هل المحافظة على العربية من أوجب واجبات الأمة ؟
أ.د. ياسر الملاح
قد يبدو هذا السؤال أو التساؤل ضربا من الشذوذ، وهو يشبه إلى حد كبير السؤال الذي قد يطرحه بعض الناس في قضايا بدهية جدا، كأن يسأل أحدهم : لماذا يكون لدينا مدارس أو جامعات !؟! ولماذا نعلم اللغة ما دمنا نتكلمها؟ وما حاجتنا إلى مشفى ما دمنا غير مرضى؟!؟ وهكذا إلى آخر قائمة التساؤلات الشاذة المتعلقة بالبدهيات. إن هذه الأسئلة تبدو ساذجة وطفولية تماما، لأن المرء الذي لا يدرك أهمية تعليم أبناء الأمة اللغة الوطنية قراءة وكتابة، أو إقامة معهد للتربية للتعليم، أو بناء مشفى للاستشفاء من الأمراض، هو في المستوى نفسه الذي يسأل فيه عن ضرورة المحافظة على اللغة العربية.
وقد يبادر كثير من الناس إلى الاعتراض على حماسة أحدهم في محافظته على اللغة العربية، عندما يتحدث بها، أو عندما يُنقر عن أخطاء الآخرين في الكتابة، فيبادر إلى القول: دع الناس وشأنهم، ولينطقوا كما يشاؤون !؟ غير أن المتدبر لهذا الاعتراض يكتشف أن صاحب هذا الاعتراض هو من فصيلة من يتساءل عن الحاجة إلى بناء مستشفى، أو عن إقامة معهد للتربية والتعليم، أو عن ضرورة تعليم اللغة للناطقين بها.
وقد يغيب عن بال الكثيرين أن المحافظة على اللغة العربية من أبنائها ضرورة تصل إلى حد الواجب الذي لا مفر منه، فهل المحافظة على بدن المرء ضرورة؟ وهل المحافظة على أبنائه ضرورة؟ وهل المحافظة على أناقتك وهندامك ضرورة؟ نعم، إن هذه ضرورات لن تجد أحدا من ذوي العقل والفهم يفرط فيها، بل إن كل فرد يوليها العناية الزائدة، ليحمي نفسه من المرض أولا، وليرضي أشواق عاطفة الأبوة والبنوة ثانيا، وليسلم من سخرية الآخرين واستهزائهم ثالثا وأخيرا. إن العلاقة بين المرء وبين متطلباته الحياتية الخاصة لا تختلف أبدا عن العلاقة بين المرء وبين الأمة التي ينتمي إليها، فهذا انتماء إلى الذات ضيق محدود بحجم الفرد ومحدوديته، وهذا انتماء إلى الأمة التي تفرع عنها الإنسان بحجم الأمة واتساعها وامتدادها التاريخي والحضاري، فالانتماءان مهمان وضروريان، ومن الحمق التفريط بأحدهما ولو لصالح الآخر، لأن افتقار المرء إلى أحدهما يورثه الاختلال والاضطراب في النفس والسلوك وحركة الحياة.
والآن إلى سؤال مهم جدا : ما موقع اللغة العربية بالنسبة إلى العربي حتى يعطيها هذا الاهتمام الكبير؟
اللغة للعربية هي الوسيلة التي لا يمكن حصول تواصل لغوي أو فكري بين أبناء الأمة إلا بها، وتخيل مجتمعا يفتقر إلى أداة للتفاهم والتواصل بين أفراده على مستوى الأسرة والمؤسسة والحياة كلها؟!؟ تخيل نفسك تسير في شارع من شوارع أي مدينة من مدن العالم وأنت لا تتقن لغة ما، فكيف تكون حياتك وأنت لا تتمكن من التواصل مع الآخرين؟!؟ إن كلا الحياتين لا يطاق، ولا يمكن وصفه إلا بالصعوبة التي لا تحتمل. وما دام كل شيء في هذه الدنيا يخضع للصحة والمرض وللحياة والموت، فمن المحتمل أن تمرض هذه الأداة المهمة، ومن المحتمل أن تموت، فما الأسباب التي تقي من المرض والانقراض؟ إنها المحافظة والعناية بقدر الطاقة، ولا بد أن يصل هذا الفهم إلى حد اليقين الذي لا يتزعزع.
