لماذا التجنّي على العربية ومُريديها...؟!؟

أ.د. ياسر الملاح

قرأت مقالة بعنوان :"يوطوبيا التعريبيين في المغرب" لكاتب مغربي لسِن، ولقد فزعت مما أودع هذا الكاتب مقالته من تسرع في الأحكام على العربية وعلى مريديها من أبناء المغرب. وإن ما يدفعني إلى الحديث عن هذا الموضوع، وأنا من فلسطين، وبيننا وبين المغرب مسافات شاسعة، هو أن المغرب يردنا إلى تاريخ عريق موّار بصدق الانتماء نقتطف منه قولة مدوية تُحفّظ لأبنائنا في فلسطين وغيرها، لعقبة بن نافع الفهري، والفهري أسرة مغربية معروفة، عندما وقف على شواطئ الأطلسي، وهو يجاهد في سبيل الله، إذ قال (مع اختلاف في نص الرواية) :" اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يُعبد أحد من دونك... "، أو كما قال. فعقبة تجشم الصعوبات، لا ليحمل معه إلى المغرب عساكر غزاة شهوة في الحكم والسلطان، ولكنه حمل إليه وإلى شعبه حضارة حية تخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولا ريب في أن اللغة العربية كانت أجمل ما في هذه الحضارة لأنها لسان دستورها الخالد، وهو القرآن الكريم، وفي كل مرة حمل فيها المجاهدون هذه اللغة إلى البلدان المفتوحة لم يحصل مرة واحدة أن أجبروا الناس على التعريب، ولم يفرضوا اللغة العربية على الناس، ولكن الناس أقبلوا على تعلم العربية والتعرب لأنهم اختاروا الإسلام، ولغة كتابه اختيارا حرا طوعيا، والمذهل في هذا المجال أن نجد شعوبا كاملة تقبل على التعرب واختيار العربية لغة لها، فلم يمض نصف قرن على دخول الإسلام هذه البلدان حتى لم نجد هناك أي لغة منافسة للعربية. وعليه فإن من حقي أن أفهم من هذه المقالة، عندما أدقق النظر فيها، أنها تمتلئ بألغام العداوة لهذه الحضارة التي كان من فضائلها على كاتبها أن منحته اسما جميلا يحمله.    
ولَعلِّي، قبل الدخول، إلى الحديث عن المقالة أذكر بأمور منها :
1)    اللغة وسيلة، أو آلة للتفاهم، أو أداة من أدوات رياضة الكلام، لا يحق أن توصم بالإعاقة والتخلف، فليس على وجه الأرض وصف صادق يمكن أن توصف به اللغة بالتعويق أو بالتخلف، فالأداة، في حد ذاتها، لا توصف بالتخلف، ولكن الذي يحملها هو من يوصف بالإعاقة أو التخلف. ومن هنا، فإن وصم الناس بالتخلف والإعاقة هو من ألفاظ السوقة الذين لا يزِنون الكلام وزنا مستقيما، وإنما يلقونه على عواهنه، حتى ولو ترك جراحا غائرة في نفوس الآخرين وأبدانهم، وليس هذا من شيم الكتاب المحترفين الذين يتخلقون بأخلاق الفارس النبيل الذي يحجم عن الرذائل حتى في مقاتلة خصمه. وإني لأتساءل: كيف تكون العربية لغة متخلفة ومعاقة، كما يقول الكاتب، وهي تربط الأمة بحبل ثقافي وحضاري منذ جاهليتها حتى أيامنا هذه، وإلى أن تقوم الساعة!؟! ويستطيع، في المجمل، أن يفهم عربي اليوم لغة العصر الجاهلي، أي قبل خمسة عشر قرنا، بوضوح ويسر،    وهي ظاهرة يندر أن نجد لها مثيلا بين لغات البشر، فإنجليزي اليوم لا يمكنه فهم لغته بيسر حتى قبل خمسة قرون. وانظر إلى فندريس في كتابه "اللغـــة" ماذا يقول عن لغات المتوحشين من الناس:"... فالمتوحشون ليسوا بدائيين... فهم يتكلمون أحيانا لغات على درجة من التعقيد لا تقل عما في أكثر لغاتنا تعقيدا، ولكن منهم من يتكلم لغات على درجة من البساطة تحسدهم عليها أكثر لغاتنا بساطة...". إذا كان فندريس العالم اللغوي الفرنسي الذائع الصيت يقول هذا عن لغات المتوحشين، فهل يصح أن يُقال هذا القول الفج عن العربية، وهي من هي تاريخا وقداسة وحضارة ؟!؟!
