آلات تنمية الثروة اللفظية في العربية
أ.د. ياسر الملاح
(1) الاشتقاق
اتهمَ بعضُ الحاقدين على اللغةِ العربيةِ، في حينٍ مِنَ الدهرِ، هذه اللغة الشريفة بالتقصيرِ في الوفاءِ بمُتطلباتِ الحضارةِ اللفظيةِ، ولذلك، كما يزعمون، لجأ أهلُ اللغةِ إلى استعارةِ مسمياتٍ وألفاظٍ ومصطلحاتٍ مِن الأممِ الأخرى للوفاءِ بهذه المتطلباتِ الضروريةِ. وكُنا نعتقدُ أنّ ردّ هذه التهمةِ قدِ انتهى إلى الأبدِ لسببيْن : الأولُ أنّ استعارة لغةٍ ما لفظا مُعيّنا من لغةٍ أخرى هو سُنة طبيعية تَحْدُث بين اللغاتِ جميعا، ولذلك لا مَجالَ لاتهامِ لغةٍ ما بالتقصيرِ أو الضعفِ لمُجردِ استعارةِ لفظٍ أو أكثرَ من اللغاتِ التي احْتكتْ بها تلك اللغة. والثاني أنّ العربية لا يُعجزها أبدا أنْ تجدَ لفظا عَرَبيّا للتعبيرِ عنْ مصطلحٍ أو فكرةٍ مستوردةٍ من أيِّ أمةٍ في الماضي أو الحاضر، وقد ثبت هذا بالدليلِ الملموسِ في العصورِ الماضيةِ عندما احتكتْ العربية بعَدَدٍ وافرٍ من اللغاتِ كالفارسيةِ والهنديةِ والروميةِ وغيرِها من اللغاتِ، وكذلك في العصرِ الذي نعيشُ فيه. ويجبُ أنْ نبقى دائما على ذُكرٍ، في هذه المسألةِ، أنّ احتكاكَ الناسِ ببعضِهم ضَرورة إنسانية لا يُمكنُ تجاهُلها ولا يُمكن إغفالها عند مناقشةِ مسألةٍ اجتماعيةٍ كاللغةِ.
وسَأحاولُ في عددٍ من المقالاتِ شرحَ الآلاتِ التي تَسْتخدمُها العربية في تنميةِ ثروتِها اللفظيةِ تنمية تنمُّ عن المقدرةِ الهائلةِ في توظيفِ هذه الآلاتِ لخدمةِ التعبيرِ والفكرِ، وسأبْدأ بالاشتقاقِ. قال السّيوطيُ في المُزهِرِ: " وقال في شرْح التسهيلِ: الاشتقاقُ أخْذ صيغةٍ مِنْ أخرى معَ اتفاقِهما مَعنىً ومادة أصليّة، وهيئة تركيب لها، ليُدلّ بالثانيةِ على مَعْنى الأصلِ بزيادةٍ مفيدةٍ لأجلِها اخْتلفا حُروفا أوهيئة؛ كضارب مِنْ ضربَ، وحذر من حَذِرَ". فهذا تعريفٌ موجز وواضحٌ يمكنُ البناءُ عليه.
الاشتقاقُ مصدرُ للفعلِ المزيدِ: اشتق ومُجَرَّدُه شقّ، أيْ أنّ المُعادلة التي أنتجتْ هذا المصدرَ وغيرَه من ألفاظِ هذه المادةِ هي: شقّ (فَعَلَ) ــ اشتق (افْتَعَلَ) ــ اشتقاق (افْتِعالٌ). وهذه المعادلة السهلة تعطي فِكرة بَسيطة عن الاشتقاقِ اللغويِّ في العربيةِ. فإذا دققنا النظرَ في هذه المعادلةِ وجدْنا أنها تتضمنُ الحقائقَ الآتية :
1) لا بُدَّ مِنْ وجودِ مادةٍ لغويةٍ أصليةٍ هي الجذرُ ( ش ق ق).
2) لا بد من وجودِ لفظٍ ولودٍ يتفرعُ منه اللفظ المَوْجودُ ( اشتق) ـــ (اشتقاق).
3) لا بد من مَعنىً مشتركٍ بين اللفظِ الولودِ واللفظِ المولودِ ( اشتق) ـــ (اشتقاق) .
4) لا بد من ترتيبٍ متطابقٍ في حروفِ الجذرِ الأصليةِ بين الوالدِ والمولودِ فـَ (ش ق ق) في اشتق، وكذلك (ش ق ق ) في اشتقاق.
