مِنْ آلاتِ تنميةِ الثروةِ اللفظيةِ في اللغةِ العربيةِ

أ.د. ياسر الملاح


(3) التعريبُ

نحنُ الآنَ على ضِفافِ رافدٍ آخرَ منْ روافدِ تنميةِ الثروةِ اللفظيةِ في اللغةِ العربيةِ هو رافدُ التعْريب. والتعْريبُ لغة من الفعلِ ( عَرّبَ)، أي جَعَله عَربيّا، كما نقولُ: حجّرَ، أي صارَ حَجَرا أو كالحجرِ، وتشتركُ هذه الكلمة معَ كلمةٍ أعْربَ في الجَذرِ، وكأنهما يُشيرانِ معاً إلى مَعْنى الوضوحِ والإفصاحِ الذي هو الأساسُ في استخدامِ اللغةِ بعامةٍ، واللفظِ المُفردِ بخاصةٍ سواءٌ أكان عَربيّا أصليّا أمْ كان مُقترَضا من اللغاتِ الأخرى كالمُعَرّب. وهذا الفعلُ ( عرّبَ ) مَصدرُه التفعيلُ، والتفعيلُ في اللغةِ من مَعانيه الصّيْرورة أيْ التحولُ من حالٍ إلى حالٍ، وفي هذا المصطلح فإنّ التعريبَ هو تحولُ اللفظِ غيرِ العربيِّ إلى لفظٍ عربيٍّ صَوْتا وبنية ونحوا ودلالة. وأما المعنى الاصطلاحيُ، فقد وردَ في اللسانِ عن الجَوْهريِّ: " تعريبُ الأعجميِّ أنْ تتفوهَ به العربُ على مِنهاجها "، وجاءَ في شفاءِ الغليلِ للخفاجيِّ :" واعلمْ أنّ التعريبَ نقلُ اللفظِ من العَجَميةِ إلى العربيةِ، والمشهورُ فيه التعريبُ، وسَمّاه سيبويهِ وغيرُه إعْرابا، فيقالُ حينئذٍ مُعرّبٌ ومُعْرَبٌ "، وفي المُعرباتِ الرشيديةِ لعبد الرشيد الحسيني وردَ: " التعريبُ هو استعمالُ لفظٍ غيرِ عربيٍّ في كلامِ العرب ، وإجراءُ أحكامِ اللفظِ العربيِّ عليه "، وقد لخصَ أحدُ الباحثين المعنى الاصطلاحيَّ بقوله: " ... فالتعريبُ عملية تغييرٍ لغويةٍ تشملُ بنية اللفظِ المعرب في جَوانبها الصّوتيةِ أو الصّرْفيةِ أو التركيبيةِ أو الدلاليةِ بحيث تتلاءمُ وتتناسبُ مع الصِّيَغ العربيةِ وطريقة النطقِ العربيةِ وضبطِها ". وقد يَتسعُ مَفهومُ التعريب ليشملَ الترجمة – وإن كان هناك اختلافٌ دقيقٌ بين مَفهومي التعريب والترجمةِ من الناحيةِ الاصْطلاحيةِ، ومن ناحيةِ أنّ بعضَ الكُتّاب، لصعوبةِ النقلِ الدقيقِ منْ لغةٍ إلى لغةٍ أخرى، يَرى أنّ الترجمة ضربٌ من الشرْح والتفسيرِ- أيْ نقلُ مضامينِ المراجعِ العلميةِ والأدبيةِ من اللغاتِ غيرِ العربيةِ إلى العربيةِ. ومن اتساع مَفهومِ التعريب الاصطلاحيّ كذلك اتخاذ المرءِ العربية لِسانا ولغة للعلمِ والحياةِ، فيفكرُ بها، ويتعلمُ بها، ويعلمُ بها، ويكتبُ بها رسائله وتقاريرَه التي درجَ كثيرٌ من العرب، هذه الأيامَ، على كتابتِها بالإنجليزيةِ أو غيرِها من اللغاتِ الأجنبيةِ، واأسفاه !!! ولهذا يُصبحُ الهمَ الأكبرَ للتعريب تعريبُ التعليمِ والإدارةِ والتجارةِ والتفكيرِ والسياسةِ والإعلامِ والعناوينِ والإعلاناتِ واللوحاتِ التجاريةِ وكلِ مناحي الحياةِ، ويعتبرُ موضوع التعريب، اليومَ، وبعدَ أنْ كسِفتْ شمسُ الحضارةِ العربيةِ في حركةِ الحياةِ المُعاصرةِ، إحدى قضايا العرب المُهمةِ وإحدى قضايا لغتِهم المُعاصرةِ.       
