حرف الواو

م. محمد يحيى كعدان


يقول المرادي: " الواو.. حرف يكون عاملاً، وغير عامل. فالعامل قسمان: جارّ وناصب. فالجارّ: واو القسم، وواو رُبّ. والناصب: واو مع، تنصب المفعول معه، عند قوم. والواو، التي ينتصب الفعل المضارع بعدها، هي الناصبة له، عند الكوفيين. فأقسام الواو العاملة أربعة. ولا يصح منها غير الأول.
... ... ...
وقد كنت نظمت للواو خمسة عشر معنى، في هذه الأبيات. وإليها يرجع جميع أقسامها:
الواو أقسامُها تأتي مُلخَّصةً ***** أصلٌ، وعطفٌ، والاستئنافُ، والقَسَمُ
والحالُ والنَّصبُ والإعرابُ، مُضمرةٌ ***** علامةُ الجمعِ، والإشباعُ مُنتظِمُ
وزائدٌ، وبمعنى أوْ، ورُبَّ، ومَعْ ***** وواو الإبدالِ فيها العَدُّ يُختَتَمُ ". انتهى الاقتباس.
النظرية اللسانية الحديثة لا تأخذ بمفهوم العوامل التقليدي، وهو عمل حرف أو كلمة ما على حركة كلمة أخرى لتُغيّرها، ونعتبر أن الحركات تخضع لمعنى الكلمة أو الحرف في الصيغة الملازمة لها، وبالتالي فالواو لا علاقة لها بالجرّ أو النصب أو غيره. ونعتبر أن المعنى يكمن في الصيغة الظاهرة الشكلية فقط، ومنه فأمثلة المرادي عن التأويل، من زيادة وحذف وبدل كواو رُبَّ ومع.. إلخ، لامعنى لها. أما أمثلته عن واو الإشباع أو التذكار.. إلخ، فهي لهجة من باب تشّوه اللفظ أو تلحينه وليس له معنى أيضاً.
إن الأداة ( و 11010 ) تعني معرفة المتكلم فقط بشكل العنصر الثاني الحاضر.
إن حضور العنصر الثاني والمتكلم وغياب المستمع، وحضور الشكل وغياب الصفة؛ يعني فيما يعني أن العنصر الثاني قد تشكل بعيداً (حقيقة أو حكماً) بالنسبة للمتكلم فقط (متجهاً باتجاه المتكلم فقط)، فعرف شكله (العام)، ولم يستطع تمييزه أو معرفة تفاصيله لعدم قربه منه قرباً كافياً (حقيقة أو حكماً).
الصيغة: " واو " ( و 11010 )، ( ا 11111 ), ( و 11010 )، تعني شكلاً بلا توصيف أمام المتكلم لمتآلف لشكل بلا توصيف أمام المتكلم، أي نحن بداية أمام شكل دون توصيف باد للمتكلم ( و ) ثم ننتقل إلى عنصر مألوف لهذا الشكل غير الموصف ( ا ) ثم ننتقل إلى شكل دون توصيف باد للمتكلم لهذا العنصر المألوف ( و ).
بالتالي نحن أمام عنصر مألوف بين شكلين غير موصفين أمام المتكلم. هذا العنصر هو رابط يكون بين شكلي عنصرين غير موصفين (بغض النظر عن التوصيف)، ألا وهو " الواو ".
أي " الواو " هو رابط يجريه المتكلم بين عنصرين هما شكلان بغض النظر عن التفاصيل.
نلاحظ أن الصيغة (واو) عكوسة وبالتالي تبديلية. أي يمكن استبدال موقعي العنصرين دون تغيير في المعنى. ومنه الصيغة ( و ) لا تفيد الترتيب كونها رابط بين شكلين غير موصفين (الترتيب هو توصيف).
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: وَاللهِ. حسب تعريف الواو ( 11010 ) نقول: قَسَمٌ بصيغة عنصرٍ حاضر، هو لفظ الجلالة: اللهِ، الغائب التوصيف أو التفاصيل، المعروف بشكل عام للمتكلم فقط (فالمستمع غائب).
والآن لتكن الصيغة: تَاللهِ. (تعريف الحرف ت هو القيم: 01010) هي قَسَمٌ بصيغة عنصرٍ حاضر، هو لفظ الجلالة: اللهِ، المتشكّل والغائب التوصيف أو التفاصيل، والمستقل عن المتكلم والمستمع معاً لغيابهما عنه.
ولتكن للمقارنة الصيغة: بِاللهِ. (تعريف الحرف ب هو القيم: 11110) وهي قَسَمٌ بصيغة عنصرٍ حاضر، هو لفظ الجلالة: اللهِ، الغائب التوصيف أو التفاصيل، والمعروف بشكل عام للمتكلم والمستمع معاً (لقربهما المحدود منه مسافة أو حكماً).
