حرف الراء
م. محمد يحيى كعدان
حرف الراء
الحرف ( ر 01100 ) يعني وجود (حضور) عنصر لدى المستمع (بعيداً عن المتكلم لغيابه) غير معروف الشكل والصفة. وبالتالي رأى المتكلمُ عنصراً لا يعرفه مقابلاً له عند المستمع.
الصيغة: " راء " (ر 01100 )، ( ا 11111 ), ( أ 11111 )، تعني راء (تراءى) عند المستمع (أمام المتكلم) عنصر حاضر غير معروف ( ر )، لعنصر واسع التآلف (لتكرار الألف في الصياغة).
بالتالي نحن أمام رؤية لعنصر حاضر.
الصياغة بالأداة " رُبَّ " :
يقول فيها المرادي ما يلي: " رُبَّ: حرف جر، عند البصريين، ودليل حرفيتها مساواتُها الحروف، في الدلالة على معنى غير مفهومٍ جنسُه بلفظها، بخلاف أسماء الاستفهام والشرط، فإنها تدل على معنى في مسمّى مفهومٍ جنسُه بلفظها.
وذهب الكوفيون، والأخفش، في أحد قوليه، إلى أنها اسم يحكم على موضعه بالإعراب. ووافقهم ابن الطراوة. واستدلوا، على اسمتيها، بالإخبار عنها، في قول الشاعر (ثابت قطنة):
إنْ يَقتلوكَ فإنّ قتلَكَ لم يكنْ ***** عاراً عليكَ، ورُبَّ قتلٍ عارُ
ورُدَّ بأن الرواية الشهيرة "وبعضُ قتلٍ عارُ". وإن صحَّت هذه الرواية فـ "عار" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عارٌ. أو خبرٌ عن مجرور "ربّ"، إذ هو في موضع رفع بالابتداء، ودخل عليه حرف جرٍ هو كالزائد. ومما يدل على حرفيتها أنها مبنيّة. ولو كانت اسماً لكان حقها الإعراب.
واختلف النحويون، في معنى "رُبّ"، على أقوال: الأول: أنها للتقليل. وهو مذهب أكثر النحويين. ونسبه صاحب "البسيط" إلى سيبويه. الثاني: أنها للتكثير.
نقله صاحب "الإفصاح" عن صاحبِ "العين"، وابن درستويه، وجماعة. ولم يذكر صاحب "العين" أنها تجيء للتقليل. الثالث: أنها تكون للتقليل والتكثير. فهي من الأضداد. وإلى هذا ذهب الفارسي في كتاب "الحروف". الرابع: أنها أكثر ما تكون للتقليل. الخامس: أنها أكثر ما تكون للتكثير، والتقليلُ بها نادر. وهو اختيار ابن مالك. السادس: أنها حرف إثبات، لم يوضع لتقليل ولا تكثير. بل ذلك مستفاد من السياق. السابع: أنها للتكثير في موضع المباهاة والافتخار.
والراجح، من هذه القوال، ما ذهب إليه الجمهور: أنها حرف تقليل. والدليل على ذلك أنها قد جاءت في مواضع، لا تحتمل إلاّ التقليل، وفي مواضع ظاهرها التكثير، وهي محتملة لإرادة التقليل، بضرب من التأويل. فتعيّن أن تكون حرف تقليل، لأن ذلك هو المطَّرد فيها. فمما جاءت فيه للتقليل قولُ الشاعر (عمرو الجنبي):
ألا ، رُبَّ مَولودٍ وليسَ لهُ أبٌ ***** وذِي وَلَدٍ لم يَلدَهُ أبَوانِ
وذي شامةٍ سوداءَ، في حُرّ وجهِهِ ***** مُجلَّلةٍ ، لا تنقضي لِزَمانِ
ويَكمُلُ في تِسعٍ ، وخمسٍ ، شبابُهُ ***** ويَهرَمُ في سَبعٍ، معاً، وثماني
يعني بالمولود الذي ليس له أب: عيسى بن مريم عليه السلام. وبذي ولد لم يلده أبوان: آدم عليه السلام. وبذي الشامة: القمر. وهذه الثلاثة لي لها نظير. وقولُ زهير:
وأبيضَ، فيّاضٍ، يداهُ غمامةٌ ***** على مُعتفيهِ، ما تُغِبُّ فواضلُهْ
وهذا خُصوص، لا وجه فيه للتكثير، لأنه إنما أراد بالأبيض: حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري. ولم يُرد جماعة كثيرة، هذه صفتهم؛ ألا تراه يقول بعده:
حُذيفةُ يُنْميهِ، وبَدْرٌ، كلاهما ***** إلى باذخٍ، يعلو على من يُطاوِلُهْ
وقول بعض شعراء غسّان، يصف وقعة كانت بينهم وبين مذحج، في موضع يعرف بالبلقاء:
ويومٍ على البَلقاءِ، لم يكُ مثلهُ ***** على الأرض، يومٌ، في بعيدٍ، ولا داني
ونظير ذلك في أشعار المتقدمين والمتأخرين كثير. وليس بنادر، كما زعم ابن مالك.
