حرف العين

م. محمد يحيى كعدان


حرف العين ( ع 10000 ) هو عدم معرفة المتكلم (للشكل والصفة) لعنصر غائب.
المتكلم لا يعرف شيئاً عن العنصر الغائب المتحدّث عنه. (وجود القيمة 0 مكان الشكل والصفة في تعريف العين).
الصيغة: " عين " ( ع 10000 )، ( ي 10110 ), ( ن 10010 )، تعني أن المتكلم يتحدث عن عنصر غائب عام يعرف شكله (ن)، هذا العنصر الغائب يتشكل (يتكوّن) بلا توصيف أمام المتكلم والمستمع (ي)، ثمّ يغيب فلا يتمكن المتكلم فقط من معرفة شكله أو صفته (ع).
" عين " تعني عدم معرفة المتكلم شيئاً عن عنصر غائب (ع)، من متشكل غائب أمام المتكلم والمستمع (ي)، لعنصر هو شكل عام (ن).
بطريقة أخرى: المتكلم لا يعرف شيئاً (الحجم والكم) عما في العين لغيابه (ع)، وهو يصدر عن شكل غائب أمام المتكلم والمستمع (حفرة أو تجويف مثلاً) (ي)، لشكل عام بالنسبة للمتكلم (ن).

الصيغة " عن ":
يقول المرادي: " عن.. لفظ مشترك؛ تكون اسماً وحرفاً، فتكون اسماً، إذا دخل عليها حرف الجر. ولا تجرّ بغير "من". وهي حينئذٍ اسم بمعنى: جانب. قال الشاعر القطامي:
      فقلتُ  للرَّكْبِ، لَمّا أن علا بهِمُ ***** مِن عَن يَمِينِ الحُبَيَّا، نَظرةٌ قَبَلُ
وندر جرُّها بـ "على"، في قول الشاعر:
     على عن يَمِيني، مرَّتِ الطَّيرُ، سُنَّحاً ***** وكيفَ سُنُوحٌ، واليمينُ قَطِيعُ؟
وذهب الفرّاء، ومن وافقه من الكوفيين، إلى أن "عن" إذا دخل عليها "مِن" باقيةٌ على حرفيتها. وزعموا أن "مِن" تدخل على حروف الجرّ كلها: سوى، مذ، واللام، والباء، وفي.
فإن قلتَ: ما معنى "مِن" الداخلة على "عن"؟ قلتُ: هي لابتداء الغاية. قال بعضهم: إذا قلت: " قعد زيد عن يمين عمرو" معناه: ناحية يمين عمرو، واحتمل أن يكون قعوده ملاصقاً لأول ناحية يمينه، وألاّ يكون. وإذا قلتَ " من عن يمينه "، كان ابتداء القعود نشأ ملاصقاً لأول الناحية. وقال ابن مالك: إذا دخلت "مِن" على "عن" فهي زائدة.
وزاد ابن عصفور أنّ "عن" تكون اسماً، في نحو قول الشاعر امرؤ القيس:
    دَعْ عنْكَ نَهْباً، صِيحَ في حجَراتِهِ ***** ولكنْ حَدِيثاً، ما حَدِيثُ الرَّواحلِ؟
لأن جعلها حرفاً، في ذلك، يؤدّي إلى تعدّي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل. وذلك لا يجوز إلاّ في أفعال القلوب، وما حمل عليها.
قال الشيخ أبو حيّان: وفيه نظر، لأن مثل هذا التركيب قد وجد في "إلى"، كقوله تعالى واضمُمْ إليكَ جَناحَكَ (القصص 32)، وهُزِّي إليكِ بِجِذْعِ النَّخْلةِ (مريم 25)، ولا نعلم أحداً قال بإسميّة "إلى". قلتُ: قال ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح : حكى أبو بكر الأنباري أنّ "إلى" تُستعمل اسماً، يقال : انصرفت من إليك، كما يقال: غدوتُ من عليكَ.
وتكون "عن" حرفاً، فيما عدا ذلك. ولها قسمان:
الأول: أن تكون حرف جرّ. وذكروا له معاني:
الأول: المجاوزة. وهو أشهر معانيها، ولم يُثبت لها البصريون غير هذا المعنى. فمن ذلك قوله: رميتُ عن القوس؛ لأنه يقذف عنها بالسهم ويبعده. ولكونها للمجاوزة عُدِّيَ بها: صَدَّ، وأعرضَ، ونحوهما، ورَغِبَ، ومالَ، إذا قُصد بهما ترك المتعلِّق. نحو رَغِبتُ عن اللهو، ومِلتُ عنه.
الثاني: البدل. نحو واتَّقُوا يَوماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيئاً (البقرة 48 و 123). وقولهم: حّجَّ فلانٌ عن أبيه، وقضى عنه ديناً. وقول الآخر الفرزدق:
             كيفَ تَراني، قالباً مِجَنِّي ***** قد قَتَلَ اللهُ زياداً، عنّي
الثالث: الاستعلاء. كقول الشاعر ذو الإصبع:
  لاهِ ابنُ عَمِّكَ، لا أفضَلتَ في حَسَبٍ ***** عنِّي، ولا أنتَ دَيَّاني، فتَخْزُوني
أي: عليَّ. قال ابن مالك: ومنه " بَخِلَ عنه " والأصل " عليه ". قال: لأن الذي يُسأل فيَبخل يُحمّل السائل ثقل الخيبة، مضافاً إلى ثقل الحاجة. ففي بَخِلَ معنى ثَقُلَ، فكان جديراً بأن يشاركه في التعدية بـ " على ".