وفي ظاهرةِ التعريب دلالاتٌ إنسانية عميقة في الأسباب والنتائج، فأسبابُ التعريب نواميسُ كونية لا تتخَلفُ، وهي تتلخصُ في ضرورةِ احْتكاكِ الأممِ ببعضِها، إذ من المستحيلِ أنْ تكونَ حياة إنسانية طبيعيّة في مَنْأىً عنِ الِاحتكاكِ بالأممِ الأخرى التي تقومُ بينها علاقات سلميّة أو عَلاقات غير سلميّةٍ. ولهذا يقولُ الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه (علم اللغة ): "... من المُتعَذرِ أنْ تظلَ لغة بمأمَنٍ من الِاحتكاكِ بلغةٍ أخرى ". وإذا كان العقلُ المُتنورُ قد فهم سُنّة الحياةِ في التغيرِ والتطورِ، فمن المُستحيلِ أنْ يتحققَ تطورٌ ما لأيِّ جانِب منْ جَوانب الحياةِ، ومنها اللغة، بغيرِ التواصلِ معَ الآخرين، وبغيرِ الِاحتكاكِ العميقِ بهم، ولهذا يقولُ فندريس في كتابه ( اللغة ) إنّ: " تطورَ اللغةِ المستمرَ، في مَعْزلٍ عن كلِ تأثيرٍ خارجيٍّ، يُعدُ أمْرا مِثاليّا لا يكادُ يتحققُ في أيةِ لغةٍ ". إذا فالاحتكاكُ أمرٌ أساسيٌ لحياةِ أيِّ لغةٍ حياة طبيعيّة مُتفقة مع الأسباب الكونيةِ في تطورِ اللغاتِ. وأما النتائجُ المنبثقة عن هذا الاحتكاكِ فتتمثلُ في قبولِ الآخرِ، وفي الاستفادةِ منه، تطبيقا لقانون الأخذ والعطاء أو التأثر والتأثير، فإنْ لمْ يكنْ ذلك عن رِضا فإنّه يَحصلُ رغمَ أنفِ المرءِ، وفي هذا يقولُ فندريس في معرضِ حَديثِه عن ضرورةِ الاحتكاكِ البشريِّ لتحققِ التطورِ اللغويِّ:" بلْ على العكسِ من ذلكَ، فإنّ الأثرَ الذي يقعُ على لغةٍ ما مِنْ لغاتٍ مُجاورةٍ لها، كثيرا ما يَلعبُ دَوْرا هامّا في التطورِ اللغويِّ؛ ذلك لأنّ احتكاكَ اللغاتِ ضرورة تاريخية، واحتكاك اللغاتِ يُؤدي حَتْما إلى تَداخلِها ".