ومما تأتي "رُبَّ" فيه للتقليل، إتياناً مطرداً، الأشعارُ التي في الألغاز، والأشعارُ التي يصف بها الشعراء أشياء مخصوصة بأعيانها، فإنهم كثيراً ما يستعملون في أوائلها "رُبّ" مصرّحاً بها، والواو التي تنوب مناب "رُبَّ".
ومما جاءت فيه للتقليل قولهم: رُبَّهُ رجلاً، إذا مدحوه. وهذا تقليل، محض، لا يُتوهَّمُ فيه، لأن الرجل لا يُمدح بكثرة النظير، وإنما يُمدح بقلة النظير، أو عدمه بالجملة. وإنما يريدون بقولهم: رُبَّهُ رجلاً، أنه قليل غريب في الرجال. كأنهم قالوا: ما أقلَّهُ في الرجال، أي: ما أقلَّ نظيره.
وأما ما جاءت فيه "رُبّ"، وظاهره التكثير، فهو كثير جداً، وغالبه في مواضع المباهاة والافتخار. كقول امرئ القيس:
ألا، رُبَّ يومٍ، لك، منهنّ، صالحٍ ***** ولا سِيَّمَا يوماً، بدارةِ جُلْجُلِ
ولسنا نشك في أن القائلين بأن "رُبّ" للتقليل قد وقعوا على هذه المواضِع، التي التكثير فيها ظاهر، لأنها كثيرة جداً. فواجب على المصنّف أن يتهم رأيه، ولا يسرع إلى تخطئتهم، ويعلم أن لهم في ذلك غرضاً، ينبغي أن يبحث عنه. وقد ذكروا لذلك ثلاثة أوجه:
الأول: أن "رُبّ" في ذلك لتقليل النظير، فالمفتخر يزعم أن الشيء الذي يكثر وجوده منه يقلّ من غيره. وذلك أبلغ في الافتخار.
الثاني: أن القائل قد يقول: رُبَّ عالمٍ لقيتُ، وهو قد لقي كثيراً من العلماء، ولكنه يقلل مَن لقيهُ تواضعاً.
الثالث: أن الرجل يقول لصاحبه: لا تُعادي فربَّما نَدمتَ. وهذا موضع ينبغي أن تكثر فيه الندامة، ولكن المراد أنّ الندامة لو كانت قليلة لوجب أن يُتجنّب ما يؤدي إليها، فكيف وهي كثيرة؟ فصار لفظ التقليل هنا أبلغ من التصريح بلفظ التكثير. وعلى هذا تأوّل النحويون قوله تعالى: رُبَّمَا يَوَدُّ الّذِينَ كفرُوا لوْ كانُوا مُسْلِمِينَ الحجر 2. وعليه تأول قوم قول امرئ القيس: (ألا، رُبَّ يومٍ، لكَ، منهنَّ، صالحٍ).
قال بعضهم: "رُبّ" حرف يكون لتقليل الشيء، في نفسه، [ويكون لتقليل النظير. فالتي لتقليل الشيء، في نفسه]، كقول الشاعر: (ألا رُبَّ مولودٍ وليس له أبٌ)، والتي لتقليل النظير، وهي الكثيرة الاستعمال، كقول الشاعر (امرؤ القيس):
فإنْ أُمسِ مَكروباً فيا رُبَّ قينةٍ، ***** مُنعَّمةٍ، أُعمَلْتُها، بكِرانِ
والمعنى أن كثيراً، من هذه القينات، كان لي، وقلَّ مثلها لغيري. فإطلاق النحويين على "رُبَّ" أنها تقليل إنما يعنون النظير، الذي هو الغالب فيها.