5) لا بد من زيادةِ مَعنىً في المَولودِ على الوالدِ، فـ ( اشتقاق) مصدرٌ بينما (اشتق) فِعْلٌ.
فهذه الطريقة العملية التي تُحققُ للناطقِ مُبْتغاه من الألفاظِ التي يَحتاجُها في التواصلِ المُجتمعيِّ هي التي نحتفلُ بها، ونؤكدُ عليها، لأنها هي الأساسُ في حركةِ اللغةِ وحياتِها، أما ما ذهبَ إليه علماؤنا الأفاضلُ في مسألةِ الأصالةِ والفرعيةِ في الاشتقاقِ، فهلْ هو الفعلُ؟ أم هلْ هو المصدرُ؟ فهو جدلٌ قدْ يصيبُ فيه المرءُ وقدْ يخطئُ، هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى فهُوَ لا يقدمُ أي شيءٍ ناجعٍ للوسيلةِ العمليةِ التي تنتجُ اللفظ المطلوبَ لخدمةِ المَغزى الحَياتيِّ. ولذلك فإني أنصحُ المُعلمين الذين يُعْنَوْن بتدريسِ هذه المسألةِ أنْ يُخففوا من غُلوائها على عقولِ التلاميذِ والطلبةِ وأنْ يُركزوا على المنهج الشكليِّ في هذه المسألةِ، لأنَّ النحْوَ والصرفَ، وغيرَهما هذه المسائلِ اللغويةِ، إنما هي ضربٌ من الصنعةِ الشكليةِ التي يمكنُ حشوها بالمعنى المطلوب وَفْقَ طريقةِ العرب في المعاجمِ.
وفي مسألةِ تنميةِ الثروةِ اللفظيةِ في العربيةِ لا يهمّنا كثيرا ما ذهبَ إليه العلماءُ حولَ الحديثِ عن أنواع الاشتقاقِ، فهناك الاشتقاق الأكبرُ، كما سماه ابنُ جِنّيّ، وهو الذي يقومُ على مسألةِ التقاليبِ حيث يُشتقُ من الجذرِ الواحدِ عددٌ من الجُذورِ التي قدْ يكونُ لبعضِها مَعنىً، وقد لا يَكونُ لبعضِها الآخرِ معنىً، ولكنه رصيدٌ مُحتملُ الاستعمالِ عند الضرورةِ. فالجذرُ ( كتب ) يمكنُ أن نشتقَ منه ستة جُذورٍ هي :
ــ إذا بدأنا بصوت الكاف يكون لدينا : كتب ، كبت
ــ = = = التاء = = : تكب ، تبك
ــ = = = الباء = = : بكت ، بتك
فهذه جميعا بعضُها له مَعنىً مثل : كتبَ و كبتَ و بكتَ، أما البقيّة فلا يكادُ يتبينُ لها معنىً واضحٌ. وقد يتوسعُ هذا الاشتقاقُ فيشملُ المجردَ الرباعيَّ والمجردَ الخماسيَّ، وهكذا يمكنُ أنْ يُشتق من الرباعيِّ أربعة وعشرون لفظا، ومن الخماسيِّ مِائة وعشرون لفظا، وبهذا تتبينُ الطاقة الكبيرة المُدَّخرة في ألفاظِ العربيةِ من الجذورِ الثلاثيةِ والرباعيةِ والخماسيةِ، وينطبقُ على الألفاظِ المشتقةِ من الرباعيِّ والخماسيِّ ما ذكرناه عن الثلاثيِّ في مسألةِ معاني هذه الألفاظِ الجديدةِ أو عدمِ تبينِ معنىً واضحٍ لها.
وهُناكَ الاشتقاقُ الكبيرُ، وهو أخذ كلمةٍ منْ كلمةٍ أخرى بتغييرٍ في بعضِ الأحرفِ فيهما، وتشابهٍ بينهما في المَعْنى، كقولِهم : نهق ونعق، فالنونُ والقافُ حَرفانِ ثابتانِ، والهاءُ والقافُ حرفانِ مُتغيرانِ، قادَ تبادلهُما على الأصلِ الثابتِ إلى تغيرٍ في المَعْنى وتقاربٍ فيه، وهكذا في (عبرَ وعفرَ)، وفي ( رمق ورشق)، وفي (قبر وقسر)، وغيرِ هذه من الألفاظِ الدالةِ على الفكرةِ. وليسَ صعبا أنْ نأتيَ بالكثيرِ من الأمثلةِ على هذا النوع من الاشتقاقِ لأنه كثيرٌ في اللغةِ، ولعلَ هذه الكثرة هي التي أوحتْ لابنِ جِنِّي بالإعلانِ عنه، وباعتبارِه أحدَ أنواعِ الاشتقاقِ في العربيةِ.