وعليه، فإنّ التعْريبَ سُنة لغوية كوْنيّة إيجابيّة لا يُخشى منها على اللغة المُقترِضَة، وهيَ لمْ تفعلْ هذا إلا لضرورةٍ اجتماعيةٍ، ولذلك نقولُ لأولئك الذين يُنَفرون من التعْريب: إنّ التعْريبَ نِعْمَة كبيرة على اللغةِ العربيةِ، وإنّ هذه الألفاظ المُعَرّبة، مَهْما كبُر حجْمُها، فإنها لنْ تكون إلا كمنْ يضعُ شيئا قليلا في نهرٍ لغويٍّ عربيٍّ مُتدفقٍ، فهلْ يَضيرُ ما وُضِعَ من شيءٍ قليلٍ هذا النهرَ شيئا؟ وهلْ يُغيرُ مَجْراه أوْ لوْنَه؟ إنّ هذا لنْ يَحْدث أبدا، وبخاصةٍ إذا كان قدْرُ هذا المُعرّب بحجمِ الضرورةِ والحاجةِ. وانظرْ، أخي القارئَ الكريمَ، إلى هذه الدراسةِ الطريفةِ عن اللغةِ الفرنسيةِ، وخُلاصَتها: " فحصَ أحدُ الباحثين من اللغويين المُحدثين مُعجما فرنسيا يشتملُ على 4630 كلمة، فوجدَ منها 2028 كلمة فقط من الأصلِ اللاتينيِّ الذي يُعدُ المصدرَ الأصيلَ للغةِ الفرنسيةِ، ووَجَدَ 925 من اللغةِ اليونانيةِ، و604 من الألمانيةِ، و96 من الكلتيةِ، و154 من الإنجليزيةِ، و285 من الإيطاليةِ، و 119 من الإسبانيةِ، و10 من البرتغاليةِ، و 146 من العربيةِ، و36 من العبريةِ، و4 من الهنغاريةِ، و25 من السلافيةِ، و 34 من التركيةِ، و6 من لغاتٍ إفريقيةٍ، و99 من اللغاتِ الآسيويةِ، و62 من اللغاتِ الأمريكيةِ الهنديةِ، و2 من اللغة البولينيسيةِ ". أرايتَ إلى هذه الإحصائيةِ المُثيرةِ ؟ فـأكثرُ منْ 50% من هذا القاموسِ الفرنسيِّ مُقترَضٌ منْ مُختلِفِ لغاتِ الدنيا، فهلْ ضجَّ الفرنسيون منْ هذه الإحصائيةِ؟ أمْ هلْ أنكروا هذا الاقتراضَ؟ لا،لا، بلْ إنّ أحدَهم صنعَ مثلَ هذا القاموسِ إمْعانا في إعطاءِ الفرنسيةِ دَفقة حياةٍ وتحضرٍ وتواصلٍ مع لغاتِ الدنيا كلِها.          
وقدِ استخدَمتْ أمتُنا التعريبَ في وقتٍ مبكرٍ منْ حياتِها لأنها لمْ تكنْ أمَّة مُنعَزِلة حتى في الجاهِليّةِ، ففي هذه الجاهليةِ اتصلتْ بمَنْ جاورَها من الأممِ كالفرسِ والأحْباشِ والرومِ والسريانِ والأنباطِ وغيرِهم، ومن الطبيعيِّ أنْ يتبعَ هذا الاتصالَ احْتكاكٌ لغويٌ بين العَربيّةِ وبين لغاتِ تلك الأممِ. ففي الشعرِ الجاهليِّ وُجدتْ ألفاظ مُعرّبَة كثيرة، وفي القرآنِ الكريمِ ألفاظ مَعَرّبة، ثم أخذتْ وتيرة التعْريب تشتدُ وتنمو عندما تعربتْ شعوبٌ بأكمَلِها في العصورِ الإسلاميةِ المتتابعةِ، ولمْ يخجلْ أجدادُنا من هذا أبدا بلْ ألفوا المعاجمَ المُتخصصة في التعريب، فكان كتابُ ( المُعَرَّب من الكلامِ الأعجميِّ) للجِواليقيِّ، وكتابُ ( التذييلُ والتكميلُ لما اسْتُعْمِلَ من اللفظِ الدَّخيلِ) للبَشْبيتي، وكتابُ (شفاءُ الغليلِ فيما في كلامِ العرب من الدّخيلِ) للخَفاجيِّ، وغيرُ هذا كثيرٌ، فمنه ما رَصدَ المُعربَ في القرآنِ الكريمِ، ومنه ما رصدَ المُعربَ من لغةٍ بعينِها، وهكذا.
وقد شرحَ سيبويهِ في الكتاب، والسيوطيُّ في مُزْهِرِه، وغيرُهما، أقسامَ اللفظِ المُعرب وَفقَ التغييرِ والإلحاقِ فكان على صُورتيْن، هما:
الأولى : المُتغيرُ وهو نوعان: الذي تغيَّرَ ولم يُلحَقْ بالأبنيةِ العربيةِ نحو آجر وفرند، والذي تغيرَ وألحِقَ بأحدِ الأبنيةِ العربيةِ نحو: دِرْهمٍ.