الرابع: الاستعانة. مثّله ابن مالك بقوله: رَميتُ عن القوس. فعن هنا بمعنى الباء، في إفادة معنى الاستعانة، لأنهم يقولون: رميتُ بالقوسِ. وحكى الفراء، عن العرب: رَميتُ عن القوسِ، وبالقوسِ، وعلى القوسِ.
قلت: وفي هذا رد على من قال: إنه لا يُقال "رَميتُ بالقوسِ"، إلاّ إذا كان هو المرميّ. وقد ذكر ذلك الحريري في درّة الغوّاص.
الخامس: التعليل. كقوله تعالى وما كانَ استِغفارُ إبراهيمَ لأبيهِ إلاّ عَنْ مَوعِدةٍ (التوبة 114)، وقوله تعالى وما نحنُ بتارِكِي آلِهَتِنا عنْ قَولِكَ (هود 53).
السادس: أن تكون بمعنى بعد. كقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (الانشقاق 19). قيل: ومنه عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (المؤمنون 40). وقولهم: أطعمتهُ عن جوعٍ، أي: بعد جوعٍ.
السابع: أن تكون بمعنى " في ". كقول الشاعر الأعشى الكبير:
     وآسِ سَراةَ القَومِ، حيثُ لَقيتَهُم ***** ولا تَكُ، عَنْ حَمْلِ الرِّباعةِ، وانيا
أي: في حمل الرّباعة. هذا قول الكوفيين. وقال بعض النحويين: تعدية " وَنَى " بـ  " في " و " عن " ثابتة. والفرق بينهما أنك إذا قلت: ونَى عن ذكر الله، فالمعنى المجاوزة، وأنه لم يذكره.
وإذا قلت: ونَى في ذكر الله، فقد التبسَ بالذكر، ولحقه فيه فتور وأناة.
الثامن: أن تُزاد عوضاً. كقول الشاعر زيد بن رزين:
       أتَجزَعُ أنْ نفْسٌ أتاها حِمامُها ***** فهلاّ الّتي عن بينِ جَنبَيكَ تَدْفَعُ
قال ابن جني: أراد " فهلاّ عن التي بين جنبيك تدفع "، فحذف "عن" وزادها بعد التي عوضاً. ونص سيبويه على أنّ "عن" لا تُزاد.
واعلم أن هذه المعاني السابقة إنما أثبتها الكوفيون، ومن وافقهم، كالقُتَبيّ، وابن مالك. قال بعض النحويين: وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون باطل. إذ لو كانت لها معاني هذه الحروف لجاز أن تقع حيث تقع هذه الحروف. فوجب أن يُتأوَّل جميع ما ذكروه، مما خالف معنى المجاوزة.
وذكر صاحب رصف المباني في معاني "عن" أن تكون بمعنى الباء. قال: نحو قولك: قمتُ عن أصحابي، أي: بأصحابي. قال: امرؤ القيس:
   تَصُدُّ، وتُبْدِي عن أسيلٍ، وتَتَّقِي ***** بناظرةٍ، من وَحشِ وَجْرةَ، مُطْفِلِ
أي: بأسيل. انتهى. والذي ذكره غيره أنها تكون بمعنى باء الاستعانة. وقد تقدم.
وأما القسم الثاني من قسمي عن الحرفية، فهو أن تكون بمعنى " أنْ ". وهي لغة لبني تميم، يقولون: أعجبني عن تَقُومَ، أي: أنْ تقومَ. وعلى ذلك أنشدوا بيت ذي الرمّة:
  أعنْ تَوسَّمْتَ، من خَرقاءَ، مَنزِلةً ***** ماءُ الصَّبابةِ، من عَينَيكَ، مَسجُومُ؟
قلت: وكذلك يفعلون في " أنَّ " المشدّدة. قال الزمخشري: "وتبدل قيس وتميم همزتها عيناً فتقول: أشهدُ عَنَّ مُحمَّداً رسولُ اللهِ". وهي عنعنة تميم".

لنتأمّل الصيغة التالية كمثال: ع (ن(زيد)):
تعريف الحرف (ن) هو القيم 10010، وتعني معرفة المتكلم فقط بشكل عام لعنصر غائب.
أمّا تعريف الحرف (ع) فهو القيم 10000، وتعني عدم معرفة المتكلم لشكل وصفة العنصر الغائب.
أي لدينا عنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم (ع)، لعنصر غائب معروف الشكل (عام دون تفاصيل) للمتكلم فقط (ن)، للصيغة: زيد.
لنتأمّل الصيغة التالية: أطعمتهُ (ع(ن(جوعٍ)). وتعني:
أطعمته، والصيغة: جوعٍ، هي عنصر عام غائب بالنسبة للمتكلم فقط (ن)، ومن العنصر ن(جوعٍ) يصدر عنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم (ع).    
لنتأمّل الصيغة التالية: واتَّقُوا يَوماً لا تَجْزِي نَفْسٌ (عَ(نْ(نَفْسٍ شَيئاً)). وتعني (والله أعلم):
واتَّقُوا يَوماً لا تَجْزِي نَفْسٌ، عنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم (ع)، لعنصر غائب معروف الشكل للمتكلم فقط (ن)، للصيغة: نَفْسٍ شَيئاً.
لنتأمّل الصيغة التالية: عَنَّ زيدٌ. وندرسها وفق المراحل: عَ (نْ(نَ(زيدٌ))). وتعني:
عنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم (ع)، لعنصر غائب معروف الشكل للمتكلم فقط  (ن)، لعنصر غائب معروف الشكل للمتكلم فقط (ن)، للصيغة: زيدٌ.
