حرف الفاء

م. محمد يحيى كعدان



الأداة ( ف 01111 ) تعني معرفة المستمع فقط (لغياب المتكلم) بشكل وصفة العنصر الثاني الحاضر. أي أن العنصر قد " فاء " إلى المستمع، أو أن المستمع قد " أفاء " على العنصر.
يقول المرادي في " الجنى الداني في حروف المعاني ": " الفاء.. حرف مهمل. خلافاً لمن زعم أنها تجرّ إذا نابت عن رُبَّ، ولمن ذهب إلى أنها تنصب المضارع في الأجوبة. وسيأتي الكلام على ذلك. وأصول أقسام الفاء ثلاثة: عاطفة، وجوابية، وزائدة.
أمّا العاطفة: فهي من الحروف التي تُشرِك في الإعراب والحكم، ومعناها التعقيب.
فإذا قلت: قام زيد فعمرو، دلَّتْ على أن قيام عمرو بعد زيد، بلا مُهلة. فتشارك ثُمَّ في إفادة الترتيب، وتفارقها في أنها تفيد الاتصال، وثُمَّ تفيد الانفصال. هذا مذهب البصريين، وما أوهَمَ خلاف ذلك تأوَّلوه.
وأورد السيرافي، على قولهم: إن الفاء للتعقيب، قولَك: دخلتُ البصرة فالكوفة. لأن أحد الدخولين لم يَلِ الآخر. وأجاب بأنه بعد دخوله البصرة لم يشتغل بشيء، غير أسباب دخول الكوفة.
وقال بعضهم: تعقيب كل شيء بحَسَبه، فإذا قلت: دخلت مصر فمكّة ، أفادت التعقيب على الوجه الذي يمكن.
وذهب قوم، منهم ابن مالك، إلى أن الفاء قد تكون للمُهلة بمعنى ثُمَّ. وجعل من ذلك قوله تعالى أَلَم تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فتُصبِحُ الأرضُ مُخضَرَّةً (الحج 63).
وتُؤوّلت هذه الآية على أن: فتُصبِحُ، معطوف على محذوف، تقديره: أنبتنا به، فطال النبت، فتصبح. وقيل: بل هي للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحَسَبه.
وذهب الفراء إلى أن ما بعد الفاء قد يكون سابقاً، إذا كان في الكلام ما يدل على ذلك. كقوله تعالى وكم، مِن قَريةٍ، أهلكْناها فجاءَها بأسُنا (الأعراف 4)، والبأس في الوجود واقع قبل الإهلاك.
وأجيب بأن معنى الآية: وكم من قرية أردنا إهلاكها، كقوله: إذا أكلتَ فسمِّ اللهَ
وقيل: الفاء في الآية عاطفة للمفصّل على المُجمل، كقوله تعالى إِنّا أَنشأناهُنَّ إِنشاءً، فجَعَلْناهُنَّ أَبكاراً (الواقعة 35-36). وهذا مما انفردت به الفاء.
وذهب بعضهم إلى أن الفاء قد تأتي، لمطلق الجمع، كالواو. وقال به الجرميّ في الأماكن والمطر خاصة. كقولهم: عفا مكانُ كذا فمكان كذا، وإن كان عفاؤهما في وقت واحد. ونزل المطر بمكان كذا فمكان كذا، وإن كان نزوله في وقت واحد. قال امرؤ القيس:
     قِفا، نَبْكِ، مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومنزلِ ***** بِسِقْطِ اللِّوَى، بَينَ الدَّخُولِ فَحَومَلِ
وقال النابغة:
    عَفا ذو حُسىً، من فَرْتَنى، فالفَوارِعُ ***** فجَنْبا أَريكٍ، فالتِّلاعُ، الدَّوافعُ  
وقد اتضح، بما ذكرته من هذه الأقوال، أنّ ما نقله بعضهم، من الإجماع، على أن الفاء للتعقيب، غير صحيح.