الثانية : غيرُ المتغيرِ وهو نوعان كذلك: الذي لم يتغيَّرْ ولم يُلحقوه بأبنيتِهم نحو خراسان وكرْكم وقهرمان، والذي لمْ يتغيرْ وألحِقَ بأحدِ الأبنيةِ العربيةِ نحو خُرّم.
ومما عُنِيَ به علماءُ العربيةِ، في موضوع التعْريب، الالتفاتُ إلى مُستوياتِه في التغييرِ الحاصلِ على اللفظِ المُعَرَّب، فسيبويهِ نبَّه على بعضِ جَوانب التغييرِ الصَّوْتِيّةِ والصّرفيةِ، وكذلك فعَلَ غيرُه ممنْ وقفَ عندَ هذه الظاهرةِ اللغويةِ الفريدةِ التي تغْني الثروة اللفظية العربية إغْناءً مُدهشا لِتكفَ العربية عن الافتقارِ إلى لفظٍ احتاجَه الناطقُ العربيُّ في أيِّ مَجالٍ من المَجالاتِ العِلميّةِ أو المُجْتمعيةِ. غيرَ أنّ أفضلَ منهج لِدراسةِ هذه المستوياتِ هو الذي يقفُ عند هذه الظاهرةِ وقفة يُقرُّها علمُ اللغةِ الحديثِ ودراستُه للنظامِ اللغويِّ بعامّةٍ، وهي التي تقومُ على تفريع الظاهرةِ وَفقَ المُستوياتِ الصوتيةِ والصرفيةِ والنحويةِ والدلاليةِ.
فعلى المستوى الصوتيِّ، غيَّرَ الناطقون بالعربيةِ الأصواتَ غيرَ العربيةِ في الكلماتِ المُقترضَةِ إلى ما يقتربُ منها في العربيةِ، كتغييرهم صوتَ(v)  اللاتينيّ إلى صوتِ الفاءِ أو الباءِ لأنهم تخيلوه بينهما، كقولِهم: فرند وبهلوية، وما زالَ الأمرُ، هذه الأيامَ، على هذا النحوِ فيقول الناس: فولفو لنوع السيارةِ المعروفِ volvo، وكذلك صوتُ (G) حَوّلوه إلى صوتِ الجيمِ أو القافِ أو الكافِ، كقولِهم: جُلنار و قهرمان، وكذلك يفعلُ الناسُ، اليومَ، فيقولون: كراج و كربج وغيرهما. وقد حاولَ بعضُ الدارسين أنْ يُقعدوا لهذا المُستوى الصوتيِّ وتغييراتِه، فكان الأمرُ على هذا النحوِ:
1)    إبدالُ حركةٍ بحركةٍ: فقالوا : دُستور وأصلها الفارسيُّ دَستور.
2)    إبدالُ حرفٍ بحرفٍ: فقالوا : جَورب وأصلها كورب.
3)    إسقاط حرفٍ أوْ أكثرَ: فقالوا : فهرس وأصلها فهرست.
4)    زيادة حرفٍ : فقالوا: ديباج وأصلها ديبا.
5)    إبدالُ حرفين بحرفين أو أكثر: فقالوا: فالوذج معربُ بالوده وأنموذج معربُ نموده.
6)    إبدالُ صوتٍ وزيادة آخرَ: فقالوا: نيسابور معربُ نشابور.
7)    تغييرٌ في النظامِ المقطعيِّ: فقالوا: فارِس معربُ pars فغيروا التقاءَ الساكنين في الكلمةِ الأجنبيةِ، لأنّ العربية لا يقبلُ نظامُها المقطعيُّ التقاءَ ساكنين، كما هو واضحٌ في التقاءَ rs من الكلمةِ الأجنبيةِ.
8)    قبولُ الكلمةِ الغريبةِ بدونِ أيِّ تغييرٍ : فقالوا : كركم و خُرّم وخراسان كما هي في الأصلِ الأجنبيِّ.