الآن لنتأمّل الصيغة التالية: أشهدُ (عَ(نْ(نَ(مُحمَّداً رسولُ اللهِ))). وتعني:
أشهدُ، صيغة غائبة غير معروفة الشكل والصفة للمتكلم (ع)، لصيغةٍ غائبة معروفة الشكل للمتكلم فقط (ن)، لصيغةٍ غائبة معروفة الشكل للمتكلم فقط (ن)، هي: مُحمَّداً رسولُ اللهِ. وبرأينا أن الشهادة هنا لا تستقيم فالمعنى يتمادى في تغييب الصيغة (محمد رسول الله) عن المتكلم (ع) بعد أن كان يعرفها بشكل عام (ن)، وهذا عكس استخدام الأداة أنّ (محمداً رسول الله)، التي تقوم بإحداث تمام التآلف (ا) والحضور للصيغة، بعد الغياب والمعرفة الشكلية فقط (ن). وبالتالي نرفض هذا التعبير في الشهادة، ونعتبره تعبيراً قبل الإسلام.
ومن الممكن أن تكون هذه العنعنة تشويه نطق جرى عادة (والله أعلم). مثلما يطلق أهل مصر بلغتهم الدارجة عبارة " مرسح " على المسرح.

الصيغة " مَعَ ":
يقول المرادي: " مَعَ.. لها حالان: الأول: أن تكون ساكنة العين. وهي لغة ربيعة وغنم. يبنونها على السكون قبل متحرك، ويكسرون قبل ساكن. ولم يحفظ سيبويه أن السكون فيها لغة، فجعله من ضرورات الشعر.
قال: وقد جعلها الشاعر كـ " هلْ "، حين اضطرّ، فقال جرير:
          ورِيشِي مِنكُمُ، وهَوايَ مَعْكُمْ ***** وإنْ كانتْ زِيارتُكُمْ  لِماما
واختلف في " مَعْ " الساكنة العين، فقيل: هي حرف جرْ. وزعم أبو جعفر النحاس أن الإجماع منعقد على حرفيّتها، إذا كانت ساكنة. والصحيح أنها اسم، وكلام سيبويه مُشعِر بإسميَّتها.
والثاني: أن تكون مفتوحة العين. وهذه اسم لمكان الاصطحاب، أو وقته، على حسب ما يليق بالمضاف إليه. وقد سُمع جرّها بمن. حكى سيبويه: ذهب مِن مَعِهِ  وقرئ هذا ذِكْرٌ مِنْ مَعِي (الأنبياء 24)، أي من قِبَلِي.
و " مَعَ " ظرف لازم للظرفية. لا يخرج عنها، إلاّ إلى الجر بمن كما تقدم. وتقع خبراً وصلة وصفة وحالاً. وإذا أُفردت عن الإضافة نوّنت نحو: قام زيد وعمرو معاً. والأكثر حينئذ أن تكون حالاً. وقد جاءت خبراً في قول الشاعر جندل بن عمرو:   أفِيقوا، بَنِي حَرْبٍ، وأهواؤنا مَعاً ***** وأرماحُنا مَوصُولةٌ، لم تُقَضَّبِ
وقال بعضهم، في نحو، وأهواؤنا معاً: إنه حال والخبر محذوف، تقديره: كائنةٌ معاً. وليس بصحيح.
واختُلف في حركة " مع " إذا نُوّنت. فذهب الخليل، وسيبويه، إلى أنها فتحةُ إعراب، والكلمة ثنائية، حالة الإفراد، كما كانت حالة الإضافة. وذهب يونس، والأخفش، إلى أن الفتحة فيها كفتحة تاء فتىً، لأنها حين أُفردت رُدّت إليها لامها المحذوفة، فصارت اسماً مقصوراً. قال ابن مالك: وهو الصحيح،  لقولهم: الزيدانِ معاً، والزيدون معاً. فيوقعون معاً في موضع رفعٍ، كما توقع الأسماء المقصورة، نحو:  فتىً، وهُم عِدَىً.
ولو كان باقياً على النقص لقيل: الزيدانِ معٌ، كما يقال: هُم يدٌ واحدةٌ على مَن سواهم. واعتُرض بأن معاً ظرف، في موضع الخبر، فلا يلزم ما قاله.
وقال ابن مالك: إنّ معاً إذا أُفردت تساوي " جميعاً " معنى. ورُدّ عليه بأن بينهما فرقاً؛ قال ثعلبٌ: إذا قلتَ: قام زيد وعمرو جميعاً، احتمل أن يكون القيام في وقتين، وأن يكون في وقت واحد. وإذا قلتَ: قام زيد وعمرو معاً، فلا يكون إلاّ في وقت واحد. والله سبحانه أعلم".

لنتأمل الصيغة التالية كمثال: مَ (عْ(زيد)). وتعني:
تعريف الحرف (ع) هو القيم 10000، وتعني عدم معرفة المتكلم فقط بشكل وصفة عنصر غائب.
بينما تعريف الحرف (م) هو القيم 10011، وتعني معرفة المتكلم فقط بشكل وصفة عنصر غائب.
أي لدينا: معرفة المتكلم فقط بشكل وصفة عنصر غائب (م)، لعنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم  (ع)، للعنصر: زيد.
 أي تَعرُّف المتكلم فقط على شكل وصفة عنصر غائب، من عنصر غائب غير معروف له شكلاً أو صفة.
بينما رأينا في الفقرة السابقة، بالمقارنة، أن الصيغة: مَنْ زيد. تفيد:
تَعرُّف المتكلم فقط على شكل وصفة عنصر غائب، من عنصر غائب معروف له شكلاً فقط.