وقال بعضهم: الترتيب بالفاء على ضربين: ترتيب في المعنى، وترتيب في الذِّكر. والمراد بالترتيب في المعنى أن يكون المعطوف بها لاحقاً متصلاً بلا مُهلة. كقوله تعالى الذي خَلَقَكَ فسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (الانفطار 7). وأما الترتيب في الذِّكر فنوعان: أحدهما عطف مُفَصَّلٍ على مُجمَل، هو في المعنى، كقولك: توضّأَ، فغسلَ وجههُ ويديه، ومسح برأسه، ورجليه. ومنه قوله تعالى ونادَى نُوحٌ رَبَّهُ، فقالَ: رَبِّ (هود 45). والثاني عطف، لمجرد المشاركة في الحكم، بحيث يحسن الواو. كقول امرئ القيس:
    قِفا، نَبْكِ، مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومنزلِ ***** بِسِقْطِ اللِّوَى، بَينَ الدَّخُولِ فَحَومَلِ
وسمّى غيره هذا ترتيباً في اللفظ؛ قال: ومراد الشاعر وقوع الفعل بتلك المواضع، وترتيب اللفظ واحداً بعد آخر بالفاء ترتيباً لفظياً.
تنبيه.. لا يخلو المعطوف بالفاء من أن يكون مفرداً، أو جملة، والمفرد: صفة، وغير صفة. فالأقسام ثلاثة.
فإن عطفتَ مفرداً غير صفة لم تدل على السببية. نحو: قام زيد فعمرو. وإن عطفتَ جملة، أو صفة، دلت على السببية غالباً. نحو فوَكَزَهُ مُوسَى فقَضَى عليهِ (القصص 15). ونحو لآكلُونَ مِن شَجَرٍ، من زَقُّومٍ، فمالِئونَ منها البُطونَ، فشارِبُونَ عليهِ من الحَميمِ (الواقعة 52). قال الزمخشري، في الكشاف: " فإن قلتَ: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلتُ: إما أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود. كقوله سلمة بن ذهل:
             يالَهْفَ زَيَّابَةُ، للحارثِ الـ ***** صَّابحِ، فالغانمِ، فالآيبِ
كأنه قال: الذي صَبَح، فغنَم، فآب. وإما على تَرتُّبِها في التفاوت، من بعض الوجوه. كقولك: خذِ الأكمل فالأفضل، واعملِ الأحسن فالأجمل. وإمّا على ترتيب موصوفاتها، في ذلك. كقولك: رحم اللهُ المُحلِّقِينَ فالمُقصِّرِينَ. فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء في الصفات ".
وللفاء العاطفة أحكام أُخر، مذكورةٌ في مواضعها، لا حاجة هنا إلى ذكرها.
وأمّا الفاء الجوابية: فمعناها الربط، وتلازمها السببية. قال بعضهم: والترتيب أيضاً، كما ذكر في العاطفة. ثم إن هذه الفاء تكون جواباً لأمرين: أحدهما الشرط بإنْ وأخواتها. والثاني ما فيه معنى الشرط نحو أمّا.
فأما جواب الشرط بإنْ وأخواتها، فأصله أن يكون فعلاً صالحاً لجعله شرطاً. فإذا جاء على الأصل لم يحتج إلى فاء، وذلك إذا كان ماضياً متصرفاً عارياً من قد وغيرها، أو مضارعاً مجرّداً، أو منفياً بلا أو لم.
ومع كونه في ذلك غير محتاج إلى الفاء لا يمتنع اقترانه بها، على تفصيل أنا ذاكره:
وهو أنه، إن كان مضارعاً، جاز اقترانه بها، ويجب رفعه حينئذٍ كقوله تعالى ومَن عادَ فَينتَقِمُ اللهُ منْهُ (المائدة 95)، ومَن يُؤمِنْ برَبّهِ فلا يَخافُ (الجن 13). والتحقيق أنه حينئذٍ خبر مبتدأ محذوف. فيكون الجواب جملة اسمية. وإن كان ماضياً متصرفاً مُجرّداً، فهو على ثلاثة أضرب:
ضرب لا يجوز اقترانه بالفاء، وهو ما كان مستقبلاً، ولم يُقصد به وعدٌ أو وعيد نحو: إن قام زيد قام عمرو.
