حرف الياء

م. محمد يحيى كعدان



الأداة ( ي 10110 ): معرفة المتكلم والمستمع بشكل عنصر غائب. أي أن العنصر "ياء" إلى المتكلم والمستمع.
يقول المرادي في "الجنى الداني في حروف المعاني": " الياء.. حرف مهمل، له ثلاثة أقسام:
الأول: أن تكون للإنكار. نحو: أزيدُنِيْهْ. ألحقت الياء بعد كسر التنوين.
الثاني: أن تكون للتذكار. نحو قدِي: إذا أردت أن تقول: قد قام، فوقفت على قد لتذكُّرِ ما بعده. وقد تقدّم ذلك في الواو والألف.
الثالث: أن تكون حرفاً يدل على التأنيث والخطاب. وهو الياء في تفعلين على مذهب الأخفش والمازني. والصحيح أنها اسم مضمر. والخلاف في ذلك شهير.
وما سوى ذلك، من أقسام الياء، فلا يُعدّ من حروف المعاني، كياء التصغير، وياء النسب، وياء المضارعة، وياء الإطلاق، وياء الإشباع، وغير ذلك من الياءات".

الصيغة " ياء " تعني: أن عنصراً واسع التآلف قد ياء للمتكلم والمستمع (ي ، ا ، ء)، أي لدينا شكل غير موصف (دون تمييز) لعنصر غائب أمام المتكلم والمستمع (ي)، لعنصر واسع التآلف (لتكرار الألف في الصياغة).
يقول ابن منظور في كتابه "لسان العرب" فصل الياء: "يأيأ: يَأيَأتُ الرّجلَ يَأيَأةً ويَأيَاءً: أظهَرْتُ إلطافَه ... ويَأيَأ بالقومِ: دعاهُم".
الآن إذا استبعدنا تشوه اللفظ في أمثلة المرادي، فإننا لا نتفق معه على دلالتها على التأنيث والخطاب، أو الاسم المضمر في: تفعليْن. إذ نجدها في المثنى المذكّر في: الفائزَيْنِ. أو الجمع في: الفائزِيْنَ. ... إلخ.
ولا نتفق معه كذلك على وجود ياءات متعددة، كياء التصغير والنسب والمضارعة... إلخ.
ومعنى الياء في كل ما ذُكر أعلاه، لا يخرج عن معرفة المتكلم والمستمع بالشكل العام لعنصر غائب.
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: زيد يضرب عمرواً. لدراستها نكتبها كما يلي: زيد(يَ(ضْرِبُ عمرواً))) معتبرين أن الصيغتين: زيد، ضْرِبُ عمرواً. معروفتا الصياغة والمعنى.
هذا يعني أن "ضرب عمرو" غائب عن المتكلم والمستمع، لأن الياء لا تدل على حضور "ضرب عمرو" بالنسبة للمتكلم والمستمع، بل تدل على غيابه حقيقة أو حكماً.
إن المتكلم والمستمع موجودان في تعريف الياء، ولكن الموضوع غائب (القيمة 0 مكان العنصر الثاني) عنهما. فإذا كان الموضوع موجوداً قربهما، فهذا يعني أنه غائب حكماً وليس حقيقة. أي أن "ضرب عمرو" قريب من المتكلم والمستمع، ولكنه غير معروف (مُعَرّف) لهما، وهو بحكم الغائب عنهما.
أي أن الياء هي معرفة المتكلم والمستمع، بالشكل العام لعنصرٍ غائب حقيقة أو حكماً.
لنتساءل ما هو التعبير الذي نستخدمه، عندما يكون الموضوع حاضراً، أي عندما يكون لدينا 11110 (القيمة 1 مكان العنصر الثاني)؟
إن القيم السابقة هي تعريف الباء. وعندها نقول: زيدٌ (بـُ(ضْرب عمرواً)). وهذا يعني تعريف المتكلم والمستمع بشكل عنصر حاضر.
نلاحظ أيضاً أن الياء، لا تدل على المضارعة أبداً. وقولنا مثلاً: زيد يفعل الخير. لا يعني أنه يفعله الآن، بل ينسحب على كافة الأزمنة.
كما أنه يمكن القول: زيد يضرب عمرواً منذ زمنٍ، أو: زيد يضرب عمرواً في المستقبل.
أما إذا أردنا المضارعة، فإننا نقول: زيدٌ بُيُضْرب عمرواً. ويكون الضم عندها مسؤولاً عن الزمن المضارع، وحرف الباء يكون مسؤولاً عن حضور العنصر.