ولو وسعنا الدائرة في الحديث عن هذا الموضوع المهم لقلنا إن اللغة لا تقف عند كونها أداة للتواصل، وإن كانت هذه الصفة مهمة جدا وضرورة من ضرورات الحياة، ولكنها تصبح بفضل استخدامها والتواصل بها مستودعا لثقافة الأمة وتاريخها وفكرها، وأنا لا يمكنني تصور أن أحدا من ذوي الألباب والفهم السديد يمكنه أن يضحي بهذا المستودع الذي يحفظ للأمة هويتها وشخصيتها الحضارية. فإذا حصل هذا عند فرد من أفراد الأمة أو عند الأمة بأكملها، فانسلخ من كيانه الثقافي أو انسلخت من وجودها الحضاري، ولم يعد لأي منهما كينونة أو وجود فعلي، هوى وهوت إلى مستنقع العدم والذوبان في الآخرين.
فإذا أضفنا بعدا آخر من أبعاد أهمية اللغة العربية بالنسبة للعربي، وهو أن اللغة إحدى العناصر المهمة في رسم شخصية الإنسان رسما جميلا مؤثرا، وكذلك رسم الشخصية العامة للأمة والمجتمع، أصبح من المستحيل أن يستغني المرء عن هذا العنصر، لأن اللوحة الفردية للإنسان وللمجتمع الذي ينتمي إليه ستكون مشوهة وغير متماسكة، ويصعب عليها أن تبدو بملمح إنساني مقبول. ولقد صدق من وصف اللغة بأنها ملمح إنساني يختص به هذا المخلوق دون غيره من المخلوقات، وعليه فإن التواصل الكائن بين النملة والنملة أو بين أي مخلوق وأي مخلوق آخر من فصيلته لا يمكن أن نطلق عليه مصطلح اللغة لامتياز الإنسان بهذا الأسلوب التعبيري الخاص به، ولأن أي واحد منا لا يستطيع النفوذ إلى مخ النملة ليفهم ما الذي دار بينها وبين أي نملة أخرى عندما نرى أيا منهما يلتقي بالآخر.
كما أن اللغة إحدى جواهر عقد المثل العليا للأمة، فبها ينتظم هذا العقد، وبدونها تنفرط جواهره وتتناثر لآلئه، ولا نبالغ إذا ذهبنا إلى أن هذه الحبة من حبات العقد تحتل موقع الواسطة التي هي أجمل حباته قاطبة، وعلى جانبيها تتراص الحبات الأخرى متلازة لحماية الواسطة والتقرب إليها. ولا يمكن تصور وجود أمة متحضرة بغير هذا العقد من المثل لضبط الحياة وتسييرها وفق القواعد الإنسانية المتقدمة، ولعل اللغة تحتل مكانة قيمة من حبات هذا العقد، ولتأكيد هذه الرؤية عن اللغة نقتبس ما ورد في مقدمة كتاب اللغة لفندريس عن أهمية اللغة للحضارة الإنسانية حيث يقول : "اليد واللغة فيهما تنحصر البشرية...".
هذه قواعد نظرية عامة ترسم لنا أبعاد التعلق باللغة العربية ووجوب ذلك، وهي نظرية ليست خيالية بمقدار ما هي حقيقة إنسانية تحرص عليها كل أمة ترغب في الحياة المستقلة، بل إنها تعتبر الحرص على اللغة هو حرصها على هويتها وشخصيتها التي تميزها بين الأمم.
غير أن الأهم يكمن في الجوانب العملية لتحويل هذه النظرية إلى واقع عملي ملموس في حياة الفرد والأسرة والحياة بكل جوانبها المعاشة. ولعل السبيل إلى ذلك يكمن في التخطيط اللغوي العلمي لتوظيف اللغة في الحياة بعامة. ومسألة توظيف اللغة في حياة الأمة مسألة تبدأ بالانتماء الصادق والغيرة على الذات وتنتهي إلى الاستخدام الذكي الذي يحقق التنمية والإصلاح وسن القوانين الحافظة لهذه المسيرة. وفي رأينا أن التخطيط اللغوي لا مناص من أن يدور مع البيئات التي يتربى فيها أبناؤنا الذين سيحملون مشعل التنوير اللغوي في المستقبل، ونختار من هذه البيئات بيئتين هما : البيت والمدرسة.
