مَظهرٍ مِنْ مَظاهرِ العِلمِ أو الحضارةِ حتى في العصرِ الحاضرِ. وأما الإيجاز فهو مظهرٌ ملموسٌ تماما في اللغةِ العربيةِ كما يتضحُ في أصواتِ العِللِ، فالعِللُ في اللغاتِ الأجنبيةِ تأخذ حجمَ الحرفِ بينما في اللغةِ العربيةِ لا تُستخدمُ إلا عندَ الضرورةِ فوق الحرفِ أو تحتهُ. ويُعتبرُ الإدغامُ إيجازا لأنه يحلُ فيه حرفٌ مكانَ حرفين، وكذلك الإضافة. وقدْ تتكونُ الجُملة منْ حرفٍ واحدٍ فقط كقولِنا : ع ِ، وهي جُمْلة أمْرية لِما يتضمَّنه الفعلُ منْ ضميرٍ مُستترٍ، ومما قاله د. يعقوب بكر في هذا السياقِ:" إذا ترجَمْنا إلى العربيةِ كلاما مَكتوبا بإحدى اللغاتِ الأوروبيةِ كانتِ الترجمة العربية أقلَّ منَ الأصلِ بنحوِ الخُمْسِ أو أكثرَ". وأما علاقتُها بأخواتِها الساميّاتِ فقد رجَّحَ العلماءُ أنّ العربية، باتساعِها لخصائصِ اللغاتِ الساميةِ عامّة في الأصواتِ والجذورِ والمفرداتِ، وبزيادتِها عليها في كثيرٍ من الخصائصِ، هي أمُ اللغاتِ الساميةِ جميعا، فاقترحَ بعضُهم تغييرَ مُصطلحِ "اللغاتِ الساميةِ" إلى مُصطلح " اللغاتِ العربيةِ".

 فهلْ هذا الذي بَسطناه منْ حقائقَ لغويةٍ يشيرُ إلى لغةٍ نصفِ ميتةٍ تتكلمُها أمة مُتخلفة؟ أمْ هلْ مَنْ يتهمُ بغيرِ حقٍ وبغيرِ علمٍ هو المُفتري والمُتخلف؟ لا رَيْبَ عندي في أنّ مَنْ يتهمُ العربية وأهلها بالتخلفِ، بعدَ أنِ اتضحَ لنا عُمقُ هذه اللغةِ وجمالها ودقتها وسيرورتها، هو جاهلٌ وظالمٌ، وقد آنَ له أنْ يتقيَ اللهَ العزيزَ القهارَ.   
 ثم كيفَ تكونُ العربية نصفَ حيةٍ؟!؟ أليست هي إحدى اللغاتِ الرسميةِ في الأممِ المتحدةِ؟ وما يُنطقُ بها الآن من كلامٍ في وسائلِ الإعلامِ المُختلفةِ لا يُمكنُ حَصْرُه لأنه كمٌ هائلٌ، وكذلك ما يُدونُ بها من أدب في المعاهدِ والمؤتمراتِ كَمٌ هائلٌ كذلك. إنّ حياة أيِّ لغةٍ في الدنيا لا تكون في خطٍ مُستقيمٍ، كما يتوهمُ الكثيرون، ولكنها حياة دائمة الحركةِ في الاتجاهاتِ كلها، فهي تصحُ وتمرضُ، وتشبُ وتشيخُ، وقد تحيا ثم تموتُ، وهكذا، لأن اللغة ظاهرة حية تحيا كما تحيا سائرُ الكائناتِ الحيةِ في الكونِ. غير أن اللغة العربية، في السّرّاءِ والضَّرّاءِ، وبفضلٍ من اللهِ ومَنِّهِ، لغة شبابها دائم، وحيويتها وعطاؤها لا ينقطعان، على عكس ما يظن المفترون والجاهلون بنواميسِ هذه اللغةِ الشريفةِ، وإن عَهْدَنا بتَسَنُّمِ العربيةِ مركزَ الصدارةِ بين اللغاتِ الإنسانيةِ قادِمٌ بإذنِ اللهِ.