وقال ابن مالك: الصحيح أن معنى "رُبَّ" التكثير. ولذا يصلح "كم" في كلّ موضع وقعت فيه، غير نادر. ونسبه هو، وابن خروف قبله، لسيبويه. واستدلاَّ بقوله في باب "كم": ومعناها معنى "رُبَّ". وبقوله في الباب: واعلم أنَّ "كم" في الخبر لا تعمل إلاّ فيما تعمل فيه "رُبّ"، لأن المعنى واحد. إلا أنّ "كم" اسم، و "رُبّ" غير اسم. قال ابن مالك: هذا نصه، ولا معارض له في كتابه.
قلتُ: أما استدلاله بصلاحية "كم" في كلّ موضع وقعت فيه، غير نادر، فقد أجاب الشلوبين عن ذلك بما معناه: إنَّ لمجرور "رُبَّ"، في تلك المواضع، نسبتين مختلفتين: نسبة كثرة إلى المُفتخِر، وسنبة قلة إلى غيره. فتارة يأتي بلفظ "كم" على نسبة الكثرة، وتارة يأتي بلفظ "رُبَّ" على نسبة القلة. وأما قوله "ولا معارض له في كتابه" فغير مسلَّم، لأن سيبويه إذا تكلم في الشواذ في "كتابه" فمن عادته، في كثير منها، أن يقول: وربَّ شيء هكذا. يريد أنه قليل نادر. كقوله في باب "ما"، وقد أنشد بيت الفرزدق: (إذ هُمْ قريشٌ، وإذ ما مِثلَهُم بَشرُ): وهذا لا يكاد يُعرف، كما أن "لاتَ حينُ مناصٍ" كذلك. ورُبَّ شيء هكذا.
قال الشلوبين: فكيف يُتوهَّم أنه أراد بقوله: "إنّ معنى كم كمعنى رُبّ" أنها مثلها في الكثرة، وهو يستعملها في كلامه بضدّ ذلك؟ قال: وكلّ مَن شرح "كتاب سيبويه" لم يقل أحد منهم: إنّ سيبويه أراد بها الكلام أن "رُبَّ" للتكثير.
وقد فسَّر أبو علي هذا الموضع، فقال: إنَّما قال "إنَّ معنى كم كمعنى رُبَّ" لأنها تشارك "رُبَّ" في أنها تقع صدراً، وأنهما لاتدخلان إلاَّ على نكرة، وأن الاسم المذكور الواقع بعدهما يدلّ على أكثر من واحد، وإن كان الاسم الواقع بعد "كم" يدلّ على كثير، والاسم الواقع بعد "رُبّ" يدل على قليل. وكذا قال ابن درستويه، والرماني، وغيرهما، في شرح هذا الموضع من كلام سيبويه.
واعلم أن "رُبَّ" فيه لغات وله أحكام: وخصائص ينفرد بها عن سائر حروف الجر. ولا بد من ذكر ذلك، على وجه الإيجاز. وفيه مسائل.
الأولى: في لغات "رُبَّ"، وهي سبع عشرة لغة. وهي: "رب" بضم الراء، وفتحها، كلاهما مع تخفيف الباء، وتشديدها، مفتوحة. فهذه أربع. و "ربتْ" بالأوجه الأربعة، مع تاء التأنيث [الساكنة. و "ربتَ" بالأوجه الأربعة، مع تاء التأنيث] المتحركة. و "ربْ" بضم الراء، وفتحها، مع إسكان الباء. و "رب" بضم الراء والباء معاً، مشددة، ومخففة. و " رُبَّتا ".
الثانية: مجرور "رُبَّ" قسمان: ظاهر، ومضمر. فالظاهر لا يكون [إلاّ نكرة، لأن التقليل والتكثير لا يكون] في المعرفة. وأجاز بعض النحويين أن تجرّ المعرّف بـ "أل"، وأنشد قول الشاعر:
رُبَّما الجاملِ، المُؤبَّلِ، فيهِم ***** والعَناجيجِ، بينهنَّ المِهارُ
بجر "الجاملِ" وصفتِهِ. فإن صحت الرواية حمل على زيادة "أل".
وقد يعطف على مجرورها مضاف إلى ضميره، نحو: رُبَّ رجلٍ وأخيه. وإنما اغتُفِر ذلك في المعطوف لأنها لم تباشره. قيل: وشرط ذلك أن يكون العطف بالواو.
