في المأزق الحضاري للتعدد اللغوي
أ. عبد الحكيم كرومي
لقد تقرر عند غير ما أحد من الدارسين أن الفرانكفونية مشروع صدامي صراعي تتغي فرض ذاتها على حساب لغات محلية أخرى تروم إقصاءها وتهميشها؛ وإذ ذاك فهي في عمقها حملة صليبية تناضل على العديد من الجبهات قصد "فرنسة" هويات مختلفة بالقوة. وإذا كانت المؤسسة الفرانكفونية قد اختزلت الصراع في القضية اللغوية، وذلك لأن اللغة هي المدخل لتغيير الأنماط والتقاليد والثقافات، وبالتالي خلخلة الرّؤى المشكّلة حول الذات والعالم والآخر، فإن المشروع الفرنكفوني في جوهره هو بعث وإحياء لجذور الفكر الصليبي الأول واستلهام آلياته التقليدية العتيقة، القائمة أساسا على ترسانة من الأحكام النمطية المسبقة الظالمة، المبنية على فكر غربي استعلائي يستهدف ثقافات أخرى "متدنّية"بقصد تفكيكها واحتوائها.
وبناء على ذلك فإن "الغزو" الفرنكفوني لبعض البلدان العربية أدى إلى إرباك وضعياتها اللغوية الطبيعية، بل وقد أسهم في هلهلة بنيتها الثقافية والاجتماعية إلى حد يصعب معه تحديد هوية وضعياتها اللغوية التي أضحت غير مستقرة وتعرف تعددا لغويا وثقافيا مناقضا لفطرة المجتمعات الإنسانية، وفي هذا المقال نروم مدارسة أهم الأفكار التي وردت في واحد من الأعمال الأكاديمية الجادة التي عالجت القضية اللغوية من الناحية اللسانية، وهو كتاب "التعدد اللغوي: انعكاساته على النسيج الاجتماعي" للباحث اللساني المغربي الدكتور محمد الأوراغي، والذي جاء في مقدمة وفصول ثلاثة ثم الخلاصة والخاتمة.
1) في الوضعيات اللغوية:
لا يخفى أن المجتمعات البشرية لا تكاد تنفك لسانيا عن إحدى الوضعيات اللسانية التالية: فهي تكون إما في وضعية "التفرد اللغوي" (unilingue)وهي الوضعية التي تتميز باستعمال لغة واحدة للتعبير والتواصل في مجتمع ما، ولا شك أن هذه الحالة هي الأكثر طبيعية، بحكم أنها تستجيب لفطرة الأفراد أكثر من غيرها، وذلك لأن التواصل بأداة واحدة فيه اقتصاد في الجهد التعبيري من جهة، ثم إنه يخلق انسجاما وتوافقا ثقافيا واجتماعيا؛ أي أن التفرد اللغوي يعمل على إحداث "تنميط اجتماعي" ضروري يوحّد بين مكونات المجتمع.
أما الوضعية اللسانية الثانية فهي "التفرع اللغوي" (diglossie)وهي تتميز بوجود لغة واحدة للتواصل إلى جانب لهجة أو لهجات متفرعة عنها، وهذه الوضعية بما أنها مبنية على علاقة بين لغة معيار أصل وبين لهجة -لهجات- منحدرة منها؛ فإنها توجد في جميع المجتمعات البشرية تقريبا؛ إلا أنها تطرح العديد من الإشكالات منها ما هو مرتبط بالجانب اللساني، كالبحث عن العلاقة بين النسقين الأصل والفرع، ومنها ما هو مرتبط بالجانب التربوي التعليمي، خاصة فيما يتعلق بأيِّ النسقين أصلح لتلقين النشء وتعليمهم، اللغة أم اللهجة؟ ومنها كذلك ما هو عقدي؛ حينما يتعلق الأمر بالاختيار بين اللغة المعيار بحسبانها إحدى ركائز الهوية، وبين اللهجة كما لو كانت شرطا ضروريا للتخلص من العوائق التاريخية والانخراط السريع في الحداثة.
تُمثل حالة "الازدواج اللغوي" (bilinguisme)الوضعية اللغوية الثالثة وهي التي تتميز بوجود لغتين أو أكثر في بلد واحد؛ لكن من نمطين مختلفين (كالعربية والفرنسية مثلا) وهذه الوضعية لا تخلو كذلك من مشاكل كوضعية التفرع اللغوي، ذلك أنها أولا؛ تحتاج إلى جهد ثقافي كبير يبذله الفرد ليتعلم لغة ثانية تمكنه من المقدرة على التواصل مع أفراد آخرين من نفس الوسط! هذا إضافة إلى إشكال الحاجة إلى نشر لغة أجنبية دخيلة في وسط اجتماعي لا يناسبها؟ هل هذه الحاجة يبررها "الانفتاح" على لغات العالم؟ أم أنها دوافع سياسية واقتصادية وربما ثقافية غير واضحة؟
تبقى الإشارة أخير إلى الوضعية اللسانية الرابعة وهي "التعدد اللغوي" (multilinguisme) وهي الحالة التي تتعايش فيها لغات وطنية عديدة في نفس القطر، وهذا التعايش إما على سبيل "التساوي" بينها، وذلك عندما تكون اللغات من صنف اللغات المعيار العالمة، أو على سبيل "التفاضل" وذلك عندما تتعايش لغة معيار بجانب لهجات محلية، على أن مشاكل هذه الوضعية تعتبر الأخطر والأعقد على الإطلاق، ذلك أن هذه الوضعية تسمح بتوظيف اللغة واتخاذها مطية إما لتزكية النّعرات الإقليمية أو العرقية أو الطائفية، والوصول في الأخير إلى تفتيت وحدة المجتمع وتكريس تضعضعه الثقافي، إلى درجة يفقد معها مناعته، وإما في المقابل توظف هذه من أجل كسب مصالح مادية أو سياسية ظاهرة أو خفية.