وَنسمعُ من بعضِ الناسِ أنّ العربية في خَطرٍ، فقد يكونُ هذا الكلامُ صحيحا إذا تقاعسَ أهلُ العربيةِ عن رعايتِها وعن الغيرةِ عليها، وعن الِاجْتهادِ في إيجادِ السبلِ والوسائلِ المُتنوِّرَةِ وَالكفيلةِ بتعليمِها وجذب المُتعلمين لها، وبثِ روح الاعتزازِ بها، وحِمايتِها من الأمراضِ التي تُصيبُها، وما كان هذا القولُ، أي الإعلانُ عن أنها في خطرٍ، إلا تذكيرا لأهلِها بأهميةِ لغتِهم عندما يلمسُ الناقدُ تقاعسا منهم في القيامِ بالواجب تجاه لغتِهم التي هي رَمْز وجودِهم وعَلمُ هُويّتِهم. وإنّي لأعلنُ من هذا المنبرِ أنّ العربية، بإذنِ اللهِ، ليستْ في خطرٍ، ما دامتْ هذه النواميسُ التي ذكرْنا بعضا منها حافظة لها طَوالَ الدهرِ. إنّ ما تتعرضُ له العربية اليومَ من صِراعٍ حَضاريٍّ مُخيفٍ يَسعى إلى استئصالِ وجودها من على وجهِ الأرضِ، قد تعرضتْ له في أوقاتٍ سابقةٍ من التاريخ الإسلاميِّ، ولم يَضرْها بشيءٍ، بلْ خرجتْ مُعافاة وأصلبَ عودا ومُنتجة إنتاجا علميا ليس له نظيرٌ في تاريخ البَشريّةِ. وليدرسْ منْ شاءَ، أو مَنْ يجْهلُ هذه الحقيقة، صراع العربيةِ مع اللغاتِ الأخرى في العَصْرِ العباسيِّ، أو في الأندلسِ، أو في غيرِهما من بيئاتِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ سابقاً.
ونحنُ، وكذلك منْ يغارُ على العربيةِ، ومن يَسْعى إلى المُحافظةِ عليها، نُعلنُ أنه لا تصحُ هذه الغيرة والمحافظة على اللغةِ بالتعصب وذمِ الآخرين، أو بفرضِ الفصحى وازدراءِ العاميةِ، فلكلِ لغةٍ في هذا الكونِ مُريدوها وأحباؤها، والفُصحى والعامية لا خُصومة بينهما أبدا، ولم تكنْ هذه الخصومة قد حصلتْ يوما ما، فقد عاشَ التوأمانِ مَعاً، في وئامٍ تامٍ، منذ الجاهليةِ حتى يومِنا هذا، وليس بين أيدينا نصٌّ مُقدسٌ يدعو إلى هذا الاعوجاج، لأنّ القرآنَ اعتبرَ اللغة ظاهرة إنسانية وآية مِنْ آياتِ الكونِ. إنّ الغيرة على العربيةِ واحترامَ العاميةِ إنما يكونُ بقاعدةِ وضع الإنسانِ المُناسب في المَكانِ المناسب، أي بوضع الفصحى واستعمالها في ما وُجدتْ له، وكذلك العامية توضعُ في ما وُجدتْ له كذلك. فالفصحى لغة العلمِ والقضاءِ والتدريسِ والأدب والكتابةِ الفنيةِ وأما العامية فهي لغة الحياةِ الشعبيةِ، وليس من شكٍ في أنّ مَنْ لا يفرقُ بين هذين المُستويَيْن من الاستعمالِ اللغويِّ أعمى البصيرةِ أعمى البصرِ، ولا بدَّ له مِنْ أنْ يَصْحوَ من هذه الغفلةِ القاتلةِ للفصْحى وللعاميةِ، وربما لِحياةِ اللغةِ كلِها في الحاضرِ والمُستقبلِ.