مما سبق نجد أن المُقسَم به، معروفٌ كمفهوم عام بالنسبة للمتكلم والمستمع معاً عند الصياغة بالباء ( ب 11110 )، ومعروف كمفهوم عام بالنسبة للمتكلم فقط عند الصياغة بالواو ( و 11010 )، بينما يكون المفهوم العام للمُقَسم به غير معروف لكل من المتكلم والمستمع عند الصياغة بالتاء ( ت 01010 ).
بالتالي تتضح قوة القسم بالباء، لاشتراك معرفة (أو تقديس، أو اعتزاز) المتكلم والمستمع بالمُقسَم به، بينما يقتصر ذلك على المتكلم في حالة القسم بالواو، وينتفي ذلك في حالة القسم بالتاء (ومن هنا ضعف القسَم بالتاء، فهو قَسَم بآلهة غير معروفة للآخرين).
وأثناء تحدّث المرء بصيغة تقريرية يستخدم غالباً الواو في القسم، مثل: والله جاء زيد. بينما في حال استحلافه للمستمع يستخدم الباء، مثل: باللهِ، جاء زيد؟
لأن القسم التقريري بالواو يدل كما قلنا على معرفة (اعتزاز، تقدير) المتكلم فقط بالمُقسَم به، بينما أثناء الاستحلاف ينبغي أن تجتمع معرفة المتكلم والمستمع بالمُقسَم به.
نلاحظ أنه كتعميم يمكن استخدام الحرف ص ذو القيم 01110 ، ليدل على كون المفهوم العام للمُقسَم به، معروفاً للمستمع فقط عند الصياغة بالصاد، فنقول: صَاللهِ. وهذا غير مستعمل، لأن طبيعة القسَم تُحَتِّم على المتكلم أن يُقسِم بما يعرفه (يقدّسه) هو على الأقل.
لننظر إلى الصيغة: والله جاء زيد، نجد أن مفهوم القسم بوجود الصياغة المركبة بالواو وفق: (و(الله)) جاء زيد، يعني أن المُقسَم به (الله) موجود بالنسبة للمتكلم حين: جاء زيد ( و 11010 )، ويأتي هنا المُقسَم به بمفهوم الشاهد الحقيقي الحاضر.
قال تعالى: {وَالتِيْنِ وَالزَيْتُونِ، وَطُوْرِ سِنِيْن، وَهذا البَلَدِ الأمِيْن، لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيْم} (التين 1-2-3-4)، يعني تعالى (وهو أعلم): ترافق وجود الإنسان المخلوق في أحسن تقويم مع خلق ووجود احتياجاته في الطعام والزمان والمكان الآمن.
لنتأمل الصيغتين التاليتين كمثال: قامت هند و عمرو، قام هند و عمرو.
ندرس الصيغة الأولى وفق ما يلي: قامت هند (و(عمرو))، بينما سندرس الصيغة الثانية وفق ما يلي: قام (هند(و(عمرو))). معتبرين أن الصيغ (الكلمات): قامت هند، عمرو، قام، هند. معروفة الصياغة والمعنى، وهذا كما قلنا في المقالات السابقة لا يؤثر على معنى الجملة العام، لأن تركيب الصيغ عملية تجميعية.
في الصيغتين أعلاه، يكون العنصر عمرو، نتيجة صياغته بالواو، حاضراً ومعروف الشكل للمتكلم، أو متجهاً باتجاهه عن بُعد.
في المثال الأول، عند صياغة وعمرو مع قامت هند، يعني ذلك أن المتكلم يتحدث عن هند، وهنا يخبرنا أنها مؤنث (وجود التاء)، ويخبرنا عن قيامها، ولكنه يتحدث أيضاً عن عمرو، الحاضر الذي عرف شكله فقط (الصياغة بالواو).
ولا نرى حتى الآن رابطاً بين قيام هند وبين عمرو سببها الواو، إذ نستطيع أن نقول مثلاً: قامت هند (و(عمرو ذهب)). ولا نجد هنا ضرورة لقيام عمرو (قد يقوم وقد لا يقوم)، إذ نستطيع أن نقول: قامت هند (و(عمرو جلس))، ولكن ابتداء الصياغة بعمرو (الصياغة من اليسار إلى اليمين)، يعني قيامه، لانتهاء الصياغة بالقيام.
أما في المثال الثاني قام (هند(و(عمرو))) لدى صياغة وعمرو مع هند، نجد أن المتكلم يتحدث عن هند ولا يخبرنا هنا شيئاً عنها عند الصياغة بالفعل قام. (نعلم بالخبرة هنا أن اسم هند يخص مؤنثاً، ولكن لا إشارة إلى ذلك ولسنا متأكدين منه، فبعض الأسماء المؤنثة تُطلق على الذكور، والعكس بالعكس)، ويتحدّث المتكلم أيضاً عن عمرو، ويخبرنا أنه حاضر قد تعرّف شكله فقط.