2) الّتشاكل البنيوي بين اللغة والمجتمع
يتبين من وضعية التفرد اللغوي الطبيعي أن هناك تفاعلا حاصلا أبدا بين المجتمع واللغة السائدة فيه، وأن هناك تعلقا بينهما، هذا إضافة إلى كونهما في حالة تأثير وتأثر متبادل، فاللغة دائما ما تعبر عن طبائع وأحول مستعمليها، وبحسبانها آلة للتواصل؛ فهمي توفر للمجتمع أنساقا رمزية للتعبير عن الحاجات والأغراض؛ إلا أن الأنساق الرمزية في اللغة الحيوانية مثلا تختلف عن الموجودة في اللغة البشرية، فالأولى تفتقد إطلاقا إلى عنصر التوليد وذلك لأنها متناهية ومبنية على أصوات وإشارات محصورة، ولا تتأثر بتغير الزمان والمكان، أما الثانية فهي متغيرة ولها قابلية لتوليد رموز من شأنها أن تسد الحاجة التواصلية التي تقتضيها المستجدات الحياتية، يمكن القول إذا؛ إن اللغة الأولى "جامدة" غير متطورة، أما الثانية فهي لغة "متحركة" دينامية.
. ومما تنبغي الإشارة إليه في علاقة اللغة بالمجتمع أن اللغة الواحدة المستعملة في مجتمعين أو أكثر مختلفين ثقافيا، قد نجد لها في كل واحد من المجتمعين اسم خاص بها، (فالإنجليزية مثلا تسمى في مجتمعات شمال إفريقيا المستعمرة بـ "البِدْجينْ" (pidgins) ومما يترتب على ذلك، أن اللغة وإن كانت واحدة، إلا أنها تكتسب نفس خصائص المجتمع المنتشرة فيه، وبناء على هذا يمكن أن نميز بين نوعين من اللغات: الأولى اللغات الكبرى، التي تتميز باكتمال نسقها وغنى معجمها، وكثرة عدد الناطقين بها، إضافة إلى أنها حاملة لأشكال من المعارف الدينية والفكرية المتشعبة.
أما النوع الثاني فهو اللغات الناشئة، وهي تتميز نسقيا بصعوبة إدراجها في نمط لغوي محدد، وبفقر معجمها، ومن الناحية الثقافية فهي تنقل ثقافة عشائرية، إضافة إلى قلة الناطقين مما يجعلها معرضة للانقراض، مع أن أهلها ليست لهم المناعة الكافية التي تحميهم من الاندماج في ثقافات كبرى. على أن هذا لا يمنع من تشكّل وضعية لغوية تتميز بتواتر العديد من اللغات الكبرى على مجتمع واحد وامتزاجها بثقافته، وهذا ما يمكن تسميته بـ "اللغط" اللغوي، وفي حالة كهذه يضطر المجتمع الذي يعرف هذا الضرب اللغوي إلى التطبع مع ثقافة اللغات الدخيلة عنه؛ وبالتالي ضياع هويته الخاصة إثر الانفصام الثقافي الذي يحدث له، وإذ ذاك نكون أمام "لقط" ثقافي، يجمع بين ثقافات متنوعة ومختلفة. وهنا لا يمكن بأي حال الحديث عن مجتمع موحد البنية ومتماسك اجتماعيا وثقافيا، بل إننا أمام مجتمعات كثيرة داخل مجتمع واحد.
حاصل القول إذا؛ إنه اتضح من خلال عرض الوضعيات اللغوية الأربع السابقة أن حالة التفرد اللغوي هي الوضعية التي تتماشى مع "الفطرة الجَمعية" للمجتمعات الإنسانية، وذلك لما تتميز به من اقتصاد في الجهد التواصلي، ثم لكونها عاملُ وحدة وانسجام بين مكونات المجتمع الواحد؛ إذ لا مجال فيها لثغرات تسمح بأي اختراق سياسيا كان أو ثقافيا، ولا مجال أيضا لإذكاء النزاعات القبلية أو الطائفية، أما فيما يخص الوضعيات اللسانية الأخرى، فقد ظهر أنها مقترنة بالعديد من العوائق والإشكالات التي تؤثر سلبا على النسيج المجتمعي. ثم إن قد تبين أن التشاكل البنيوي بين اللغة والمجتمع يوجب تنقية اللغة الوطنية من الدخيل؛ بحسبان ذلك ضمانة الاستقلال الثقافي والهوياتي، إذ كلما كانت اللغة مشوبة بعناصر دخيلة، إلا وأثر ذلك سلبا على النظام الاجتماعي الذي يحتويها، والذي يحدد درجة الانحدار الحضاري هو المسافة التي تفصل بين اللغة والمجتمع !
|
|
|