وعلى المستوى الصرفيِّ طوّعوا ما اقترضوه من اللغاتِ الأخرى للنظامِ الصرفيِّ العَربيِّ، فأضافوا العلاماتِ المُمَيزة للتأنيثِ والتذكيرِ والتعريفِ والتنكيرِ إلى الكلماتِ المُعربةِ، واشتقوا الأفعالَ والأسماءَ، فقالوا: الديباجُ بإدخالِ لامِ التعريفِ، واشتقوا الفعلَ دَرْهمْتُ منْ دِرْهَم. وما زالَت العربُ يفعلون هذا اليومَ، فهمْ يقولون: الباصُ بتعريفِ كلمةِ bus المُعَربةِ بـ باص، وتلفنْتُ المُشتقة من telephone، وهكذا. والعجيبُ أنّ عُلماءَنا الأفاضلَ من القدماءِ قدْ تنبهوا لِهذا كلِه، فقالَ ابنُ جنّي في الخصائصِ: " إنّ ما أعرِبَ ( أي: عُرِّبَ) من أجناسِ الأعجميةِ قدْ أجْرَتْه العَرَبُ مَجرى أصولِ كلامِها؛ ألا تراهمْ يَصْرِفون في العَلمِ نحو ... فرندٍ ... وجميعِ ما تدْخله لامُ التعريفِ... فجرى في الصرفِ ومنعِه مَجْراها". ووردَ في الخصائصِ كذلك: " وقال أبو عليّ: إذا قلتَ: طابَ الخشكنانُ، فهذا منْ كلامِ العرب".  والنتيجة، في هذا الباب، أنّ ما عَرّبتْه العَربُ من ألفاظٍ أعجميةٍ أصبحَ عربيا تجْري عليهِ أحكامُ اللفظِ العربيِّ منْ إعْراب وتعريفٍ وإضافةٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وغيرِ ذلك منْ أحْكامٍ، كما يذهبُ إلى هذا السيدُ عبدُ القادرِ المغربيّ، وكما أقره أجدادُنا باستعمالِ ما عَرّبوه استعمالَ الألفاظِ العربيةِ تماما. هكذا كان الأمرُ في الشعرِ الجاهليّ، وفي القرآنِ الكريمِ، وفي ما جاءَ منْ نصوصٍ عربيةٍ في العصورِ اللاحقةِ، وكفى بهذا دليلا وبُرْهانا على أنّ هذه الآلة من آلاتِ تنميةِ الثروةِ اللفظيةِ في العربيةِ تمدُ العربيّة، وَفقَ الحاجةِ، بما لا يُحصى من الألفاظِ الجديدةِ المُقترَضةِ منْ جميعِ أممِ الأرضِ الآن، وفي المستقبلِ المنظورِ.
وعلى المستوى النحويِّ فأهمُ ما يميز العربية، في هذا المستوى، ظاهِرَة الإعراب، وعليه فإنّ اللفظ المُعرّبَ إذا خضعَ لهذه الظاهرةِ فعلماؤنا اعتبروه عَربيّا، وقدْ مرَّ بنا قبلَ قليلٍ، في هذه المقالةِ، عن ابن جني يروي عن أبي عليٍّ أستاذِه، أنك إذا قلتَ: طابَ الخشكنانُ، فهذا من كلامِ العرب، لِإجْرائك الإعرابَ عليه. ومن باب النحوِ كذلك الممنوعُ من الصرفِ، ولذلك فإنّ عددا من الألفاظِ المُعَرّبةِ مُنِعَتْ من الصّرْفِ لعَدَمِ تمَكنِها من العربيةِ وعَلمِيّتِها، فاعتبرها العربُ بذلك عربية جرتْ عليها أحكامُ الممنوعِ من الصرفِ. ومن هذا الباب كذلك ما دخلَ إلى العربيةِ من جملٍ أو تراكيبَ فاستقرتْ فيها دون أنْ نعرفَ من أيِّ لغةٍ اقتُرِضَتْ، أو قدْ نعرفُ، كما هو الحالُ عن بعضِ التراكيب التي رجّحَ بعضُ الدارسين أنها اقتُرضَتْ من الإنجليزيةِ أو الفرنسيةِ كقولِنا: يَصْطادُ في الماءِ العكرِ. وقد أجازَ مجمعُ اللغةِ العربيةِ في القاهرةِ هذا الأمرَ وعبّرَ، في قرارِه، عن دخولِه تعبيرا جميلا، عندما قالَ:" البابُ مفتوحٌ للأساليب الأعجميةِ تدْخلهُ بسَلامٍ...". وقد نبه على هذه التراكيب الدخيلةِ عددٌ من الباحثين في كتب مَنشورةٍ مثل كتاب الدكتور إبراهيم السامرائي " فقه اللغة المقارن "، وغيره من الكتب لكتاب آخرين.