والآن لنتأمل الصيغة التالية كمثال: مَعَنْ (قام زيد وعمرو). وتعني، مع ملاحظة أنّ  معا  معاً:
تعرُّف المتكلم على شكل وصفة عنصر غائب (م)، لعنصر غائب غير معروف الشكل والصفة له (ع)، لعنصر غائب عام معروف الشكل له (ن)، هو الصيغة: قام زيد وعمرو.
أي الصيغة: قام زيد وعمرو، أصبحت معروفة الشكل والصفة للمتكلم.
والآن لنتأمل الصيغة التالية كمثال: زيد (مَعَ(عمرو)). وتعني:
زيد، والمتكلم تعرَّف على شكل وصفة عنصر غائب، لعنصر غائب غير معروف الشكل والصفة له، هو: عمرو.

الصياغة بالأداة " عَدا ":
يقول فيها المرادي ما يلي: " عَدا: لفظ مشترك، يكون حرفاً، وفعلاً، وهو، في الحالتين، من أدوات الاستثناء، فإذا كان حرفاً جَرَّ المستثنى، وإذا كان فعلاً نصبه. فتقول: قام القوم عدا زيداً، بالنصب والجَرِّ، على ما ذكر في "خلا"، وتتعين فعليته بعد "ما" المصدرية، كما تقدّم. والتزم سيبويه فعليّة "عدا"، ولم يذكر أنها تكون حرفاً، لأن حرفيته قليلة، وقد حكى حرفيته غير سيبويه، من الأئمة، فوجب قبولها.
والكلام على ما يتعلق به إذا كان حرفاً، وعلى محلّ جملته إذا كان فعلاً، كما تقدّم في "خلا". فلا معنى لإعادته، والله أعلم ".

لنتأمل الصيغة التالية كمثال: "عدا زيد"، وندرسها وفق المراحل: "ع(د(ا(زيد)))".
وتعني: عدم معرفة المتكلم بشكل وصفة عنصر غائب ( ع 10000 )، من عنصر حاضر غير معروف الشكل والصفة للمتكلم والمستمع معاً ( د 11100 )، من عنصر متآلف معهما ( ا 11111 )، هو الصيغة "زيد".
أي: بداية لدينا العنصر الحاضر "زيد" (المتآلف) المعروف الشكل والصفة للمتكلم والمستمع (ا)، وبعد ذلك يغيب شكل وصفة العنصر عنهما (د)، و(إن غيابهما مع حضور العنصر مع المتكلم والمستمع، يدل على التغير في شكل وصفة العنصر فلم يعرفا شكلاً وصفة له مثلاً، أو يدلّ على ابتعاد العنصر عنهما كثيراً كمثال آخر، فلم يتمكنا من معرفة شكله وصفته). وأخيراً يغيب العنصر والمستمع أيضاً، مما يدل على ابتعاد كبير للعنصر عن المستمع وقربه رغم غيابه من المتكلم، ولكن رغم ذلك لا يعرف المتكلم شكله وصفته لغيابهما (ع).
ويدل ذلك على اختلاف العنصر المصاغ عن الائتلاف (التآلف) الذي كان منه.

الصياغة بالأداة " عَسَى ":
يقول فيها المرادي ما يلي: " عَسَى: ذهب بعض النحويين إلى أنه حرف. ونقله بعضهم عن ابن السرّاج، وحكاه أبو عمرو الزاهد، عن ثعلب. وذهب الجمهور إلى أنه فعل، وهو الصحيح. والدليل على فعليته اتصالُ ضمائر الرفع البارزة به، نحو: عَسَيتُ، وعَسَيتُمْ ، ولحاق تاء التأنيث له، نحو: عَسَتْ هند أن تقوم .
وهو فعل لا يتصرّف، يَرِدُ للرجاء والإشفاق، وقد اجتمعا في قوله تعالى وَعَسَى أنْ تكرَهوا شيئاً، وَهوَ خيرٌ لكُمْ، وَعَسَى أنْ تُحِبُّوا شيئاً، وَهوَ شرٌ لكُمْ (البقرة 216). وعملها، في الأصل، عمل "كان"، إلا أن خبرها التُزم كونه فعلاً مضارعاً. والأكثر اقترانه بـ "أنْ". وقد تحذف، كقول الشاعر (هدبة بن خشرم):
   عَسَى الكَربُ الذي أمسَيتُ فيهِ ***** يكونُ وراءَهُ فرَجٌ، قريبُ
وجمهور البصريين على أن حذف " أنْ " من خبر "عسى" ضرورة.
وظاهر كلام سيبويه أنه لا يختصّ بالشعر.
وقد ندر وقوع خبرها مفرداً، في قول الزبّاء "عسى الغُويرُ أبْؤساً"، وقول الشاعر (رؤبة):
       أكثرْتَ في العَذْلِ، مُلِحّاً، دائماً ***** لا تُكثِرَنْ، إني عَسَيتُ صائما
واعلم أن "عسى" لها أحوال:
الأول: أن يكون خبرها فعلاً مضارعاً مجرّداً من "أنْ". وهو قليل، كما سبق. ولا إشكال في أن الفعل خبرها، وهي عاملة عمل "كان".
الثاني: أن يكون خبرها فعلاً مضارعاً مقروناً بـ "أنْ"، وهذا هو الكثير.
واختلف، في إعرابه، على ثلاثة مذاهب:
أحدها: أن "عسى" عاملة عمل "كان" أيضاً، و "أنْ" والفعل في موضع خبرها. قال ابن عصفور: وهو الصحيح، لأن العرب لمَّا نطقوا به، على الأصل، نطقوا به اسم فاعل، كما تقدم في المَثل، والبيت.
