الأدب والأديب - 3
د. محمد سعيد حسب النبي
يكمل مصطفى صادق الرافعي رؤيته للأدب والأديب فيقول: فإن لم يكن للأديب مثلٌ أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل في سبيله، فهو أديبُ حالةٍ من الحالات، لا أديبُ عصر ولا أديبُ جيل، وبذلك وحده كان أهل المثل الأعلى في كل عصرٍ هم الأرقام الإنسانية التي يُلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته.
ولا يخدعك عن هذا أن ترى بعض العبقريين لا يؤتَّى في أدبه أو أكثره إلا إلى الرذائل، يتغلغل فيها، ويتمَّلأ بها، ويكون منها على ما ليس عليه أحد إلا السِّفلة والحشوة من طغام الناس ورعاعهم، فإن هذا وأضرابه مسخَّرون لخدمة الفضيلة وتحقيقها من جهة ما فيها من النهي، ليكونوا مثلاً وسلفاً وعبرة، وكثيراً ما تكون الموعظةُ برذائلهم أقوى وأشد تأثيراً مما هي في الفضائل، بل هم عندي كبعض الأحوال النفسية الدقيقة التي يأمر فيها النهيُ أقوى مما يأمر الأمر، على نحو ما يكون من قراءتك موعظة الفضيلة الأدبية التي تأمرك أن تكون عفيفاً طاهراً، ثم ما يكون من رؤيتك الفاجر المبتلى المشوه المتحطم الذي ينهاك بصورته أن تكون مثله، ولهذه الحقيقة القوية في أثرها –حقيقة الأمر بالنهي- يعمد النوابغ في بعض أدبهم إلى صرف الطبيعة النفسية عن وجهها، بعكس نتيجة الموقف الذي يصورونه، أو الإحالة في الحادثة التي يصفونها، فينتهي الراهب التقيُّ في القصة ملحداً فاجراً، وترتد المرأة البغي قديسة، ويرجع الابن البر قاتلاً مجنوناً جنون الدم، إلى كثير مما يجري في هذا النسق، كما تراه لأناطول فرانس وشكسبير وغيرهما، وما كان ذلك عن غفلة منهم ولا شر، ولكنه أسلوب من الفن، يقابله أسلوب من الخلق، ليبدع أسلوباً من التأثير، وكل ذلك شاذ معدود ينبغي أن ينحصر ولا يتعدى، لأنه وصف لأحوال دقيقة طارئة على النفس، لا تعبير عن حقائق ثابتة مستقرة فيها.
والشرط العبقري الذي تلك صفته وذلك أدبه، أن يعلو بالرذيلة .. في أسلوبه ومعانيه، آخذاً بغاية الصنعة، متناهياً في حسن العبارة، حتى يصبح وكأن الرذائل هي اختارت منه مفسرها العبقري الشاذ الذي يكون في سمو فنه البياني هو وحده الطرف المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة، فيصنع الإلهام في هذا وفي هذا صنعه الفني بطريقة بديعة التأثير، أصلها في أديب الفضيلة ما يريده ويجاهد فيه، وفي أديب الرذيلة ما يقوده ويندفع إليه، كأن منهما إنساناً صار ملكاً يكتب، وإنساناً عاد حيواناً يكتب..
وإذا أنت ميَّلت بين رذيلة الأديب العبقري في فنه، ورذيلة الأديب الفسل (الرديء) الذي يتشبه به -في التأليف والرأي والمتابعة والمذهب- رأيت الواحدة من الأخرى كبكاء الرجل الشاعر من بكاء الرجل الغليظ الجلف: هذا دموع ألمه، وذاك دموعه ألمه وشعره، وفي كتابة هذه الطبقة من العبقريين خاصة يتحقق لك أن الأسلوب هو أساس الفن الأدبي، وأن اللذة به هي علامة الحياة فيه، إذ لا ترى غير قطعة أدبية فنية، شاهدها من نفسها على أنها بأسلوبها ليست في الحقيقة إلا نكتة نفسية لاهتياج البواعث في نفوس قرائها، وأنها على ذلك هي أيضاً مسألة من مسائل الإنسانية مطروحة للنظر والحل، بما فيها من جمال الفن وقائق التحليل.
واللذة بالأدب غير التلهي به واتخاذه للعبث والبطالة فيجيء موضوعاً على ذلك فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسُخفاً ومضيعة، فإن اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس، وهي الأصل في جمال الأسلوب، ثم هو بعد هذه اللذة منفعة كلُّه كسائر ما ركب في طبيعة الحي، إذ يحس الذوق لذَّة الطعام مثلاً على أن يكون من فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتها، أما التلهي فيجيء من سخف الأدب، وفراغ معانيه، ومؤاتاته الشهوات الخسيسة، والتماسه الجوانب الضيقة من الحياة، وذلك حين لا يكون أدب الشعب ولا الإنسانية بل أدب فئة بعينها وأحوالها، فإن أديب صناعته أو أديب جماعته، غير أديب قومه وأديب عصره، أحدهما إلى حد محدود من الحياة، والآخر عمل جامع مستمر متفنَّن، لأن عمله الأدبي هو وجوده، وكل شيء في قومه لا يبرح يقول له: اكتب..
ومن الأصول الاجتماعية التي لا تتخلف، أنه إذا كانت الدولة للشعب، كان الأدب أدب الشعب في حياته وأفكاره ومطامحه وألوان عيشه، وزخر الأدب بذلك وتنوع وافتن وبني على الحياة الاجتماعية.
والعجب الذي لم ينتبه له أحد إلى اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديماً وحديثاً، أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم!.
فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطاً فيه، ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطابع، وبعظمة الأداء صورة لعظمة الأخلاق، وبرقة البيان صورة لرقة النفس، وبدقته المتناهية في العمق صورة لدقة النظر إلى الحياة، ويريك أن الكلام أمةٌ من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس، ضابطةٌ لها المقاييس التاريخية، محكمة لها الأوضاع الإنسانية، مشترطةٌ فيها المثل الأعلى، حاملةٌ لها النور الإلهي على الأرض.
وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاءً سامياً، ويدفعها إلى المعالي دفعاً، ويردها على سفاسف الحياة، ويوجهها بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة، ويسددها في أغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرر المحكم، ويملأ سرائرها يقيناً ونفوسها حزماً وأبصارها نظراً وعقولها حكمة، وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية.
إذا أردت الأدب على كل هذه الوجوه من الاعتبار –وجدت القرآن الحكيم فد وضع الأصل الحي في ذلك كله، وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدساً، وفرض هذا التقديس عقيدة، واعتبر هذه العقيدة ثابتة لن تتغير، ومع ذلك كله لم ينتبه له الأدباء ولم يحذوا بالأدب حذوه، وحسبوه ديناً فقط، وذهبوا بأدبهم إلى العبث والمجون والنفاق، كأنه ليس منهم إلا بقايا تاريخ محتضر بالعلل القاتلة، ذاهب إلى الفناء الحتم، والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه لا يستخرج منه للأدب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأدب هو السمو بضمير الأمة. ولا يستخرج منه للأديب إلا تعريفٌ واحد هو هذا: إن الأديب هو من كان لأمته وللغتُها في مواهب قلمه لقبٌ من ألقاب التاريخ.
|
|
|