ومنه فإننا نرى رابطاً بين هند وعمرو سببها الواو كشكل عام ( و 11010 )، وبالتالي من الضروري كون هند قريبة من عمرو حقيقة أو حكماً في المكان أو الزمان، وليس من داع لأي ترتيب بينهما. ولكن انتهاء الصياغة بالفعل: قام، تستغرقهما.
لدى التدقيق في كافة الأمثلة عن الواو، نرى أنها لا تخرج في معناها عما تم عرضه أعلاه.

الصيغ " بَلْ ، وَلْ ، صَلْ ، يَلْ ":
الصيغة الثنائية (بَلْ)، تعني تعريف المتكلم والمستمع على شكل عنصر حاضر ( ب 11110 )، لعنصر غائب غير معروف الشكل والصفة لهما ( ل 10100 ).
هذا يدل على إحاطة المتكلم والمستمع بالشكل (وهو عام) للعنصر المتحدّث عنه، دون تمايز لأجزائه أو معرفة بتفاصيله لعدم المعرفة بالصفة. وهكذا فإن البَلْ لعنصرٍ بالماء مثلاً، يدل أيضاً على إحاطة الماء بشكل هذا العنصر من الخارج، دون التعرّض للأجزاء الداخلية.
الآن لتكن لدينا الصيغة: (وَلْ). فمن تعريف الواو وهو 11010، واللام وهو 10100، وتعني:
معرفة المتكلم فقط بشكل عنصر حاضر (و)، لعنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم والمستمع (ل).
هذا يدل على توجّه العنصر باتجاه المتكلم فقط، وهذا التوجّه من بُعد حقيقة أو حكماً، وهو كاف لمعرفة المتكلم لشكل هذا العنصر دون معرفة صفته (معرفة تفاصيله)، يقول تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الحرامِ} (البقرة 144)، نقول: مشيت وَلْ نهر، ونعني: مشيت مع شكل النهر. وهكذا فكل العناصر التي تصوغها هذه الصيغة، تدل على معرفة أو تعامل المتكلم مع شكلها فقط، لتوجهها باتجاهه كما ذكرنا.
الآن لتكن الصيغة: (صَلْ). فمن تعريف الصاد وهو 01110، واللام وهو 10100، وتعني:
معرفة المستمع فقط بشكل عنصر حاضر (ص)، لعنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم والمستمع (ل).
هذا يدل على وصول العنصر إلى المستمع، وهذا الوصول كاف لمعرفة المستمع لشكل هذا العنصر دون معرفة تفاصيله أو صفته.
من الممكن أن نلاحظ موضوع الحركة، القصيرة والكافية للانتقال من مرحلة الغياب إلى الحضور في كافة الصيغ السابقة، وهذا ناتج عن حضور العنصر وفق الصيغ: ب ، و ، ص بعد أن كان غائباً وفق الصيغة: (ل).
ومنه فنحن نشاهد حركة العنصر في: التبلي ، والتولي ، والاتصال أو الوصول وفقاً للصيغ: بل ، ول ، صل حسب الترتيب.
نلاحظ أن الحركة السابقة للعنصر هي بعيدة نوعاً ما حقيقة أو حكماً (فمن الممكن أن تكون توجّهاً فقط)، لأن المتكلم أو المستمع، يتمكن من معرفة شكل العنصر فقط، ولا يتمكن من معرفة صفته أو تفاصيله.
الآن لتكن الصيغة: (يَلْ). فمن تعريف الياء وهو 10110، واللام وهو 10100، وتعني:
معرفة المتكلم والمستمع بشكل عنصر غائب (ي)، لعنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم والمستمع (ل). هذا يدل على إيلاء العنصر الغائب (بآثاره مثلاً) للمتكلم والمستمع، فتمكنا من معرفة شكله فقط، ولولا ذلك لما تمكنا من هذه المعرفة، لأنهما حسب الصيغة: (ل)، لا يعرفان شكله وصفته بداية.
نقول مثلاً: يَلْ مس (يلمس)، هذا يدل على قيام العنصر الغائب بإيلاء (ما يلي من أثر) فعل المَسْ أمام المتكلم والمستمع فتمكنا من معرفة شكل العنصر فقط، ولم يتمكنا من تمييز تفاصيله.
ويقال أيضاً: يَلْ مَعْ (يلمع)، يَلْ حَسْ (يلحس)، يَلْ عَنْ (يلعن)، ... إلخ.