وثانيها: أن "عسى"، في ذلك، ليست عاملة عمل "كان". بل المرفوع بها فاعل، و "أنْ" والفعل في موضع نصب على المفعولية، والفعل مضمَّن معنى: قارَبَ، فإذا قلتَ: عسى زيد أن يقوم، فالتقدير: قارَبَ زيدٌ القيام. أو يكون "أنْ" والفعل منصوباً، على إسقاط الخافض. وهذا مذهب سيبويه، والمبرّد، ووجهه أن "أنْ" والفعل مقدّر بالمصدر، والمصدر لا يكون خبراً عن الجُثة. وأجيب عنه بأن المصدر قد يخبر به، على سبيل المبالغة.
وثالثها: أنّ "أنْ" والفعل بدل اشتمال من فاعل "عسى"، وهو مذهب الكوفيين، قال صاحب "البسيط": وأظنُّ قولهم مبنياً على أن هذه الأفعال ليست ناقصة. فيكون المعنى عندهم: قَرُبَ قيامُ زيدٍ، ثم قدَّمتَ الاسم، وأخَّرتَ المصدر، فقلت قَرُبَ زيدٌ قيامهُ. ثم جعلته بـ "أنْ" والفعل. ويُحتج، على هذا، بقولهم: عسى أن يقوم زيدٌ، وأنّ هذا هو الأصل، وهي تامّة. ثم إن تقدَّم الاسم فهو على البدل، حملاً لها على طريقة واحدة.
ورُدَّ ما ذهب إليه الكوفيون، بوجهين: أحدهما أنه إبدال قبل تمام الكلام. والآخر أنه لازمٌ، والبدلُ لا يكون لازماً.
واختار ابن مالك في "شرح التسهيل" أن "عسى" في ذلك ناقصة، والمرفوع اسمها، و "أنْ" والفعل بدلٌ سدَّ مسدّ جزئي الإسناد. ونظَّرَهُ بقراءة حمزة ولا تحْسَبَنَّ الّذِينَ كفرُوا أنَّما نُمْلي لَهُمْ (آل عمران 178)، بالخطاب، على أن يكون "أنَّما" بدلاً من "الّذِين"، وسدّ مسدّ المفعولين.
الثالث: أن يُسند إلى "أنْ" والفعل، فلا يُحتاجَ حينئذ إلى خبر. ومقتضى كلام بعض النحويين أنها تكون، إذ ذاك، تامّة، كما تكون "كان" تامّة. وقال ابن مالك: الوجه عندي أن تُجعَل "عسى" ناقصة أبداً. فإذا أُسندت إلى "أنْ" والفعل وُجِّهَتْ بما وُجِّهَ به وقوع "حَسِبَ" عليهما، في نحو أحَسِبَ الناسُ أنْ يُترَكوا (العنكبوت 2). فكما لم تخرج "حَسِبَ" بهذا عن أصلها، لا تخرج "عسى" عن أصلها، بمثل وعَسَى أنْ تكرَهُوا (البقرة 216). بل يقال في الموضعين: سدّت "أنْ" والفعل مسدّ الجزأين.
الرابع: أن يتصل بـ "عسى" الضمير الموضوع للنصب، نحو: عَسَاني، وعَسَاك، وعَسَاهُ، ومنه قول الشاعر (عمران بن حطان): وليْ نَفسٌ أقولُ لها، إذا ما ***** تُنازِعُني: لعَلّي، أو عَسَاني. وقول الآخر (رؤبة): (يا أبتا، عَلّكَ، أو عَسَاكا).
وهذا من المواضع المشكلة، لأن حق الضمير المتصل بـ "عسى" أن يكون بصيغة المرفوع، كما ورد في القرآن، نحو فهَلْ عَسَيتُمْ (محمد 22)، لأنها ترفع الاسم. فإذا ورَدَ بصيغة المنصوب، احتاج إلى توجيه. وفي ذلك ثلاثة مذاهب:
أحدها مذهب سيبويه. وهو أن "عسى"، في ذلك، محمولة على "لعلّ" في العمل. فالياء وأخواتها في موضع نصب اسماً لها، و "أنْ" والفعل في موضع رفع خبراً لها.
وثانيها مذهب المبرّد: أن "عسى" باقية على أصلها، ولكن انعكس الإسناد، فجُعل المخبرُ عنه خبراً. فالياء في موضع نصب خبراً لـ "عسى" تقدّم، و "أنْ" والفعل في موضع رفع اسماً لها.
وثالثها مذهب الأخفش: أنّ "عسى" باقيةٌ على رفعها الاسمَ، ونصبها الخبرَ، ولكنّ ضمير النصب، الذي هو الياء وأخواتها، وضع موضع المرفوع. فهو نائب عنه، و "أنْ" والفعل في موضع نصب خبراً لها، كما كان.
ورابعها مذهب السيرافي: أنّ "عسى" في قولهم: عَسَاكَ، وعساني، حرف عامل عَمَلَ "لعلّ"، وضعف بأن فيه اشتراك فعل وحرف في لفظ واحد.
واختار ابن مالك، رحمه الله، مذهب الأخفش، لسلامته من عدم النظير. إذ ليس فيه إلا نيابة ضمير، غير موضوع للرفع، عن موضوع له، وذلك موجود، كقول الراجز (رجل من حِمْيَر):
         يابنَ الزُّبَيرِ، طالما عَصَيْكا ***** وطالما عَنَّيتَنا إلَيكا
ولأن نيابة المرفوع موجودة، في نحو: ما أنا كأنتَ. ولأن العرب قد تقتصر على "عَساك" ونحوه. فلو كان في موضع نصب لزم الاستغناء بفعل ومنصوبه، ولا نظير لذلك. ولأن قول سيبويه يلزم منه حمل فعل على حرف، في العمل، ولا نظير لذلك. انتهى ما ذكره ابن مالك مختصراً.