وضرب يجب اقترانه بالفاء. وهو ما كان ماضياً لفظاً ومعنى. نحو إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فصَدَقَتْ (يوسف 77)، و قدْ معه مقدرة.
وضرب يجوز اقترانه بالفاء ولا يجب. وهو ما كان مستقبلاً، وقُصد به وعد أو وعيد. كقوله تعالى ومَن جاءَ بالسَّيِئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم في النّارِ (النمل 90).
وإذا كان الجواب لا يصلح لأن يُجْعَل شرطاً، وجب اقترانه بالفاء، ليعلم ارتباطه بأداة الشرط.
وذلك إذا كان: جملة اسمية، نحو: مَن يفعلِ الخيرَ فالله يجزيه.
أو فعلية طلبية، نحو قُلْ: إنْ كنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعُوني (آل عمران 31).
أو فعلاً غير متصرف، نحو إنْ تَرَنِي أنا أقَلَّ منكَ مالاً، وولداً، فعَسَى رًبِّي (الكهف 39-40).
أو مقروناً بحرف تنفيس، نحو مَن يَرْتَدَّ، مِنكم، عن دِينِهِ فسوف (المائدة 54).
أو بقد، نحو قالُوا: إنْ يَسْرِقْ فقد سَرَقَ أخٌ، لهُ، من قَبْلُ (يوسف 77).
أو منفياً بما أو لن أو إن، نحو: إن قام زيد فما يقوم عمرو، أو فلن يقوم، أو فإن يقومُ.
أو قَسَماً، نحو: إن تكرمْني فواللهِ لأُكرمَنَّكَ.
أو مقروناً برُبَّ، أو بنداء، كقول امرئ القيس:
             فإنْ أُمْسِ مَكرُوباً فيا رُبَّ قَينةٍ ***** مُنعَّمةٍ، أعمَلْتُها بكرانِ  
فهذه الأجوبة تلزمها الفاء، لأنها لا يصلح جعلها شرطاً.
وجاء حذف الفاء لضرورة الشعر كقوله عبد الرحمن بن حسان:
           من يَفعَلِ الحَسَناتِ، اللهُ يَشكُرُها ***** والشَّرُّ بالشرِّ، عندَ اللهِ مِثْلانِ   
أي: فاللهُ يشكرها.
وقال بعضهم: لا يجوز حذفها إلا في ضرورة، أو ندور. ومثّل الندور بما في صحيح البخاري، من قوله ، لأُبيّ بن كعب، رضي الله عنه " فإن جاءَ صاحبُها، وإلا استمتعْ بها ".
وعن الأخفش إجازة حذف الفاء، في الاختيار. واختلف النقل عن المبرد، فنُقل عنه كمذهب الأخفش، ونُقل عنه منع حذفها مطلقاً. وزعم أن الرواية في البيت: (مَن يَفعَلِ الخَيرَ فالرَّحمنُ يَشكُرُهُ).
واعلم أن إذا الفجائية قد تخلف الفاء في الجملة الاسمية، بشروط يأتي ذكرها عند ذكر إذا، إن شاء الله. وأما الفاء الواقعة جواباً لأمّا فالأليق تأخير ذكرها، لتُذكر مع أمّا.
وأمّا الفاء الزائدة فهي ضربان:
أحدهما الفاء الداخلة على خبر المبتدأ، إذا تضمن معنى الشرط. نحو: الذي يأتي فله درهم. فهذه الفاء شبيهة بفاء جواب الشرط، لأنها دخلت لتفيد التنصيص على أن الخبر مستحَقّ بالصلة المذكورة. ولو حذفت لاحتمل كون الخبر مستحَقّاً بغيرها.
فإن قلتَ: فكيف تجعلها زائدة، وهي تفيد هذا المعنى؟ قلتُ: إنما جعلتها زائدة، لأن الخبر مستغن عن رابط يربطه بالمبتدأ. ولكن المبتدأ لما شابه اسم الشرط دخلت الفاء في خبره، تشبيهاً له بالجواب. وإفادتها هذا المعنى لا تمنع تسميتها زائدة. وبالجملة فهذه الفاء شبيهة بفاء جواب الشرط.