وحكى الأصمعي: ربّ ابيه وربّ أخيه، على نية الانفصال. وهو نادر.
والمضمر يلزم أن يكون مُبهماً مفسَّراً بنكرة، متأخرة، منصوبة على التمييز. نحو: رُبَّهُ رجلاً أكرمتُ.
وهذا الضمير يلزم الإفراد، والتذكير، استغناءً بتثنية تمييزه، وجمعه، وتأنيثه. نحو: رُبَّهُ رجلين، ورُبَّهُ رجالاً، ورُبَّهُ امرأةً. وحكى الكوفيون تثنيته، وجمعه، وتأنيثه، فيطابق التمييز. نحو: رُبَّهُما رجلين، ورُبَّهم رجالاً، ورُبَّها امرأة. حكوا ذلك، نقلاً عن العرب. وقال ابن عصفور إنهم أجازوا ذلك قياساً. وليس كما قال.
واختُلف في هذا الضمير المجرور بـ "رُبَّ". فذهب كثير، منهم الفارسي، إلى أنه معرفة، ولكنه جرى مجرى النكرة، في دخول "رُبّ" عليه، لمّا أشبهها في أنه غير معيّن. وذهب قوم إلى أنه نكرة. وبه قال الزمخشري، وابن عصفور.
الثالثة: ذهب المبرّد، وابن السرّاج، والفارسي، وأكثر المتأخرين، إلى وجوب وصف مجرورها الظاهر، إما بمفرد، نحو: رُبَّ رجلٍ صالحٍ، وإما بجملة، نحو: رُبَّ رجلٍ لقيته. فـ "لقيته" جملة في موضع خفض، على الصفة. قال بعضهم: لأن المراد التقليل. وكون النكرة موصوفة أبلغ في التقليل. ولأنه لما كثر حذف عاملها، ألزموها الصفة، لتكون الصفة كالعوض من حذف العامل. وذُكر في "البسيط" أن وجوب وصفها رأيُ البصريين.
وذهب الأخفش، والفرّاء، والزجّاج، وابن طاهر، وابن خروف، إلى أنه لايلزم وصف مجرورها. وهو ظاهر مذهب سيبويه.
واختاره ابن عصفور. ونقله ابن هشام عن المبرّد. واستدل من لم يلتزمه بالسماع ، مع ضعف ماعلل به الملتزمون. قال ابن مالك: وهو ثابت، بالنقل الصحيح، في الكلام الفصيح. وأنشد أبياتاً، منها قول أم معاوية (هند بنت عتبة):
يا رُبَّ قائلةٍ، غداً: ***** يالَهفَ أمِّ مُعاوِيَهْ
ولقائل أن يقول: الموصوف، في هذا البيت، محذوف، تقديره: يارُبّ امرأةٍ قائلةٍ. وكذا في جميع الأبيات التي استشهد بها، لأن جميعها صفات.
الرابعة: من خصائص "رُبَّ"، عند أكثر النحويين، أن الفعل الذي تتعلق به يجب أن يكون ماضياً. تقول: رُبّ رجلٍ كريمٍ لقيتُ. ولا يجوز "سألقى". وإنما لزم مضيُّ فعلها، لأنها جوابٌ لفعل ماضٍ. وقيل: لأنها للتقليل، فأولَوها الماضي، لأنه قد تحققت قِلتُه.
وذهب ابن السّراج إلى أنه يجوز أن يكون حالاً. ومنع أن يكون مستقبلاً. وذهب بعض النحويين إلى أنه يجوز أن يكون ماضياً، وحالاً، ومستقبلاً، والمضيُّ أكثر. وهو اختيار ابن مالك. فمن وقوعه مستقبلاً قول جحدر بن مالك:
فإنْ أهلِك فرُبَّ فتىً سيبكي ***** عليَّ، مُهذَّبٍ، رَخْصِ البَنانِ
ومن وقوعه حالاً قول الشاعر:
ألا رُبَّ من تَغْتَشُّهُ، لكَ ناصحٍ ***** ومُؤتمَنٍ، بالغيبِ، غيرِ أمينِ
وتؤوّلَ بيت جحدر، على أنه من حكاية المستقبل، بالنظر إلى المضيّ. كأنه قال: فرُبّ فتى بكى عليّ فيما مضى، وإن كنت لم أهلك، فكيف يكون بكاؤه إذا هلكتُ؟ كقولك: لِمَ تركت زيداً وقد كان سيعطيك. وقيل: هو على إضمار القول، أي : أقول فيه سيبكي . هذا إذا جُعل "سيبكي" جواب "رُبّ". وأما إن جُعل صفةَ مجرورها، والجواب محذوف، أي: لم أقضِ حقه، فلا إشكال.