وقال غيره: مذهب سيبويه هو الصحيح، ويُبطِلُ مذهبَ الأخفش تصريحُهم بالاسم، موضعَ "أنْ" والفعل، في مثل هذا التركيب مرفوعاً، كقوله (صخر بن جعد):
    فقلتُ: عَساهَا نارُ كأسٍٍ، وعَلَّها ***** تشكَّى، فآتي نحوَها، فأعُودُها
وأما ما ذكره ابن مالك، من نيابة الكاف عن التاء في "عصيكا"، فليس كذلك. بل الكاف فيه بدل من التاء، كما نص عليه أبو علي وغيره. وهو شاذ. ولو كان ضمير نصب لم يسكن آخرُ الفعل، لأجله، ما لم يسكن في "عساكا". وأما النيابة في نحو "ما أنا كأنتَ" فذلك لعلَّةِ أنَّ الكاف لا تدخل على الضمير المجرور، فاحتيج للنيابة. وأما علّة الاقتصار على المنصوب فالحمل على "لعلّ".
قلت: ذكر الفارسي في "التذكرة" أن قوله: (يا أبتا، علَّكَ، أو عَساكا)، على حدّ  "إني عَسَيتُ صائماً"، في أن الفاعل مضمر في الفعل، والكافَ هو الخبر، كما أن "صائماً" هو الخبر، وإن خالفه في أنه معرفة و "صائماً" نكرة. وها تخريج غريب. والكلام على هذه المسألة يستدعي بسطاً، لا يليق بهذا الكتاب. فليُقتصر على هذا القدر. فإن فيه كفاية. والله سبحانه أعلم ".

ونكتبها لفظاً " عَسَا ". لنتأمل الصيغة التالية كمثال: عَسَى أنْ تكرَهوا شيئاً، وَهوَ خيرٌ لكُمْ، وندرسها وفق المراحل: ع (س(ا(أنْ تكرهوا شيئاً، وهو خيرٌ لكم))).
وتعني: عدم معرفة المتكلم بشكل وصفة عنصر غائب ( ع 10000 )، من عنصر غائب معروف الصفة (لم يتجسّد لغياب الشكل) للمتكلم فقط ( س 10001 )، من عنصر حاضر متآلف مع المتكلم والمستمع ( ا 11111 )، هو الصيغة "أنْ تكرهوا شيئاً، وهو خير لكم".
أي بداية هناك عنصر حاضر متآلف مع المتكلم والمستمع (ا) هو الصيغة: " أنْ تكرهوا شيئاً، وهو خيرٌ لكم "؛ ثم يغيب هذا العنصر، ولكن يستطيع المتكلم فقط تمييزه (س)؛ ثم يفقد المتكلم هذا التمييز، أي لا يعود قادراً على معرفة شكل العنصر وصفته (ع).
أي هناك "عَسْ" لعنصر متآلف "ا"، وبالتالي فالعنصر المتآلف يغيب ولا يعود المتكلم يعرف شكله وصفته ( ع 10000 )، بعد أن كان يستطيع تمييزه فقط ( س 10001 ). (لاحظ مفهوم "العَسَس").
وبالمقابل فإن الـ "غس" هو عدم معرفة المستمع بشكل وصفة عنصر غائب ( غ 00100 )، بعد أن كان يستطيع تمييزه فقط ( س 10001 ).
أما الـ "غث" فهو عدم معرفة المستمع بشكل وصفة عنصر غائب (غ)، لعنصر حاضر موصّف ( ث 01001 ). وعدم معرفة الشكل يمكن أن يدل على تغيره مثلاً.

الصياغة بالأداة " على :
يقول فيها المرادي ما يلي: " على: التي تجرّ ما بعدها فيها خلاف. فمشهور مذهب البصريين أنها حرف جر، إلاَّ إذا دخل عليها حرف الجر. كقول الشاعر (مزاحم العقيلي):
   غدَتْ مِنْ عليهِ، بَعدَما تمَّ ظِمْؤُها ***** تَصِلُّ، وعن قيضٍ، بِزَيزاءَ، مَجْهَلِِ
فـ "على" في هذا اسم بمعنى: فوق.
وزاد بعضهم أنها تكون اسماً في موضع آخر، وهو قول الشاعر (الأعور الشني):
           هَوِّنْ عليكَ، فإنَّ الأمورَ ***** بِكفِّ الإلهِ مَقاديرُها
وما أشبهه، لأنها لو جُعلت حرفاً في ذلك لأدى إلى تعدّي فعل المُخاطَب إلى ضميره المتصل. وذلك لا يجوز في غير أفعال القلوب، وما حُمل عليها. ونقل بعضها أن هذا مذهب الأخفش، فإنه قال باسميتها في نحو: سَوَّيتُ عليّ ثيابي.
قال الشيخ أبو حيان: ولا يلزم في نحو "هوّن عليك" ولا في "سوّيت عليّ" أن تكون اسماً. فإنه قد ورد مثل هذا التركيب في "إلى"، حول قوله تعالى وَهُزِّي إليْكِ (مريم 25)، وَاضمُمْ إليكَ جَناحَكَ (القصص 32). ولا نعلم خلافاً في حرفية "إلى"، فيُخرَّجَ "هوّن عليك" ونحوه على ما خُرّج عليه وَهُزِّي إليْكِ.