ولتضمن المبتدأ معنى الشرط صور، مذكورة في موضعها. والثاني التي دخولها في الكلام كخروجها. وهذا القسم لا يقول به سيبويه، وقال به الأخفش، وزعم أنهم يقولون: أخوكَ فوجدَ. واحتج بقول الشاعر:
            وقائلةٍ: خَوْلانُ فانكِحْ فَتاتَهُمْ ***** وأُكرُومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ: كما هِيا
وبقول عدي بن زيد:
                أرَوَاحٌ، مُودِّعٌ، أمْ بُكورُ ***** أنتَ فانظُرْ: لأيِّ ذاكَ تَصِيرُ؟
ولا حجة فيهما، لاحتمال كون خولان خبر مبتدأ محذوف، أي: هؤلاء خولان. وكون أنتَ فاعل فعل مقدر، يفسره الظاهر، أي: فانظر أنت.
وقد أجاز الفراء وجماعة، منهم الأعلم، دخولها في خبر المبتدأ، إذا كان أمراً، أو نهياً.
وأجاز الزجاج في قوله تعالى هذا فَلْيَذوقُوهُ (ص 57)، أن يكون هذا مبتدأ، و فليذوقوه خبره.
وقال ابن بَرْهان: واعلم أن الفاء تكون زائدة عند أصحابنا جميعاً. نحو قول الشاعر النمر بن تولب:
          لا تَجْزَعِي، إنْ مُنْفِساً أهلكتُهُ ***** وإذا هَلَكتُ فَعِنْدَ ذلكَ فاجزَعِي
مسألتان.. الأولى: اختلف في الفاء الداخلة على إذا الفجائية، نحو: خرجتُ فإذا الأسد. فذهب المازني، ومن وافقه، إلى أنها زائدة لازمة. وإليه ذهب الفارسي.
وذهب أبو بكر مبرمان، إلى أنها فاء عاطفة، واختاره ابن جني. وذهب الزجّاج إلى أنها فاء الجزاء، دخلت على حدّ دخولها في جواب الشرط.
الثانية: اختلف في الفاء الداخلة على الفعل المقدم معموله، في الأمر والنهي، نحو: زيداً فاضرب، وعمراً فلا تُهِنْ. فذهب قوم، منهم الفارسي، إلى أنها زائدة. وذهب قوم إلى أنها عاطفة، وقالوا: الأصل في نحو (زيداً فاضرب): تَنَبَّهْ فاضرب زيداً. فالفاء عاطفة على تَنَبَّهْ، ثم حذف الفعل المعطوف عليه، فلزم تأخير الفاء، لئلا تقع صدراً. فلذلك قدم المعمول عليها.
وقد ذُكر للفاء أقسام أُخر، ترجع، عند التحقيق، إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة.
أحدها الناصبة للفعل في جواب الأمر، والنهي، والدعاء، والاستفهام، والتحضيض، والعرض، والتمنّي، والنفي، والترجّي. فهذه تسعة أجوبة.
وليس للترجّي عند البصريين جواب منصوب، وتأوّلوا قراءة حفص لَعَلّي أبْلُغُ الأسبَابَ، أسبابَ السَّماواتِ فأطَّلِعَ (غافر 36)، على أن لعلّ أُشربت معنى ليت.
ومذهب بعض الكوفيين أن الفاء، في هذه الأجوبة، هي الناصبة للفعل بنفسها. وذهب بعضهم إلى أن انتصابه بالمخالَفة، لأنه لمّا لم يصحّ عطفه على الأول، لمخالفته له في المعنى، نُصِب.
ومذهب البصريين أن هذه الفاء فاء عاطفة، والفعل منصوب بأنْ مضمرة بعد الفاء. والفاء في ذلك عاطفة مصدراً مقدراً على مصدر متوهَّم. فإذا قلت: أكرِمْني فاُحْسِن إليكَ، فالتقدير: ليكنْ منك إكرامٌ فإحسانٌ منّي.