حتى الآن قمنا بدراسة سريعة للنظرية العامة للصياغة اللغوية، وأجرينا العديد من التطبيقات على ما يسمى بالحروف الأحادية. وقمنا بدراسة السلوك الرئيسي فقط لكل حرف.
إن عناصر النظرية اللغوية التقليدية هي: الأحرف والكلمات والجمل، بينما هي عبارة عن عنصر واحد، هو: الصيغة، في النظرية اللسانية الحديثة.
بالتالي كافة الصيغ، تخضع للنظرية العامة في الصياغة، وتتم دراستها حسب الطرق التي درسناها سابقاً، وليس هناك من فرق عندنا مبدئياً، بين حرف أو كلمة من اسم أو فعل... إلخ، فالكل يخضع لدراسة موحدة، تعرَّفنا أسسها، وهي وجود الصيغ الأساسية، أي الأبجدية، وتركيب هذه الصيغ للحصول على الصيغ المُرَكَّبة.

الصيغة " يا ":
يقول المرادي: " يا .. حرف تنبيه. وهي قسمان:
الأول: أن تكون لتنبيه المنادى، نحو: يا زيد. فهي في هذا حرف نداء. وهي أُمُّ باب النداء، فلذلك دخلت في جميع أبوابه، وانفردت بباب الاستغاثة، وشاركت وا في باب الندبة. وهي لنداء البعيد مسافة أو حكماً. وقد ينادى بها القريب، توكيداً. ومذهب سيبويه أن ماعدا الهمزة، من حروف النداء، فهو للبعيد. إلاّ أنه يجوز نداء القريب بما للبعيد، على سبيل التوكيد. وقيل: يا، مُشْتَرَكَة يُنادى بها القريب والبعيد، لكثرة استعمالها. ولكثرة استعمالها نقول: إنها هي المحذوفة في النداء، في نحو: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا (يوسف 39)، و رَبَّنا آمَنَّا (آل عمران 53). ومواضع حذفها مذكورة في كتب النحو، فلا نطول بها.
فائدة.. ذهب بعض النحويين إلى أن يا وأخواتها، التي يُنادى بها، أسماء أفعال، تتحمل ضميراً مستكنَّاً فيها. ونُقل عن الكوفيين.
الثاني: أن تكون لمجرد التنبيه، لا للنداء. ويليها أحدُ خمسة أشياء:
الأمر: نحو: ألا، يا اسْجُدُوا (النمل 25)، في قراءة الكسائي. وقول الشاعر الشمّاخ:
     ألا، يا اسقياني، قبلَ غارةِ سِنْجالِ ***** وقبلَ  مَنايا،  باكراتٍ،  وآجالِ
والدعاء: كقول الشاعر:
      يا لعنةُ   اللهِ ،   والأقوامِ   كُلِّهِمِ ***** والصّالِحِينَ، على سِمْعانَ مِن جارِ
وليت: نحو: يا لَيْتَني كُنْتُ مَعَهُمْ (النساء 73).
ورُبَّ: نحو (يا رُبَّ سارٍ باتَ ما تَوسَّدا).
وحبَّذا: كقول الشاعر جرير:
         يا حَبَّذا جَبَلُ الرَّيّانِ، من جَبَلٍ ***** وحَبَّذا ساكنُ الرَّيّانِ، مَن كانا
فيا في هذه المواضع حرف تنبيه، لا حرف نداء. هذا مذهب قوم من النحويين. قال بعضهم: وهو الصحيح.
وذهب آخرون إلى أنها، في ذلك، حرف نداء، والمنادى محذوف. والتقدير: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وألا يا هذان اسقياني. وكذلك تقدر في سائرها. وضُعِّفَ بوجهين: أحدهما: أن يا ناب مناب الفعل المحذوف، فلو حُذف المنادى لزم حذف الجملة بأسرها. وذلك إخلال.
والثاني: أن المنادى مُعْتمَدُ المَقصِدِ، فإذا حُذف تناقض المراد.
وذهب ابن مالك في التسهيل إلى تفصيل ذلك. وهو أنّ يا إنْ وليها أمرٌ أو دعاء، فهي حرف نداء، والمنادى محذوف. وإنْ وليها ليتَ أو رُبَّ أو حبَّذا فهي لمجرّد التنبيه. وقد بيَّنتُ ذلك في شرح التسهيل. والله أعلم".
 