قلتُ: تقدم مثل هذا في "عن". وذكرتُ ثَمَّ ما يُخرَّجُ عليه وَهُزِّي إليْكِ. ولقائل أن يقول: إن "عن" و "على" قد ثبتت اسميَّتُها بدخول "مِن". فلم يُحتج فيهما إلى تأويل، يخالف الظاهر، بخلاف "إلى". وتقدم ذكر مذهب الفراء، في أنَّ "عن" و "على" حرفان، إذا دخلتْ "مِن" عليهما.
وذهب ابن طاهر، وابن خروف، وابن الطراوة، والزُّبيدي، وابن معزوز، والشلوبين في أحد قوليه، إلى أنها اسم، ولا تكون حرفاً. وزعموا أن ذلك مذهب سيبويه.
 [قلتُ: صرّح سيبويه بهذا في "باب عدَّةِ ما يكون عليه الكلام". قيل: ويحتمل التأويل على أن يريد: ولا تكون إلا ظرفاً، إذا كانت اسماً. لأنه نص، في أول الكتاب، على أن "على" حرف، لأنه ذكر فيما يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف الجر، قول الملتمس:
  آليتَ حَبَّ العراقِ، الدَّهرَ، أطعَمُهَ ***** والحَبُّ يأكلُهُ، في القريةِ، السُّوسُ
أي: على حبِّ العراق].
وقد تحصل في "على" الجارة، مما ذكرته، أقوال أحدها: أنها حرف، في كل موضع. وهو قول الفراء. والثاني: أنها اسم، في كل موضع. وهو قول ابن طاهر، ومن وافقه. والثالث: أنها حرف، إلاّ في موضع واحد. والرابع: أنها حرف إلاّ في موضعين. وبه جزم ابن عصفور، وهو قول الأخفش.
وقد استدل على حرفيَّتها بحذفها في الشعر، ونصب ما بعدها، كقول الشاعر (عروة بن حزام):
    تحِنُّ، فتُبْدِي ما بها، من صَبابةٍ ***** وأُخْفي الّذي، لولا الأسَى لَقضاني
أي: لقضى عليّ، وقد أجاز الأخفش ذلك، في قوله تعالى لأقعُدَنَّ لهُمْ صِراطَكَ المُستقيمَ (الأعراف 15)، أي: على صراطك. واستدل أيضاً، على حرفيتها، بجواز حذفها مع الضمير، في الصلة، كقول الشاعر (الهمذاني):
     وإنَّ لساني شُهدةٌ، يُشتفَى بها ***** وهو، على مَن صَبَّهُ اللهُ، عَلقمُ
أي: صبّه اللهُ عليه. ولو كانت اسماً لم يجز فيها لك.
فإن قلتَ: إذا قلنا باسميتها فهل هي معربة أو مبنية؟ قلتُ ذكر بعضهم أنها معربة، عند من قال: إنها لا تكون إلاّ اسماً. وأما من جوَّز فيها، إذا كانت حرفاً، أن تنتقل إلى الاسمية، بدخول "مِنْ"، أو على مذهب الأخفش، في نحو: سَوَّيتُ عليّ ثيابي، فقال بعضهم: هي إذ ذاك معربة. وقال أبو [محمد] القاسم بن القاسم: هي مبنية، والألف فيها كألف "هذا".
واعلم أن "على" قد تكون فعلاً، من العلوّ، ترفع الفاعل. كقوله تعالى إنَّ فِرْعَونَ عَلا في الأرضِ (القصص 4)، وأمر هذا بيِّن. وليست من الحرفية في شيء إلا في الصورة.
وأما "على" الاسمية فقال ابن يعيش: مختلف فيها؛ فمذهب أبي العباس، وجماعة، أنها على الاشتراك اللفظي فقط، لأن الحرف لا يُشتق ولا يُشتق منه. فكلُّ واحد من هذه الثلاثة مُباين لصاحبه إلاّ من جهة اللفظ. وقال قوم: الأصل أن تكون حرفاً. وإنما كثر استعمالها، فشبِّهت في بعض الأحوال بالاسم، فأجريت مجراه، وأُدخل عليها حرف الجر، كما يُشبَّه الاسم بالحرف، ويجري مجراه، نحو "مَنْ" و "كمْ". انتهى.
والغرض هنا إنما هو "على" الحرفية، وذكرُ معانيها. وذكر ابنُ مالك لها ثمانية معان:
الأول: الاستعلاء حِسَّاً، كقوله تعالى كُلُّ مَنْ علَيها فانٍ (الرحمن 26)، أو معنىً، كقوله فضَّلْنا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ (البقرة 253). ولم يُثبت، لها، أكثر البصريين غير هذا المعنى، وتأوَّلوا ماأوهم خلافه.
الثاني: المصاحبة، كقوله تعالى وآتى المالَ على حُبِّه (البقرة 176)، وإنَّ رَبَّكَ لذو مَغفِرَةٍ للنَّاسِ، على ظُلمِهمْ (الرعد 6).
الثالث: المجاوزة، كقول الشاعر (القحيف العقيلي):
          إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيرٍ ***** لعمرُ أبيكَ، أعجبني رِضاها
أي: عنّي. قال ابن مالك: وكذلك الواقعة بعد: خَفِيَ، وتَعذَّرَ، واستحالَ، وغَضِبَ، وأشباهها.
الرابع: التعليل، كقوله تعالى ولتُكبِّروا اللهَ على ماهَداكُمْ (البقرة 185).
الخامس: الظرفية، كقوله تعالى واتَّبَعُوا ماتتلُو الشَّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيمانَ (البقرة 112). وتُؤوّلت الآية على تضمين "تتلو" معنى: تتقوّل.
