سر النبوغ في الأدب - 1
د. محمد سعيد حسب النبي
يشير مصطفى صادق الرافعي في كتابه المبدع وحي القلم إلى سر النبوغ في الأدب بقوله: لو ترجمنا الخاطرة التي تمر في ذهن الحيوان الذكي حين ينقاد في يد رجل ضعيف أبله يُصرّفُه ويديره على أغراضه، فنقلناها من فكر الحيوان إلى لغتنا، وأديناها بمعنى مما بين الإنسان والحيوان –لكانت في العبارة هكذا: ما أنت أيها الأبله فيما بيني وبين الحقيقة المدبرة للكون إلا نبي مرسل صلى الله عليه وسلم.. ذلك أن التركيب الذي يبينُ به الإنسان من الحيوان قد جعل دماغ هذا الحيوان خاتماً من الله دمغ به على خصائصه فأفرغه الله في جلده، ووضع في رأسه ذلك القفل الإلهي الذي حبسه في باب الاضطرار من غرائزه البهيمية، وأقفل به على الدنيا العقلية المتسعة بينه وبين الإنسان، فالكون عنده لغو كله ليس فيه إلا حقائق يسيرة، ثم لا تفسير لهذه الحقائق إلا من طبيعته هو، فجلده أدق تفسير فلكي.. للشمس والنور والهواء وما يجيء منها، وجوفه أصح تعبير جغرافي .. للكرة الأرضية وما تحمل، وجوعه وشبعه هما كل فلسفة الشر والخير في العالم!.
فأساس الذكاء عالياً ونازلاً هو التركيب الطبيعي لا غيره: لو زادت في الدماغ ذرة أو نقصت لزادت للدنيا صورة أو نقصت، فبالضرورة تكون هذه هي القاعدة فيما نرى من تباين حدة الذكاء في أفراد كل نوع من الحيوان، وما نشهد من ذلك في أحوال الناس، من الفطنة إلى الذكاء إلى الألمعية إلى الجهبذة إلى النبوغ إلى العبقرية، وهي طبقات من ألفاظ اللغة لأحوال قائمة من هذه المعاني ترجع إلى درجات ثابتة في تركيب الدماغ.
ومما يسجد له العقل الإنساني سجدة طويلة إذا هو تأمل في حكمة الله ومر يتصفح من أسرار ما نحن بسبيله من الكلام على النبوغ –أن هذا الوجود الذي يحمل أسرار الألوهية هو كرة متقاذفة في الفضاء الأبدي، وأن الأرض التي تحمل أسرار الإنسانية، هي كرة طائرة فيما مُدَّ لها من الوجود، وأن كل حي فيها يحمل أسرار حياته في كرة خاصة به هي رأسه. وأن الوجود من كل حي هو بعد ذلك ليس شيئاً في النظر ولا في الحس ولا في الفهم إلا كما يُرى ويحسُ ويفهم في هذا الرأس بعينه على طريقته وتركيبه، فيصعد التدريج إلى الكبير إلى الأكبر، وينزل إلى الصغير إلى الأصغر، ثم لا معنى لما صعد إلا مما نزل، وبهذا ستكون آخرة جميع العلوم متى نفذ العلماء إلى السر الحقيقي، أن العقل الإنساني فهم كل شيء ولم يفهم شيئاً...
والناس يختلفون بتركيب أدمغتهم على شبيه من هذا التدريج، فأما واحد فيكون دماغه باعتباره من سائر الناس في الذكاء والعقل كالوجود المحيط، وأما آخر فكالشمس، ثم غيرهما كالأرض، ثم الرابع كالإنسان، ثم يكون منهم كالحيوان ومنهم كالحشرة، ولا علة لكل هذا إلا ما هيأت الأقدار "بأسبابها الكثيرة"، لكل إنسان في تركيب دماغه في نوع المادة السنجابية من المخ، وأحوال التركيب في الملايين من الخلايا العصبية، وما لا يعد من فروع هذه الخلايا وشعبها: ثم ما يكون من قبل العلاقات بين هذه الفروع التي هي لكل رأس كرمل الكرة الأرضية، ثم اختلاف مقادير المواد الكيماوية التي تتخلق في غدد الجسم وتنفثها الغدد في الدم.
فقد يكون العمل النابغ المتمرد على العقول آتياً من قطرة في هذه الغدد، كما ينبعث العملاق آتياً من قطرة في هذه الغدد، كما ينبعث العملاق المارد بعظامه الممتدة وألواحه المشبوحة من غدته النخامية لا غيرها. فالذكي من ذكى مثله إنما هو كالجيش من جيش بإزائه، يقع الاختلاف بينهما فيما اشتملا عليه من كثرة الجند، وصفاتهم من القوة والضعف، وأحوالهم من النظام والاختلال، وقوة آلاتهم ومقدارها ونوع الاختراع فيها، ثم طبيعة موضعهم وحسن توجيههم وقيادتهم، وما اكتنفهم من صعب أو سهل، وما تظاهر عليهم من الحوادث والأقدار، ثم التوفيق الذي لا حيلة فيه إن وقع في حصة أحدهما واستقر، أو وقع هوناً وطار للآخر، وبنحو من هذا كله تكون المفاضلة إذا وازنت بين اثنين من النوابغ في حقيقة نبوغهما.
فالنابغة خلق من خالقه، يصنع كما ترى بأقدار الله، إذ هو قدر على قومه وعلى عصره، وهو من الناس كالورقة الرابحة من السحب (اليانصيب): سلة يد جعلتها مالاً وتركت الباقيات ورقاً وأحدثت بينهما الفرق الذهبي، وبهذا لا يستطيع العالم أن يزيد الدنيا نابغة إلا إذا استطاع أن يزيد في الكواكب نجماً فيصنعه، وهبه صنعه من الكهرباء، فيبقى أن يحمله، وإذا حمله بقي أن يرفعه إلى السموات، وهبه قد رفعه فيبقى كل شيء.. يبقى عليه أن يقحمه في النجوم ويرسله فيها يدور وينفلك.
وكما يخلق النابغة بتركيبه، تخلق له الأحوال الملائمة لعمله الذي خص به في أسرار التقدير عاملاً نافعاً، وإن كانت لا تلائمه هو منتفعاً، فإنه هو غير مقصود إلا من حيث أنه وسيلة أو آلة تكابد ما تحتمل في أعمالها، ويؤتى لها لتأخذ على طريقة وتعطى على طريقة، وبذلك يرجع التقدير إلى أن يكون العقل النابغة دليلاً للناس من الناس أنفسهم على الخالق الذي هو وحده أمره الأمر.
وإذا كان الجمال يستعلن في كلام هؤلاء النوابغ، والخيال يظهر في تعبيرهم، والحكمة تهبط إلى الدنيا في تفكيرهم، والمثل الأعلى هم الداعون إليه، والأشواق النفسية هم موقظوها، والعواطف هم المصورون لها، وسرور الحياة هم الذين حولوه إلى الفن -إذا كان هذا كله فهذا كله إنما هو توكيد لاتصالهم بالقوة الأزلية المدبرة، وأنهم أدواتها في هذه المعاني، فما هي أعمالهم أكثر مما هي أعمالهم، وقد يظن الناس أن النابغة يلتمس القوى المحيطة به ليبدع منها، والحقيقة تلتمسه لتبدع به.
|
|
|