وفكرة الاشتقاقِ من الجذرِ سواء أكان ثلاثيا أمْ كان رُباعيا أو خُماسيا تشبهُ إلى حدٍ كبيرٍ فكرة السبيكةِ الذهبيةِ التي يَشتقُ منها الصائغُ ما يشاءُ من أنواع الحَليِ التي أصْلها جميعا واحدٌ وهو الذهبُ، ولكنّ هيئة كلِ نوع تَختلفُ عن النوع الآخرِ، فالسِّوارُ غيرُ العِقدِ، وهما غيرُ الخاتَمِ مع أنها جميعا صيغتْ من مادةٍ واحدةٍ هي الذهبُ. وهكذا تكونُ عملية الاشتقاقِ اللغويِّ التي يَشتقُ منها الناطقُ أو اللغويُّ أنواعا من الألفاظِ التي تقومُ على أصلٍ واحدٍ هو الجذرُ اللغويُ، غيرَ أنّ هيئاتِ الكلماتِ المشتقةِ تختلفُ فيما بينها على النحوِ المعروفِ في اشتقاقِ الفعلِ أو المصدرِ أو اسم الفاعلِ أو اسم المفعولِ أو غير ذلك من المفرداتِ. ويَحْلو لبعضِ الدارسين أنْ يَمُدَ في أنواع الاشتقاقِ للتكثيرِ والمبالغةِ، غيرَ أنّ الحقيقة الناصِعَة هو أنّ الاشتقاقَ الصغيرَ أو الأصغرَ كما يُسميه بعضُ الباحثين هو الأصلُ في فكرةِ الاشتقاقِ، ولعلَّ مُصطلحَ الاشتقاقِ العامِ الذي اقترحَه بعضُ الباحثين أنسبُ ما يُطلقُ عليه من المُصطلحاتِ، فهو الاشتقاقُ الأصليُ الذي يعبرُ عن هذه الخاصيةِ التي تمتازُ بها العرَبيَّة.
وسواءٌ أكان الاشتقاقُ من مُجردٍ يسهلُ علينا أنْ نشتقَ منه عددا كبيرا من الصيغ والهيئاتِ الاسميةِ والفعليةِ أمْ كان جذرا غيرَ وَلودٍ، فالفكرة واحدة، أيْ أنّ هناك سَبيكة مُعينة، أو أصْلا لغويا بمواصفاتٍ خاصةٍ، فإن النظامَ اللغويَّ يتيحُ لنا، لتلبيةِ الحاجةِ، أنْ نصنعَ منها كلمة تخدِمُنا في الحياةِ العمليةِ. فبعضُ الدارسين، لتكثيرِ أوجهِ الاشتقاقِ، يعتبرُ أنّ الاشتقاقَ من مَسْكنَ، كأنْ نقولَ: تَمَسْكنَ على تَمَفْعَلَ هو نوع منه، وإنْ كان قدْ وُصفَ بأنه غيرُ قويٍّ وشاذٌ، وكذلك الاشتقاقُ من الجواهرِ والأعيانِ كقولِنا اسْتأسدَ واسْتنوقَ من الأسدِ والناقةِ، والاشتقاقُ من أسماءِ العددِ كقولِهم : كانوا ثلاثة فربّعْتُهم، أو كانوا خمْسَة فخمّسْتهم، أيْ اشتُق الفعلان: ربّعَ وخمّسَ من العددينِ : أربعة وخمسة، والاشتقاقُ من أسماءِ الزمانِ كقولهم : تشتيتُ أيْ أقمتُ به في الشتاءِ، أو قولهم : أصافَ القومُ أي دخلوا في الصيفِ، والاشتقاقُ من أسماءِ الأماكنِ كقولِهم : أعرقَ وأنْجدَ أي صار إلى العراقِ ووصلَ إلى نجدٍ، والاشتقاقُ من أعضاءِ الجسمِ، كقولِهم : أذَنَه أي أصابَ أذنَه، ومثلها يَداهُ أيْ ضربَ يدَه، ومَعْيون أيْ أصابته العَيْنُ، وتأبَّطهُ أيْ وضعَه تحتَ إبطِه، والاشتقاقُ من الاسمِ العجميِّ ومنْ اسمِ الصوتِ ومن الحروفِ. فهذه جميعا إنما جاءَ بها بعضُ الدارسين لتكثيرِ أنواع الاشتقاقِ للمبالغةِ وتهويلِ حجمِ الموضوع. غيرَ أنّ الأمرَ، في الحقيقةِ، لا يَحتاجُ إلى مبالغةٍ أو تكثيرٍ أو