وثانيها الجارّة، وهي فاء رُبَّ، كقول امرئ القيس:
    فمِثلكِ، حُبْلَى، قد طَرَقْتُ، ومُرْضِعٍ ***** فألهَيتُها، عن ذِي تَمائِمَ، مُغْيَلِ
وقول الهذلي:
           فَحُورٍ قد لَهَيْتُ بهنَّ، عِينٍ ***** نَواعمَ، في المُرُوْطِ، وفي الرِّياطِ
وليست هذه الفاء جارة، كما زعم هذا القائل. وإنما الجرُّ برُبَّ المقدرة بعدها، والفاء في ذلك إما عاطفة، كالبيت الأول، وإما جواب شرط كالبيت الثاني، لأنّ قبله:
           فإمَّا تُعْرِضِنَّ، أُمَيْمَ، عَنِّي ***** ويَنْزَغْكِ الوُشاةُ، أُولُو النِّباطِ
وقد حكى ابن عصفور، وابن مالك، إجماع النحويين على أنّ الجرّ في ذلك برُبَّ المحذوفة، لا بالفاء.
وثالثها أن تكون للاستئناف. كقوله تعالى أنَّما إلهُكُم إلهٌ واحدٌ. فهل أنتُمْ مُسْلِمُونَ (الأنبياء 108). قال بعضهم: وإذا أردت الاستئناف بعدها، من غير تشريك للجملتين، كانت حرف ابتداء. نحو: قام زيد، فهل قمت. وقام زيد، فعمرو قائم. وعليه قوله جميل بثينة:
      ألم تَسألِ الرَّبْعَ القَواءَ، فَينطِقُ ***** وهل نُخْبِرَنْكَ، اليومَ، بَيداءُ، سَمْلَقُ؟  
أي: فهل ينطق. وجعل من ذلك قوله تعالى فأنتُمْ فيهِ سَواءٌ (الروم 28). وهذه الفاء ترجع، عند التحقيق، للفاء العاطفة للجمل، لقصد الربط بينها.
ورابعها أن تكون بمعنى حتَّى. ذكره بعضهم، قال: كقوله تعالى فهُم فيهِ شُرَكاءُ (الأنعام 139). وليس كما ذكر. بل هذه الفاء فاء العطف.
وخامسها أن تكون بمعنى إلى. ذكره بعض الكوفيين، ومثّله بقوله: هو أحسنُ النّاسِ ما بينَ قَرْنٍ فَقَدَمٍ. أي: إلى قدمٍ. وأجاز بعضهم في قوله: بين الدَّخُولِ فحَومَلِ، أن تكون الفاء بمعنى إلى. وهذا ضعيف، والفاء في ذلك عاطفة.
وقد نظمتُ أقسام الفاء في هذه الأبيات:
        مَعاني  الفاءِ  لا تَعْدُو   ثلاثاً ***** فعاطفةٌ  ،   تُرتِّبُ    باتِّصالِ
        وبَعضٌ قال : قد تأتي ، كواوٍ ***** وبَعضٌ قالَ : تأتي ، لانفِصالِ
        وفي جُمَلٍ ، وأوصافٍ ، كثيراً ***** جَلَتْ  سَبَبيَّةً ، ضِمْنَ   المَقالِ
        ورابطةُ  الجَوابِ  ،  تَدُلُّ  فيهِ ***** على   سَبَبيَّةٍ  ، في  كلِّ  حالِ
         وزائدةٌ  ، كما  قد  قالَ  قومٌ ***** ويَظْهَرُ ذاكَ ، في  صُوَرِ  المِثالِ ".

وجدنا أن تعريف الحرف ف هو القيم 01111 ، وتعني وجود عنصر معروف الشكل والصفة للمستمع فقط. لغياب المتكلم (وجود القيمة 0 مكان العنصر الأول في تعريف الفاء).
وهذا يدل على وجود الموضوع (العنصر الثاني) قريباً (مسافة أو حكماً) من المستمع، وبعيداً عن المتكلم، بحيث تمكّن المستمع فقط من معرفة شكله وصفته. فالعنصر " فاء " إلى المستمع ( ف 01111 ).
وفي كل الأمثلة التي يوردها المرادي أعلاه، لا تخرج الفاء عن هذا المعنى.