الخامسة: مذهب الجمهور أن "رُبَّ" تتعلق بالفعل، كسائر حروف الجر غير الزوائد. وذهب الرمّاني، وابن طاهر، إلى أنها لا تتعلق بشيء. قال بعضهم: وتجري "رُبَّ"، مع إفادتها التقليل، مجرى اللام المقوية للتعدية، في دخولها على المفعول به.
السادسة: من خصائص "رُبَّ" أنها يلزم تصديرها. فلا تتعلق إلا بمتأخر عنها، كقولك: رُبَّ رجلٍ عالمٍ لقيتُ. فموضع المجرور بها نصب، كما يكون موضع المجرور، في قولك: بزيدٍ مررتُ. وإنما وجب تصديرها، لأن التقليل كالنفي، فلا يقدم عليه ما في حيّزه.
السابعة: من خصائصها أيضاً أن عاملها يكثر حذفه، لأنها جواب لمن قال لك: ما لقيتَ رجلاً عالماً، أو قدّرت أنه يقول. فتقول، في جوابه: رُبَّ رجلٍ عالم، أي: قد لقيت. قال ابن يعيش: ولا يكاد البصريون يظهرون الفعل العامل، حتى إن بعضهم قال: لا يجوز إظهاره، إلا في ضرورة شعر.
الثامنة: من خصائص "رُبَّ" أنها قد تحذف، ويبقى عملها. ولا يكون ذلك في غيرها، إلا نادراً. قال ابن مالك: يُجرّ بـ "رُبَّ" محذوفة، بعد الفاء كثيراً، وبعد الواو أكثر، وبعد "بل" أقلّ، ومع التجرّد أقلّ.
قلتُ: تقدم ذكر الجَرِّ بها، بعد الواو، والفاء، و"بل"، والخلافُ في ذلك. ومثال الجَرِّ بها، مع التجرّد من هذه الأحرف، قول الشاعر (جميل بثينة):
رسْمِ دارٍ وقفتُ في طَللِهْ ***** كِدْتُ أقضي الحياةَ، من جَللِهْ
أراد: رُبَّ رسمِ دارٍ، فحذف "رُبَّ"، وأبقى عملها، وقول ابن مالك "إن الجرَّ بها محذوفةً، بعد الفاء، كثيرٌ" فيه نظرٌ، لأنه لم يرد إلاّ في بيتين، كما قال بعضهم، ولعله أراد بالنسبة إلى "بل".
التاسعة: قد تزاد "ما" بعد "رُبَّ" كافّةً، وغير كافّة. فمثالها، كافّة، قول الشاعر:
رُبَّما الجاملُ، المُؤبَّلُ، فيهم ***** والعَناجيجُ، بينهنَّ المِهارُ
والبيت لأبي دؤاد الإيادي، والجامل: القطيع من الإبل مع رعاتها. والمؤبل: المُعَدُّ للقِنيَة، يقال: إبلٌ مؤبلة، إذا كانت للقِنيَة (من الاقتناء). والعناجيجُ: جياد الخيل. والمهار: جمع مهر. ومثالها، غير كافّة: قول الشاعر (عدي بن الرعلاء):
رُبَّما ضربةٍ، بسيفٍ، صقيل ***** بين بُصْرى، وطعنةٍ، نَجْلاءِ
واعلم أن مذهب المبرّد، ومن وافقه، أن "رُبَّ" إذا كُفَّت بـ "ما" جاز أن يليها الجملتان: الاسمية، والفعلية. فالاسمية كالبيت السابق. والفعلية كقوله تعالى رُبَّمَا يَوَدُّ الّذِينَ كفرُوا الحجر 2. وإلى هذا ذهب الزمخشري.