أما البيت فهو المحضن الأول والطبيعي للتربية اللغوية وفيه يكتسب الولد مشاعر الاعتزاز اللغوي، أو عكس هذا الاعتزاز، وهذه قاعدة مهمة جدا للبناء عليها في المستقبل، وفي هذا المحضن كذلك يكتسب الولد لغته الصحيحة أو لغته غير الصحيحة. لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المحضن للتنمية اللغوية، واكتساب اللغة الأم، بل عند التفكير في أي نهضة لغوية لا بد من إيلائه عناية خاصة، ولا بد من أن يأخذ حيزا كبيرا في مساحة التخطيط اللغوي في المجتمع والدولة. ويمكنني تخيل أن إهمال هذا الجانب، أي دور البيت العربي وأهميته في الاكتساب اللغوي والتنمية اللغوية الخاصين باللغة العربية، كان أحد الأسباب القوية في ضعف محور المحافظة على لغتنا العربية في العصر الحاضر، لأن الأصل أن يكون هذا شذوذا لا ظاهرة تسيطر على حياتنا المعاصرة، إلى درجة عدم الاكتراث بلغة أبناء البيت الواحد، أو قل الدعوة السافرة إلى اكتساب لغوي غريب بديلا لاكتساب اللغة الوطنية وتنميتها والتخطيط لازدهارها.
وأما المدرسة فهي الراعي الأمين المؤكد على ما رسخه البيت عند الولد من تربية لغوية، والمؤمل من المدرسة دائما أن تكون سابقة لتفكير البيت في ميدان إكساب اللغة للتلاميذ لأنها، كما يقال، البيت الثاني للطفل، وهو بيت يقوي العود ويثبت المفاهيم ويرسم الطريق العلمي واللغوي والخلقي لناشئة المستقبل، إنه المصنع الإنساني الذي يختص بصناعة الأنماط البشرية التي ستدير دفة الحياة المستقبلية للبلد والوطن. وكيف يمكن لمدرسة أن تحقق هذا كله إذا لم يكن لديها عناية قوية بالأداة الأولى للتواصل الإنساني ألا وهي اللغة؟!؟
إن من أغرب الأمور التي نحياها، في هذا الزمان، هذا الصراخ الدائم الذي نجأر به لنذكر الناس بأهمية اللغة العربية لأبناء العربية، وهي قضية بدهية تماما، ومن أوجب واجبات الإنسان العربي، ويجب أن تكون واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. وكما أن الحقيقة لا يكفي أن نتغنى بوجودها، بل علينا أن نسعى للإفادة منها في الحياة، كذلك أمر اللغة فلا يكفي أن نبقى نتغنى بأهميتها وهي تقبع في زنازين الجهل والخيال البارد بل علينا أن نوظف طاقاتها الخلاقة في كل مجالات الحياة الحديثة لنرى وهجنا الحضاري الموروث الذي طالما رأيناه خيالا مسكنا للآلام التي تنهش شبابنا المعاصر عندما يرون إبداعات الآخرين، ونحن لا نتقن إلا الاستهلاك والاستهلاك فقط !؟! نريد أن نرى إبداعنا العصري في لغتنا لكي يبقى الإبداع أسلوب حياة مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إن من العبث الموجع أن نفتح أبواقنا كل فترة من فترات الزمان منادين بأهمية اللغة العربية، وبضرورة أن نحيا في هذه اللغة، وأن تحيا فينا، دون أن نخطو خطوات عملية إبداعية لحياتها وتنميتها. ولقد آن الأوان لهذه الربابة المملة أن تتوقف عن هذا الغناء السمج لنبدأ مشوار عمل وإنتاج يحقق لنا الحياة اللغوية المنتجة والمتجاوزة لكل ألوان العبث القائم على حوارات عبثية لا طائل تحتها.
لقد آن أوان كفكفة الدموع ووقف العويل لأجل اللغة العربية وجاء دور العمل بقوة من أجلها ... نريد أبا يزرع العزة والكرامة في نفوس أبنائه حتى ينجح في توطيد معالم الاعتزاز بالعربية في نفوسهم، حبا وتطبيقا، كما نريد أستاذا فعالا في عمله مع طلبته ليكونوا خير خلف لخير سلف، نريد المقدرة العلمية في العربية، ونريد الخلق الحسن، والسمعة الاجتماعية التي تجعله مهوى لأفئدة الناس الذين وضعوا أولادهم أمانة في عنقه، ليرتقي بهم علما وخلقا وطيب منبت وطيب زوادة. عندئذ فقط يمكننا أن نطمئن وتهدأ نفوسنا لما نتوقعه من مجتمع العربية.
|
|
|