نقد الشعر وفلسفته - 2

د. محمد سعيد حسب النبي

أشار الرافعي في كتابه "تحت راية القرآن" أن أستاذ الآداب يجب أن يجمع إلى الإحاطة بتاريخها وتقصي موادها –ذوقاً مهذباً مصقولاً، وليس يمكن أن يأتي له هذا الذوق إلا من إبداع في صناعتي الشعر والنثر، ثم يجمع إلى هذين (رأي الإحاطة والذوق) تلك الموهبة الغريبة التي تلف بين العلم والفكر والمخيلة فتبدع من المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصاً من هؤلاء جميعاً هو الذي نسميه الناقد الأدبي.
يؤكد الرافعي أن هذه هي صفات الناقد في رأيه، فانظر أين تجده بين هؤلاء الأساتذة المختصين في أدبهم، المطولين بألقابهم، وإنهم ليتعاطون النقد وليس لهم وسائله إلا ما كان ضعفةً وقلةً وإدباراً، وقد فاتهم ما لا تحمله أقدارهم ولا تبلغه قواهم، وجهلوا أن الناقد الأدبي إنما يلقى درساً عالياً لا يدل فيه على العيوب الفنية إلا بإظهار المحاسن التي تقابلها في أسمى ما انتهى إليه الفن من آثار تاريخه، فيكون النقد تهذيباً وتخليصاً لفنون الأدب كلها، وهو بهذه الطريقة يجلوها على الناس ويبدع فيها ويزيد في مادتها ويسهلها على القراء ويحصلها لهم تحصيلاً لا يبلغونه بأنفسهم، ويعطيهم من كل ضعيف ما هو قوي، ومن كل قوي ما هو أقوى.
ورأيناهم –أي الرافعي- في نقد الشعر لا يزيدون على أن يعلقوا على كلام الشاعر، فيجيء عملهم في الجملة كأنه تصنيف من هذا الشعر وشرح له وتصفح على بعض معانيه، وبهذا يرجع الشاعر وإنه هو المتصرف في ناقده يديره كيف شاء، ويجيء هذا الناقد زائداً متطفلاً، فتأتي كتابته وإنها لضرب من سخرية المنقود بناقده، ويصبح وضع الكلام على العكس، فالشاعر المنقود لم يتكلم ولكنه أبان قصور الناقد وجهله، فهو الناقد وإن سكت، وذاك هو المنقود وإن تكلم.
وهذا المتعلق على أخبار الشاعر وشعره كتعلق التلخيص على أصله المطول والشرح على متنه الموجز، وإنما هو كاتب يجد من ذلك مادة إنشائية فيتصرف بها ليكتب، ولا يراد من النقد أن يكون الشاعر وشعره مادة إنشاء، بل مادة حساب مقدر بحقائق معينة لابد منها، فنقد الشعر هو في الحقيقة علم حساب الشعر، وقواعده الأربع التي تقابل الجمع والطرح والضرب والقسمة: هي الاطلاع والذوق والخيال والقريحة الملهمة. وثمَّ ضربٌ آخر من تعلق الضعفاء، يتناول الشاعر باعتباره رجلاً له موضعه من الناس ومنزله من الحياة، ثم لا يعدو ذلك وهو تزوير للمؤرخ يجعله ناقداً، وتزوير للناقد بردِّه مؤرخاً، على أن هذا لابد منه في النقد الصحيح، ولكنه لا يقوم بنفسه ولا تنفذ به بصيرة النقد، إذ الشاعر لم يكن شاعراً بأنه رجل من الناس وحي من الأحياء وعمرٌ من الحوادث المؤرخة، ولكن بموضوعه من أسرار الحياة وصلة نفسه بها وقدرة هذه النفس على أن تنفذ إلى حقائق الطبيعة في كائناتها عامة، وفي إنسانها خاصة، ثم بقدرة مثل هذه في النفاذ إلى الوجود المعنوي لكل ذلك، والتصرف بها على طبقات معانيه حتى لا تقتصر عن الغاية ولا تقع دون القصد، فإن الشعر إن هو إلا ظهور عظمة النفس الشاعرة بمظهرها اللغوي. ولئن كان في نقد الشعر تاريخ لا يتم النقد إلا به، فهو تاريخ الشعر في نفس قائله، ثم تاريخ هذه النفس في معاني الشعر من عصرها، ثم أدب هذا الشاعر من الوجود الأدبي للغة التي نظم بها، وذلك لابد أن يقع فيه تاريخ الشاعر نفسه محصلاً من نواحيه من جهات الحياة، متعمقاً فيه بالاستقصاء، متغلغلاً إليه بالنقد.
