الزمن في اللغة العربية - 2

د. محمد سعيد حسب النبي


أشرنا في مقال سابق –في تحليلنا لكتاب اللغة الشاعرة للعقاد- إلى أن الأسلوب الأول هو الصيغ التي تأتي من تصريف الفعل للدلالة على المستقبل الإنشائي كفعل الأمر، فإنه في اللغة العربية مخصص بصيغتين لهذا المعنى بغير لبس في الزمن ولا في الفاعل، فيقول العربي اكتب، ويفهم من ذلك أن الكتابة مطلوبة للمستقبل غير حاصلة حتماً، فإذا عبر المتكلم بالإنجليزية عن هذا الفعل فترجمة (اكتب) فيها كلمة Write وهي تدل على مجرد الكتابة بغير زمن محدود، ولا تخصص لمعنى الأمر إلا إذا قيل Do Write أو You should write ويندر في اللغات الغربية ما يشتمل على تخصيص أدق من هذا التعميم.
أما الأسلوب الآخر هو أسلوب الدلالة على الزمن بالتعبيرات التي تدخل في عداد الجمل والتراكيب –فكل ما أمكن التعبير عنه بهذا الأسلوب في لغة من اللغات فهم ممكن في اللغة العربية في سهولة –كسهولتنا أو أسهل منها.
فقد ينسب القول مثلاً إلى أحد من الناس كأنه عادة كأن يأتي بها في غير زمن محدود، فيقول المتكلم بالإنجليزية He was أوHe used to say  .. Always saying ويقول العربي: إنه كان يقول: أو إنه تعود أن يقول، أو إنه طالما قال... ولا تختلف العبارتان في صحة الدلالة ولا في التحديد الزمني ولا في الإطلاق من هذا التحديد ولا في الإطالة والإيجاز.
وننظر إلى الأفعال من وجهة الأجرومية فنرى أن أوضاعها في اللغة العربية أدل على التطور والارتقاء من لغات أخرى تحسب في طليعة اللغات دقة وأداء للمعاني الذهنية.
والقرائن التي تكشف عن ذلك كثيرة: فمن علامات التطور في اللغة العربية أن الفعل الماضي فيها هو الأصل، ويأتي الفعل المضارع بالتصريف.. وفي لغات أخرى من أرقى اللغات يشيع استعمال المضارع (أولاً) ويأخذون منه الماضي بإضافة حرف أو مقطع أو تغيير صيغة.
فالإنسان البدائي يتكلم كأنه يصور على الطريقة الهيروغليفية، فيرسم الحاضر المشاهد في أثناء العمل، ويريد أن يعبر عن الكتابة فيرسم إنساناً في أثناء عمل الكتابة. أي في الزمن الحاضر المضارع للرؤية، فإذا أراد أن يعبر عن الماضي أضاف إلى الصورة علامة تدل على حدوثها فيما مضى أو أضاف إليها صوراً تتمم معناها بما يفهم منه إسنادها إلى وقت مضى، ولكن اللغة العربية تغلب فيها صيغة الماضي ويؤخذ منها المضارع بحرف يدخل عليها، وإنما تتم غلبة الصيغة الماضوية بتطور يتدرج في الارتقاء حتى تستقر الصيغتان –صيغة الماضي وصيغة المضارع- على هذا التقسيم.
ومن علامات التطور في اللغة العربية أن تكون التفرقة بين الزمنين فيها فلسفية منطقية، فضلاً عن التفرقة النحوية، ففي كثير من اللغات المعدودة من أرقى اللغات ينقسم الفعل إلى ماضي وحاضر ومستقبل، Past، Present، Future، على حين أن الحاضر شيء تبحث عنه فلا تجده، أو تجده على الدوام متصلاً بالاستقبال لا ينفصل عنه لحظة من أقصر اللحظات، لأنه ما من لحظة مهما تقصر إلا وهي كافية أن تجعله في حكم ما كان وليس هو حاضراً الآن. وهذا الفارق الدقيق ملحوظ في تقسيم الأفعال العربية لأنها ماض ومضارع يدل على الحال متصلاً بالاستقبال، ولا يكون الفعل إلا للحال والاستقبال أو يكون الزمن فيه مضارعاً للزمن السائر الذي لا يستقر على قرار.
ويشير العقاد إلى أن هذه الحقيقة قد انتبه إليها عالم من أقدر علماء الأجروميات والمباحث اللسانية، ففي كتاب أصول الأجرومية الإنجليزية لمؤلفه الدكتور "أوتوجسبرسن" Jespersen يقول هذا الباحث المحقق: "إن لنا –على الأصح- أن نحسب أن الزمن ينقسم إلى جزئين: ماض ومستقبل، وبينهما حد فاصل وقت الحاضر كأنه النقطة الهندسية التي لا طول لها ولا عرض ولا ارتفاع ولكنها على الدوام منصوبة إلى المستقبل".
وهذه التفرقة الفلسفية المنطقية ملحوظة في التفرقة الأجرومية بين الحاضر والمستقبل في لغة العرب، فإذا أراد المتكلم أن يذكر المستقبل بشتى معانيه فهو موجود بمعنى الاستمرار وبمعنى الدلالة على ما يأتي وبمعنى الإنشاء واستحداث الفعل على الطلب، فصيغة المضارع تدل على الحال والاستقبال، وصيغة المضارع مسبوقة بالسين تدل على المستقبل القريب، ومسبوقة بـ(سوف) تدل على المستقبل البعيد.
وصيغة الأمر تدل على فعل مطلوب في المستقبل، يقترن بالزمن عند حصوله: أمرته ففعل، وهذه المجاوبة بين طلب الفعل وحدوثه مألوفة في اللغة العربية. تتمثل في أفعال المطاوعة التي لا نظير لها في كثير من اللغات، فإذا وقع الحدث في الزمن فله صيغ متعددة تؤكد هذا التحقق كما يقال: أمرته فأتمر، ورسمته فارتسم، وقطعته فانقطع، وكسرته فانكسر.
ومن قبيل هذه التوكيدات للحدوث أو طلب الحدوث في الزمن –دلالة المفعول المطلق حين نقول: فعلته فعلاً، وصنعته صنعاً، إلى أشباه ذلك في مواضعه ودواعيه من التعبير والتوكيد. ومن علامات التطور أفعال الدعاء والرجاء، فإنها في هذه اللغة العربية غاية في الدقة تحسب من قبيل التميز المنطقي أوالفلسفي في هذا الباب كما يقول العقاد.
فالمعنى غالب على اللفظ في أفعال الدعاء والرجاء: يقول القائل (صحبتك السلامة) و(حفظك الله)، و(رعاك الله).. ومن آية القصد في اللغة ألا يحتاج الفعل هنا إلى النقل من صيغة الماضي إلى الحاضر، لأن المعنى بالبداهة معلق بالاستقبال. وفي بقائه على صيغة الماضي ما يشعر بقوة الأمل في الاستجابة، كأن ما يرجى أن يكون قد كان وأصبح من المحقق المستجاب، ولاشك أن هذا المعنى مقصود لأنه لم يأت عن عجز في اللغة، ولا يمتنع على قائل أن ينقله إلى صيغة المضارع إذا شاء.