ففي حال التعاقب، مثل: دخلت البصرة فالكوفة. تدل الفاء على أن ما بعدها: الكوفة، وهو العنصر الثاني بعيد عن المتكلم، وقريب من المستمع الذي تمكّن من معرفة شكله وصفته.
لذا فإن الكوفة هنا تعقب البصرة، فهي أبعد عن المتكلم في الصيغة. وبالتالي فالدخول حصل أولاً في العنصر الأقرب إلى المتكلم، أي: البصرة، ثم أعقبه في العنصر الأبعد، الذي يلي الفاء والمعروف للمستمع.

أما في قوله تعالى وكم، مِن قَريةٍ، أهلكْناها فجاءَها بأسُنا (الأعراف 4). فتدل الفاء على أن ما بعدها: جاءَها بأسُنا، وهو العنصر الثاني، حاضر ولكنه بعيد عن المتكلم أثناء الصياغة، ومعروف للمستمع تماماً (شكلاً وصفة). أي (والله أعلم) أن المتكلم يتحدّث عن صيغة معروفة جيداً للمستمع رغم أنه لم ينقل إليه مفهومها، لأنه غائب، فالمستمع يعرف الموضوع جيداً (وهو هنا مجيء بأس الله) إما من تجربته الخاصة أو من الآخرين (متممي المتكلم).
بينما في المثال: جاء بأسنا فأهلكنا القرية. فهذا يعني أن إهلاك القرية وبغض النظر عن المتكلم، معروف للمستمع شكلاً وصفة، وليس مجيء البأس كما في الحالة الأولى.
والبعد كما نرى قد يكون في المكان أو الزمان؛ وفي الزمان يتجلّى البعد عن حاضر المتكلم في الماضي وفي المستقبل، ولا قيد على ذلك.
 
لنأخذ: أكلتُ التفاحةَ فغسلتها. إن غسل التفاحة بعيد عن المتكلم أثناء الصياغة ومعروف تماماً للمستمع، بينما: غسلتُ التفاحةَ فأكلتها. إن أكل التفاحة بعيد عن المتكلم أثناء الصياغة ومعروف تماماً للمستمع.
ونلاحظ هنا تأثير فعلين وهما الأكل والغسل، والصياغة بالفاء تمّت على أحدهما، وهو البعيد عن المتكلم، وكلاهما هنا بعيد، ولكن المتكلم متأكّد من معرفة المستمع تماماً ( شكلاً وصفة ) للفعل المُصَاغ به، رغم أنه لم يساهم في تكوين هذه المعرفة.
أما في حال بُعد الفعلين عن المتكلم ومعرفة المستمع التامة بهما، فيتم عندها صياغتهما بها، مثل قوله تعالى فوَكَزَهُ مُوسَى فقَضَى عليهِ (القصص 15).  

وهكذا لا تخرج الفاء عما ذكرناه، فهي تدل دوماً على كون ما بعدها عنصراً حاضراً، معروف الشكل والصفة للمستمع بغض النظر عن المتكلم (لأنه غائب). فالعنصر كما قلنا يفيء إلى المستمع.
أما إذا أردنا التعبير مثلاً عن العنصر الحاضر البعيد عن المستمع، والمعروف شكلاً وصفة للمتكلم، فإننا نستخدم الحرف هـ ذو القيم 11011 ، ونقول: أكلتُ هالتفاحةَ، أو أكلتُ هتّفاحةَ.
ونعني هنا أن التفاحة عنصر حاضر معروف تماماً للمتكلم فقط، وبعيد عن المستمع (لغيابه، لاحظ القيمة 0 مكان المستمع أي العنصر الثالث).
أي أن العنصر المُصَاغ بالهاء، يأخذ موقعاً معاكساً لموقع العنصر المُصاغ بالفاء، بالنسبة لكل من المتكلم والمستمع. فنحن هنا أمام خصوصية للمتكلم فقط.
فالمتكلم " اهتدى " إلى العنصر ( هـ 11011 )، أو أن العنصر لفت انتباه المتكلم وكأنه قال: " ها " فاهتدى الأخير إليه. ونقول إن العنصر " هاء " إلى المتكلم.