السادس: موافقة "مِن" كقوله تعالى إذا اكتالُوا على النَّاسِ يَستوفُونَ (المطففين 2). قاله بعض النحويين. والبصريون يذهبون في هذا إلى التضمين، أي: إذا حكموا على الناس في الكيل.
السابع: موافقة الباء، كقوله تعالى: حَقِيقٌ على ألاّ أقوْلَ (الأعراف 105)، أي: بألاّ أقول. وقرأ أُبيّ "بأنْ"، فكانت قراءته تفسيراً لقراءة الجماعة. وقالت العرب: اركب على اسم الله، أي: باسم الله.
الثامن: أن تكون زائدة للتعويض، كقول الراجز:
       إنَّ الكريمَ، وأبيكَ، يَعتمِل ***** إنْ لمْ يَجِدْ، يوماً، على مَن يَتَّكِلْ
قال ابن جني: أراد "من يتكل عليه"، فحذف "عليه"، وزاد "على" قبل "مَن" عوضاً. انتهى. ويحتمل أن يكون الكلام تمَّ عند قوله "إن لم يجد يوماً"، ثم قال: على من يتكل، وتكون "مَن" استفهامية.
قال ابن مالك: وقد تُزاد دون تعويض. واستدلّ، على ذلك، بقول حميد بن ثور:
    أبَى اللهُ إلاّ أنّ سَرْحةَ مالكٍ ***** على كلِّ أفنانِِ العِضاهِ ، ترُوقُ
زاد "على" لأنّ "راق" متعدية، مثل أعجب. تقول: راقني حُسنُ الجارية. وفي الحديث: "مَن حَلَفَ على يَمينٍ" والأصل: حلف يميناً. قيل: ولا حجة في ذلك، لأنه يحتمل تضمين "تروق" معنى: تُشرف، وتضمين "حَلَف" معنى: جَسَر. وقد نص سيبويه على أنّ "على" لا تزاد.
وزاد بعضهم في معاني "على" موافقة اللام، كقوله تعالى أذِلَّةٍ على المُؤمِنينَ (المائدة 54).
وأكثر هذه المعاني إنما قال به الكوفيون، ومن وافقهم، كالقتبي. والبصريون يؤوّلون ذلك. والله أعلم ".

ونكتبها لفظاً : " علا ".
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: "على المنضدة"، وندرسها وفق المراحل " ع (ل (ا(المنضدة))) ". وتعني: عدم معرفة المتكلم بشكل وصفة عنصر غائب ( ع 10000 )، من عنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم والمستمع معاً     ( ل 10100 )، من عنصر حاضر متآلف معهما ( ا 11111 )، هو الصيغة "المنضدة". أي عدم معرفة المتكلم مطلقاً بعنصر غائب، من عنصر منفي بالأداة "لا"، هو الصيغة "المنضدة". (أعلا المنضدة).
أي قصر نفي عنصر بالنسبة للمتكلم فقط، بعد أن كان منفياً بالنسبة للمتكلم والمستمع معاً، نتيجة لغياب المستمع.
لنتأمل الصيغة: فضَّلْنا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ (البقرة 253)، وندرسها وفق المراحل "فضّلنا بعضهم (ع (لا (بعض)))".
وتعني (والله أعلم): فضلنا بعضهم، والمتكلم لا يعرف (يغيب عنه حقيقة أو حكماً) شكل وصفة عنصر غائب (ع)، من عنصر منفي بالأداة "لا" ، هو الصيغة "بعض".
أي: فضّلنا بعضهم عَ ( لا بعضٍ ).
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: إنَّ فِرْعَونَ عَلا في الأرضِ (القصص 4)، وندرسها وفق المراحل "إنّ فرعون (ع(لا(في الأرض)))". وتعني (والله أعلم): إنّ فرعون, والمتكلم لا يعرف شكل وصفة عنصر غائب (ع)، من عنصر منفي بالأداة "لا" هو الصيغة "في الأرض". أي: إنّ فرعون عَ (لا في الأرض) .
هذا وإن كل الأمثلة التي يوردها المرادي عن الأداة "على" أعلاه، لا تخرج في معناها عما سبق.
والآن لنتأمل في الصيغ التالية: "جلس زيد عَ الأرض" ، "جلس زيد عَلا الأرض" ، ومما سبق نرى أننا حسب ( ع 10000 )، أمام عنصر غائب غير معروف الشكل والصفة للمتكلم فقط باستقلال عن المستمع لغيابه (والاستقلال هنا يعني أننا لا نتحدث هنا عن جهة مقابلة وهي جهة المستمع المقابلة لجهة المتكلم مثلاً، وبالتالي من الممكن أن يكون العنصر في الاتجاه الأعلى للعنصر المتحدث عنه أو ملاصقاً له فوقه).
وبالتالي نلاحظ في الصيغة الأولى هذا المفهوم أثناء التحدث عن عنصر مستقل عن المستمع ومصاغ بالصيغة "الأرض"، ملاصق للأرض.
مثل: حدّثني زيدٌ عَ كتابٍ جيدٍ، جاء الفارس عَ حصانٍ أبيض، ركب عَ ظهر الناقة، مررت على زيد، قال تعالى وإِنَّكُم لَتَمُرُّونَ عليهِم (الصافات 137).
بينما في الصيغة الثانية فنتحدث عن عنصر مستقل عن المستمع ومصاغ بالصيغة "لا الأرض" (نفي الأرض)، أي في اتجاه يعلو الأرض (نحن هنا أبعد مسافة حقيقة أو حكماً عن الأرض في اتجاه (مكان) مستقل عن المستمع لغيابه).