تهويلٍ لأنّ فكرة الاشتقاقِ فكرة بسيطة، وهي مُذهِلة في خِدمةِ اللغةِ وتنميةِ الثروةِ اللفظيةِ، وخُلاصَتُها أنك إذا دَفَعَتْك حاجتُك إلى إيجادِ لفظٍ ما مِنْ أيِّ أصلٍ لغويٍّ حتى ولوْ كان عَجميّا، فلكَ أنْ تفعلَ هذا، بانسجامٍ مع الأوزانِ العربيةِ وأصواتِها، انطلاقا من تغليب الحاجةِ العمليةِ على أيِّ تصورٍ لا يخدمُ الحركة العملية في حياةِ اللغةِ. وقد ذهبَ إلى هذا الرأيِ الذي نذهبُ إليه بعضُ اللغويين القدماءِ مثل السِّيرافي وأبي عليٍّ الفارسيِّ وأوردَ هذا السيوطيُّ في مُزهِرِه حيث قال على لسانِ طائفةٍ مِنَ العُلماءِ :" ... بعضُ الكلمِ مُشتق، وبعضُه غيرُ مشتقٍ. ونسبَ ذلك إلى سِيبَوَيْهِ والزَّجّاجِ، وقالتْ طائفة من النظارِ: الكلمُ كله أصْلٌ..."، والشاهدُ في هذا النصِ قولُ بعضِ النظارِ أنّ الكلِمَ كله أصْلٌ، وهذا يتطابقُ مع الرأي الذي ذهبْنا إليه ومُلخصُه أنك إذا دَعتْك الحاجة إلى الاشتقاقِ مِنْ أيِّ كلمةٍ فهذه الكلمة أصلٌ للاشتقاقِ. فهلْ نجدُ مثيلا لهذه الحُريةِ العمليةِ ؟ وهلْ نجدُ جُرأة وتفتّحا ذهنيا مثلَ هذا في النضج العمليِّ لخدمةِ نموِ اللغةِ وتطورِها في الحياةِ العمليةِ ؟!؟ وهلْ نجدُ مُرونة كهذه المُرونةِ الاشتقاقيةِ التي تتمتعُ بها العربية؟ اللهم، اهْدِ هؤلاءِ المُتَجَنِّين على العربيةِ في هذا المجالِ الإبداعيِّ، وألهمْهم الصوابَ في القولِ والعملِ.
ومِنْ باب الإنصافِ العلميِّ أنْ نذكرَ أنّ هناك مَيْلا عامّا، بين اللغويين المُعاصرين كالأستاذِ الدكتورِ تمام حسان، وغيرِه من المُحققين، إلى أنْ يقومَ الاشتقاقُ على مُجردِ العَلاقةِ بين الكلماتِ واشتراكِها في شيءٍ مُعيّنٍ خيرٌ منْ أنْ تقومَ على افتراضِ أصْلٍ منها وفرع، وبهذا نجعلُ العَلاقة بين المُفرداتِ على أساسِ المعنى الوظيفيِّ لا على أساسِ المَعْنى المُعجميِّ، فإذا فعَلنا هذا واستبْعدْنا المَعنى عن الربطِ بين الكلماتِ أقمْنا عَلاقة شكلية بين الكلماتِ كما يفعلُ المُعجميون في إقامةِ هذا الرابطِ بين الكلماتِ. وهذا التصورُ يتيحُ لنا أنْ نوسعَ دائرة الاشتقاقِ بحيث يجعلُ كلَّ كلمةٍ يُشتقُ منها أصْلا في عمليةِ الاشتقاقِ.
وليس بعيدا عن هذا أنْ نُشبه الجذرَ اللغويَ بالشجرةِ الوارفةِ الظلالِ، لها جذرٌ ولها أغصانٌ يانعة وتتدلى على أطرافِها الثمارُ اللغوية الوفيرة والشهيّة، والمُعجمُ اللغويُّ هو بستانٌ لغويٌ وفيرُ الخيرِ والعطاءِ، فإذا كان ذلك كذلك، فمِنْ أين يأتي الفقرُ لهذه اللغةِ الشريفةِ؟ ومن أين يأتي العَجْزُ لها فلا تمُدّنا بالألفاظِ التي تتطلبُها الحضارة والمصطلحاتُ العلمية؟ إنّ مثلَ هذه الأفكارِ لتنمُ عن جهلٍ بعيدِ الغوْرِ في نفوسِ مَنْ يَحملُ على هذه اللغةِ مُتهما إياها بالعجزِ والتقصيرِ.
|
|
|