وعلى المُستوى الدلاليّ، فقد اقترَضتْ العربية الألفاظ المُعربة، ثمّ ألحَقتْها بنسبها العربيِّ فأكسبتها معنى التصق بها، فأصبحتْ جُزءا أصْليّا من الثروةِ اللفظيةِ العربيةِ، سواءٌ أكانَ هذا بالمضمونِ الأصليّ الذي كانتِ الألفاظ المُعربة تحمِله قبْلَ انتسابها إلى العربيةِ أم كانَ هذا بالمعنى الجديدِ الذي أعطتْه العربية لهذا اللفظِ. ومن الأمثلةِ الجليةِ في هذا الباب كلمة "الديوانِ" التي وفدتْ إلى العربيةِ من الفارسيةِ بمعنى مُجتمع الصحفِ، أو الدفترِ، غير أنها اليومَ تكتسبُ دلالاتٍ كثيرة غيرَ تلك التي دخلتْ بها إلى العربيةِ نذكرُ منها الكتابَ الذي يَجْمعُ بين دفتيه أشْعارا، كقولنا ديوان المتنبي أو ديوان شوقي وهكذا، وغيرُ هذا المعنى كثيرٌ. وغنيٌ عن التعريفِ ما تزدحمُ به لغتنا المُعاصرة من ألفاظٍ أجنبيةٍ اكتسبتْ دلالاتٍ من العربيةِ أو من لغتِها الأصليةِ، وأيسرُ مثلٍ على هذه الظاهرةِ كلمة الديمقراطيةِ التي لا يكادُ لسانٌ من ألسنةِ العرب المُعاصرين ينجو من سلطانِها.  
وما أطيبَ أنْ نختمَ كلامَنا، في هذا الباب، بهذه الفقرةِ، للدكتور رمضان عبد التواب، رحمه الله، من مقالةٍ له بعنوان: " التعريبُ وألفاظ الحضارةِ " وردتْ في كِتابه ( فصولٌ في فقهِ العربيةِ) حيث يقولُ: " وفي رأيي أنّ اللغة لا تفسُدُ بالدَّخيلِ، بلْ حَياتُها في هضمِ هذا الدخيلِ؛ لأنّ مَقدرة لغةٍ ما على تمثلِ الكلامِ الأجنبيِّ، تعدُ مَزِيّة وخصيصة لها، إذا هي صاغَتْه على أوزانِها، وصَبّتْه في قوالبها، ونفختْ فيه من روحِها، وتركتْ عليه بصماتِها "، ثمّ يقتبسُ الدكتورُ رمضانُ، تدْعيما لِما ذهبَ إليْه في موضوعِ التعْريب، كلاما للدكتورِ أحمد عيسى من كِتابه: " التهذيبُ في أصولِ التعْريب" حيث يقولُ فيه: " فالتعريبُ إذن ضروريٌ لحياةِ العلمِ، ومتى كانتِ القيودُ المَوْضوعة له، هيَ كما بيّنا منْ قبْلُ، فلا خوفَ منه على كِيانِ اللغةِ، فإنما اللغة قائمة بحُروفِ معانيها وأفعالِها وصَرْفِها ونحوِها، وبيانِها وشعرِها، وخصائصِها التي تمْتاز بها، لا ببضع مفرداتٍ غريبةٍ عنها، قدِ التجأتْ إليْها، فكُسِيَتْ بكِسائِها، وطلِيَتْ بطِلائِها، حتى أصْبَحَتْ منْها وعليْها ".