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: يا زيد.
لدراستها نكتبها كما يلي: ي (ا(زيد)). ونعتبر أن الصيغة زيد، معروفة الصياغة والمعنى.
ومنه، يوجد عنصر ثان (موضوع) هو: زيد، وهذا العنصر معروف الشكل والصفة لكل من المتكلم والمستمع، ومتآلف معهما، وذلك حسب الصياغة بالحرف (ا) ولكن عند الصياغة بالحرف (ي) ذي القيم 10110 ، فإن خانة العنصر الثاني المذكور والمتآلف مع المتكلم والمستمع، أي: ا (زيد)، تأخذ القيمة 0.
ومنه فإن الصيغة " يا " تعني معرفة المتكلم والمستمع ، بشكل عنصر عام غائب (ي)، لعنصرٍ  متآلف (ا).
أي أن " يا " في المثال السابق ، تتحدث عن عنصر غائب معروف الشكل، للمتكلم والمستمع، لعنصرٍ متآلف، هو الصيغة: زيد.

في عملنا هذا لا نأخذ بوجود أدوات للاستفهام أو النداء، فكلاهما يتم التعبير عنه باللهجة. إذ نستطيع النداء دون استخدام تلك الأدوات، ولا مبرر حينئذ لافتراض أدوات محذوفة، أو غير ذلك.

وتستخدم الصيغة " يا " في معظم صيغ النداء (لهجةً): إذا كان المنادى، المتآلف بداية مع المتكلم والمستمع، غائباً، ولكنه معروف الشكل فقط لهما، لبعده حقيقة أو حكماً، فلم يتمكنا من تمييزه.

الصيغتان " أَيْ ، إِيْ ":
يقول المرادي: " أَيْ، بفتح الهمزة.. حرف له قسمان:
الأول: أن يكون حرف نداء، كقولك: أَيْ زيدُ. وفي الحديث: " أَيْ رَبِّ ". وهي لنداء البعيد. وقيل: للقريب، كالهمزة. وقيل: للمتوسط. وقد تُمدُّ، فيقال: آيْ. حكاها الكسائي، وقال: بعضهم يجوز مدّها إذا بعدت المسافة. فيكون المدّ فيها دليلاً على البعد.
الثاني: أن تكون حرف تفسير، كقول الشاعر:
  وتَرمينَنِي بالطَّرْفِ، أيْ: أنتَ مُذْنِبٌ ***** وتَقْلِينَنِي ، لكنّ  إيَّاكِ  لا أقْلِي
وهي أعمُّ من أن المفسِّرة، لأن أَيْ تدخل على الجملة والمفرد، وتقع بعد القول وغيره. وذهب قوم إلى أن أيْ التفسيرية اسم فعل، معناه عُوا أو افهموا.
وزاد بعضهم لأيْ قسماً ثالثاً. وهو أن تكون حرف عطف. وذلك إذا وقع بين مشترِكين في الإعراب، نحو: هذا الغضَنفرُ، أي: الأسدُ. وكونها حرف عطف هو مذهب الكوفيين. وتبعهم ابن السّكاكي الخوارزمي، من أهل المشرق، وأبو جعفر بن صابر، من أهل المغرب. والصحيح أنها التفسيرية، وما بعدها عطف بيان.
واعلم أن أيْ قد تكون محذوفة من أيّ الاستفهامية. كقول الشاعر الفرزدق:
      تَنَظّرْتُ نَصْراً والسِّماكَينِ، أيْهُما ***** عليّ، من الغَيثِ، استَهلَّتْ مَواطرُهْ
إيْ، بكسر الهمزة.. حرف بمعنى نَعَمْ. يكون لتصديقِ مُخْبِرٍ، أو إعلامِ مُستخبِرٍ، أو وعدِ طالبٍ. لكنّها مختصة بالقَسَم، و نعم تكون في القَسَم وغيره.
كقوله تعالى: قُلْ: إِيْ ورَبِّي (يونس 53). وإذا وليها واو القَسَم تعيّن إثبات يائها. وإذا حذف الخافض، فقيل: إيْ اللهِ، جاز فيها ثلاثة أوجه. الأول: حذف الياء. والثاني: فتحها. والثالث: إثباتها ساكنةً، ويُغتفَر الجمع بين الساكنين".   

لنتأمل الصيغة التالية كمثال: أَيْ جاء زيد.
لدراستها نكتبها كما يلي: أ (ي(جاء زيد)). نعتبر أن الصيغة جاء زيد، معروفة الصياغة والمعنى.
ومنه، هناك عنصر ثان (موضوع) غائب، هو: جاء زيد، هذا العنصر معروف الشكل فقط لكل من المتكلم والمستمع، وذلك حسب الصياغة بالحرف (ي) ذي القيم 10110.
لكن عند الصياغة بالألف ذات القيم 11111، فإن العنصر الثاني المذكور: يْ (جاء زيد)، يتآلف مع المتكلم والمستمع. ومنه فإن الصيغة " أَيْ " تعني: وجود عنصر متآلف مع المتكلم والمستمع (ا)، لعنصرٍ غائب معروف الشكل فقط لهما.
بناء على ما سبق نُسمّي: أَيْ، بالصيغة التفسيرية. وهي تعريف المتكلم والمستمع على شكل وصفة عنصر حاضر، لعنصر غائب معروف الشكل فقط لهما.
ونلاحظ أن الصيغة " أي "، هي عكس الصيغة " يا ".