وللرافعي رأي بسطه وهو أنه لا ينبغي أن يعرض لنقد الشاعر والكلام عنه إلا شاعر كبير يكون ذا طبيعة في النقد، أو كاتب عظيم في الشعر؛ أي لابد من الأدب والشعر معاً لنقد الشعر وحده فيأتي الكلام فيه من العلم والذوق والإحساس والإلهام جميعاً. (وإن كنت أرى رأياً آخر أن عمل الشعر يختلف عن النقد، وأن الشاعر والناقد لا يجتمعان في نفس واحدة، فكلاهما يختلفان في العمل وفي المهارات)
يستكمل الرافعي رأيه قائلاً يتبين الناقد وجوه النقص الفني، ويعرف بم نقصت وماذا كان ينبغي لها وما وجه تمامها، ثم يعرف من الكمال الفني مثل ذلك، ويحس على الحالتين بالمعاني التي أحسها الشاعر حين انتزع شعره منها، وما كان يتخالجه وقتئذ من الفكر ويتمثل له من الصور المعنوية التي ألهمته إلهاماً؛ فإن المعاني المكتوبة هي شعر الشاعر، ولكن تلك المعاني المحسوسة هي شعر الشعر، وإنما يوقف عليها بالتوهم والاسترسال إلى ما وراء الشعر من بواعثه، وما تموجت به روح الشاعر عند عمله، وما عرضت لها به طبائع المعاني، وهذا كله لا يحسه الناقد إن لم يكن شاعراً في قوة من ينقده أو أقوى منه طبيعة شعر.
والنقد إنما هو إعطاء الكلام لساناً يتكلم به عن نفسه كلام متهم في محكمة ليقيم أو يزيح شبهة أو يقر حقيقة أو يبسط معنى أو يوجه علة أو يكشف خافياً أو يثبت نقيصة أو يظهر إحساناً، وبالجملة فهو نفض السيئة والحسنة، ووقوع أدلة العلم والفن والذوق مواقعها، وتكلم الكلام بذات نفسه ما تنكر منه وما تستجيد، والشاعر والناقد يلتقيان جميعاً في القارئ فوجب من ثمَّ أن يكون الناقد قوة تكشف قوة مثلها، أو دونها ليصحح فنٌ فناً مثله أو يقره أو يزيد عليه فضل بيان أو مزية فكر، وبهذا يصبح القارئ كالسائح الذي معه الدليل وأمامه المنظر، أي معه التاريخ الناطق وبإزائه التاريخ الصامت. وإذا كان الشاعر وشعره إنما هما النفس الممتازة وحوادثها وإلهامها ومعاني الحياة فيها. فليس يتجه أن يكون الناقد تاماً إلا بنفس من نوعها في دقة الحس ولطف النظر والاستشفاف وقوة التأثر بمعاني الحياة وسمو الإلهام والعبقرية: وبذلك يجيء النقد الصحيح بياناً خالصاً منخولاً كأنه شرح نفس لنفس مثلها.
وليس الأنف هو الذي ينقد الوردة العطرة الفياحة، وإنما تنقدها الحاسة التي في الأنف. وناقد الشعر إن لم يكن شاعراً فهو أنف صحيح التركيب، ولكن بالجلد والعظم دون تلك الحاسة التي هي روح العصب المنبث في هذا التركيب والمتصل بما وراءه من أعصاب الدماغ، فهذا الأنف.. يستطيع أن يتناول الوردة، ولكن بحس غليظ محقته الآفة كما يتناول حجراً أو حديداً أو خشباً أيها كان، فالوردة عنده شيء من الأشياء يمتاز باللين ويختص بالنعومة ويسطع بالرونق ويزهو باللون، ويذهب يتكلم في هذا كله، وهذا كله في الوردة، ولكن ليس الوردة.
ومتى كان البحث هو البحث في السماء وأفلاكها وأجرامها فلا يستقل به إلا الناظر المركب أي الذي معه عينه وتلسكوبه وعلمه جميعاً، إن نقص من ذلك فبقدر نقصانه يكون ضعفه، وإن تم فبقدر تمامه يكون وفاؤه؛ ولو أمكن أن ينفصل الشاعر من شعره فيقطع ما بينه وبين المعاني من نسب نفسه، ويبتعد عن الشعر ليراه جديداً عليه ويميزه من كل جهاته- لكان هو الناقد، فناقد الشعر هو الشاعر نفسه، ولكن في وضع أتم وأوفى، وحالة أبين وأبصر، أي كأنه الشاعر نفسه منقحاً تاماً بغير ضعف ولا نقص.