وذهب سيبويه، فيما نقل بعضهم عنه، إلى أن "رُبَّ" إذا كُفَّت بـ "ما" لا يليها إلاّ الجملة الفعلية، قيل: وهو مذهب الجمهور. وتأوّلوا البيت المتقدّم على أن "ما" نكرة موصوفة، والاسم المرفوع بعدها خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة صفةُ "ما". على هذا تأوّله الفارسي، وابن عصفور. قال ابن مالك: والصحيح أن "ما" في البيت زائدة كافّة، هيّأت "رُبَّ" للدخول على الجملة الاسمية، كما هيّأتها للدخول على الفعلية.
العاشرة: إذا وقع الفعل المضارع بعد "رُبَّما" صرفتْ معناه إلى المضي، نحو: رُبَّما يقومُ زيد، أي: رُبَّما قامَ زيد، وإنما صرفت معنى المضارع إلى المضيّ، لأنها قبل اقترانها بـ "ما" مستعملة في المضيّ، فاستصحبَ لها ذلك بعد الاقتران. و"ما" للتوكيد، وليسن بناقلة من معنى إلى معنى. قال أبو علي: لما كانت "رُبَّ" لِما مضى وجب أن تكون "رُبَّما" أيضاً كذلك.
قال بعضهم: وقد أُولعت العامة، بإدخالها على المستقبل، نحو: رُبَّما يقوم زيد. وأما قوله تعالى رُبَّمَا يَوَدُّ الّذِينَ كفرُوا لوْ كانُوا مُسْلِمِينَ الحجر 2، فظاهره الاستقبال، وتأوّلوه على تقدير "رُبّما وَدَّ"، جُعل فيه المستقبل بمعنى الماضي، لصدق الموعود به، ولقصد التقريب لوقوعه. فجُعل، وإن كان غير واقع، كأنه واقعٌ مجازاً.
وقال بعضهم: قد جاء الفعل بعدها مفتتحاً بحرف التنفيس، نحو: (فإنْ أهلِك فرُبَّ فتىً سَيبكي)، فعلى هذا، يجيء الاستقبال بعدها قليلاً. وتحمل الآية على ذلك، لأن في التخريج المذكور تكلفاً، إذ مآلُه إلى أنه عُبِّرَ بالمستقبل عن ماضٍ، وذلك الماضي مجاز عن المستقبل. والله أعلم." .
ونكتبها لفظاً كما يلي: " رُبْبَ ".
بداية لندرس الصيغة " رَبْ ". لدينا حرف الباء ( ب 11110 ) وهو صيرورة (تشكيل فقط) (انظر مقالنا: حرف الباء)، ثم تتم رؤية ( ر 01100 ) هذه الصيرورة (التشكيل). أي: تتراءى لنا صيغة تشكيل العنصر.
لنتأمل الصيغة التالية كمثال: "رُبَّ أخٍ لكَ لمْ تلدهُ أمّكَ"، وندرسها وفق المراحل: رب(ب( أخٍ لكَ لمْ تلدهُ أمّكَ ))).
وتعني: صيرورة لعنصر حاضر معروف الشكل عموماً (دون تفاصيل) للمتكلم والمستمع ( ب 11110 ) أي أن هذه الصيروة شكل دون تفاصيل وبالتالي غير متمايزة وقد تكون بعيدة حقيقة أو حكماً.
ثم تتم الصياغة بالصيغة الثنائية (رب) لتعني أننا أمام رب لهذه الصيرورة (لهذا العنصر المتشكل). أي أننا أمام توليد أو تدبير (إذا جاز التعبير) للصيغة "أخ لك لم تلده أمك". ومثلها: ربّ الطماطم (البندورة).
وباختصار نحن أمام عملية التشكيل أو التكوين في " رَبْ "، وعند إضافة ( ب 11110 ) أخرى فإننا نرى أن هذه الصيروة شكل دون تفاصيل وبالتالي غير متمايزة وقد تكون بعيدة حقيقة أو حكماً. ولكن لوجود الشكل في الباء الثانية، نرى أنه لا علاقة للموضوع بالزيادة أو النقصان ويرتبط فقط بالتشكّل مع عدم التمييز.