الصيغة " وَيْ ":
يقول المرادي: " وَيْ.. المعروف أنها اسم فعل، بمعنى: أعجبُ. قال الشاعر:
   ويْ، كأنْ مَن يكنْ لهُ نشَبٌ يُحْـ ***** ـبَبْ، ومَن يَفتقرْ يَعِشْ عَيشَ ضُرِّ
فهو اسم للفعل المضارع، وتلحقها كاف الخطاب. قال عنترة:
      ولقد شَفَى نَفْسِي، وأبرأَ سُقْمَها ***** قِيلُ الفَوارِسِ: وَيكَ، عَنترَ، أقدِمِ
وقال الكسائي: إنَّ ويكَ محذوفة من ويلك. فالكاف، على قوله، ضمير مجرور. وأما قوله تعالى: وَيْكأنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ (الشورى 12)، فقال أبو الحسن الأخفش: هو ويكَ بمعنى: أعجبُ. والكاف حرف خطاب. أي: أعجبُ لأنّ الله. وعند الخليل وسيبويه أنّ وي وحدها، والكاف للتشبيه. واختلاف القُرّاء في الوقف مشهور.
وذكر صاحب رصف المباني أنّ وي حرف تنبيه، معناها التنبيه على الزجر، كما أن ها معناها التنبيه على الحض. وهي تقال، للرجوع عن المكروه، والمحذور. وذلك إذا وُجد رجل يسبّ أحداَ، أو يوقعه في مكروه، أو يتلفه، أو يأخذ ماله، أو يعرض له بشيء من ذلك، فيقال لذلك الرجل: وَيْ. ومعناه: تَنبَّهْ وازدَجِرْ عن فعلك. ويجوز أن توصل به كاف الخطاب. هذا كلامه. ثم ذكر اختلاف العلماء في قوله تعالى: وَيْكأنَّ اللهَ، وقال: الصحيح أن تكون وَيْ حرف تنبيه. والله سبحانه أعلم".

وجدنا أن تعريف الحرف (ي) هو القيم 10110، وتعني معرفة المتكلم والمستمع، بشكل عنصر غائب. وعند صياغته بالحرف (و) ذي القيم 11010، ذلك يعني حضور هذا العنصر الغائب باتجاه المتكلم، وبعيداً عن المستمع، مما يؤدي لقَصْر معرفة شكله على المتكلم فقط.
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: وي (ك(أنّ اللهَ يبْسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ).
وتعني (والله أعلم):

أنّ العنصر الثاني (الصيغة): أنّ اللهَ يبْسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ، معروف الصفة للمتكلم والمستمع معاً، رغم غيابه ( ك 10101 )؛ وبالصياغة بالحرف (ي)، فإن معرفة العنصر تنتقل من التوصيف إلى التشكيل والتجسّد (رغم غيابه) بالنسبة للمتكلم والمستمع، أي أن الصيغة السابقة تصبح شكلاً متجسداً وموضوعياً بالنسبة لهما، رغم غيابها؛ ثم بالصياغة بالحرف (و) ، فإن هذه الصيغة تحضر باتجاه المتكلم، فيتمكن هو من معرفة شكلها فقط.
والآن لنتأمل المثال التالي:
      ولقد شَفَى نَفْسِي، وأبرأَ سُقْمَها ***** قِيلُ الفَوارِسِ: وَي (كَ(عَنترَ، أقدِمِ))
ويعني: ولقد شَفَى نَفْسِي، وأبرأَ سُقْمَها قِيلُ الفَوارِسِ: أنّ الصيغة: "عنترَ، أقدمِ"؛ قد حضرت باتجاه المتكلم فقط (و) (حضرت من بعيد نسبياً حقيقة أو حكماً بالنسبة له، فتمكن من معرفة شكلها عموماً ولم يتمكن من تمييز تفاصيلها)؛ وهي لعنصر معروف الشكل وحقيقي بالنسبة للمتكلم والمستمع، رغم غيابه (ي)؛ بعد أن كان هذا العنصر معروف الصفة فقط لهما (ك).