يقول ابن منظور في اللسان مادة " ربب ": " ربب: الرَّبُّ: هو الله عزّ وجلّ، هو رَبُّ كل شيء أي مالكه، ... قال: ويقال الرَّبُّ، بالألف واللام، لغير اللهِ، وقد قالوه في الجاهلية للملِكِ؛ ... قال: الرَّبُّ يُطلق في اللغة على المالك، والسيّد، والمدبّر، والمربّي، والقيّم، والمُنعِم؛ قال: ولا يُطلق غير مضافٍ إلاّ على الله، عزّ وجلّ، وإذا أطلق في غيره أضيفَ، فقيل: ربُّ كذا. قال: وقد جاء في الشعر مُطلقاً على غير اللهِ تعالى، وليس بالكثير، ولم يُذكر في غير الشعر. ... قال النحويون: رُبَّ: من حروف المعاني، والفرق بينها وبين كَمْ، أنّ رُبَّ للتقليل، وكم وُضعت للتكثير، إذا لم يُرَدْ بها الاستفهام؛ وكلاهما يقع على النكرات، فيخفضها. قال أبو حاتم: من الخطأ قول العامة: رُبَّما رأيته كثيراً، ورُبَّما إنما وُضعت للتقليل. غيره: ورُبَّ ورَبَّ: كلمة تقليل يُجرّ بها، فيقال: رُبَّ رَجلٍ قائم، ورَبَّ رجلٍ؛ وتدخل عليه التاء، فيقال: رُبَّتَ رَجلٍ، ورّبَّتَ رَجلٍ. الجوهري: ورُبَّ حرف خافض، لا يقع إلا على النكرة، يُشدّد ويُخفف، وقد يدخل عليه التاء، فيقال: رُبَّ رجلٍ، ورُبَّتَ رجلٍ، ويدخل عليه ما، ليُمْكِن أن يُتَكَلَّم بالفعل بعده، فيقال: رُبَّما. وفي التنزيل العزيز: رُبَّمَا يَوَدُّ الّذِينَ كفرُوا الحجر 2، وبعضهم يقول رَبَّما، بالفتح، وكذلك رُبَّتَما ورَبَّتَما، ورُبَتَما ورَبَتَما، والتثقيل في كل ذلك أكثر في كلامهم، ... "
الآن لتكن الصيغة: " حُبَّ أخٍ لكَ لمْ تلدهُ أمّكَ " التي ينطبق عليها التحليل السابق، ولكن مع وجود الحرف ( ح 11000 ) بدل الراء. (انظر مقالنا: حرف الحاء).
بالتالي نحن أمام حَبُو (اقتراب) لصيرورة عنصر أمام المتكلم ( ح 11000 ) ( ب 11110 ).
ومنه فإن " رَبْ " ( ر 01100 ) ( ب 11110 ) لدى المستمع (مقابل المتكلم). تدل على إمكانية التشكيل والنمو والرعاية (التربية) الظاهرة.
بينما " حَبْ " ( ح 11000 ) ( ب 11110 ) لدى المتكلم. تدل على إمكانية النمو القريب (الذاتي أو الداخلي).
أي أن " رُبَّ " لا علاقة لها بالتقليل أو التكثير بل تدل على إمكانية التشكيل، وكذلك " حُبَّ ".
بما أنّ " رَبْ " تطلق لغة كما قلنا أعلاه في اللسان " الرَّبُّ يُطلق في اللغة على المالك، والسيّد، والمدبّر، والمربّي، والقيّم، والمُنعِم " فإننا هنا نسوق ملاحظة واضحة تتعلق بطريقة صياغة المعاني منطقياً:
إذ طالما أننا نتحدّث عن صيغة الرّبّ فلا بد أن تقوم هذه الصيغة بصياغة العناصر القابلة للتشكّل، وبالتالي تصوغ الأسماء فقط، نكرات أو يمكن أن تكون معرّفات (كما يقول المرادي أعلاه)، فنقول: رُبَّ رَجلٍ يقوم، أي بداية من اليسار إلى اليمين وفق ترتيب الصياغة ينبغي أن يكون لدينا عنصر (اسم) مثل: رجل، ثم تأتي رُبَّ، ولا نستطيع منطقياً صياغة هذه الرُّبَّ بالأفعال، أي وضع رُبَّ قبل الأفعال، لأننا ببساطة نتحدّث عن رَبْ (يؤثر ولا يتأثر)، لذا إذا أردنا نطق الأفعال علينا استخدام ما وهي بمعنى الذي (انظر الأداة " ما " في مقالنا حرف الميم) وهو الاسم المعني، فنقول: رُبَّما يقوم، لنعني رُبَّ رَجلٍ يقوم.
|
|
|