2)    من طبائع اللغات ونواميسها أن يكون لها مستويان: فصيح وعامي، ومكتوب ومنطوق، ومما درج عليه الناس في الماضي والحاضر ربط الفصيح بالمكتوب، وربط العامي بالمنطوق، وهو ربط غير دقيق لأن الإنسان قد يتدرب على الفصيح المكتوب ليصبح منطوقا، كما يحصل هذا في المواقف الرسمية من تدريس وخطب، وغير ذلك من ألوان استخدام الفصحى، وهذا ليس مستحيلا، فقد رزق بعض الناس قدرة بيانية مدهشة. وقد يدرج الإنسان كذلك على العامي المنطوق، ولا يستطيع، بغير دربة أو علم، نطق الفصيح أو قراءته، لأنه لم يكتسب هذه المهارة المهمة في الحياة الإنسانية، لتخرج المرء من دائرة الأمية إلى دائرة القراءة. وقد يمزج بينهما كما يفعل الأمي في الصلاة إذ يقرأ القرآن، وهو قمة البيان والفصاحة والممثل الأول للغة المكتوبة الفصيحة. والحق أن الفصل التام بين الفصحى والعامية، كما يتصوره بعض الناس، هو غير واقعي وغير صحيح، فمعظمنا يرى ويسمع كيف أن المرء في موقف ما يتكلم العامية، وفي موقف آخر يتكلم الفصحى، ولا ضير في هذا واللسان واحد. وإن من الحق كذلك، إذا وازن أحدنا بين عامية بلد من بلدان العروبة وبين الفصحى، سيجد ألفاظا وتراكيب متطابقة بين العامية والفصحى، وهذا يدل بوضوح على وجود مساحة مشتركة بينهما، وأن العامية والفصحى هما وجهان لعملة واحدة هي العربية بمستوييها. ومن هنا، فإن الذهاب إلى أن العربية ليست اللغة الأم لأي كان، هو كلام غير صحيح علميا، فاللغة العربية هي اللغة الأم لكل العرب الآن، ولكن هذه اللغة الأم تتفاوت بين الناس وفق ثقافة كل منهم، ووفق البيئة اللغوية التي تربى عليها. وحتى اللغة الأم، عند البشر، ليست نسخة كربونية، كما يقولون، لكل فرد، بل تتفاوت من شخص إلى آخر، لأن ابن اللغة يملك القدرة على اختراع كلمات وتعبيرات قد لا تكون واردة أو معروفة عند مختلف أبناء اللغة، كما يذهب إلى هذا السيوطي في كتابه " المزهر في علوم اللغة" (1/250)، ولعل مسألة الترادف تقوم على هذا التصور.    
3)    وما المستنكر في أن تكون العربية لغة خطاب؟ فالعربية لغة خطاب في وضعيات وسياقات كثيرة، كالندوات والمحاضرات ونشرات الأخبار وخطب الجمعة والدروس في المدرسة أو الجامعة وكلمات التأبين والخطب السياسية والقضاء، وغير ذلك من السياقات. ولو أحصينا حجم هذه الاستخدامات لوجدناها كبيرة جدا، ولوجدنا أن فرسان هذه السياقات كلها يتداخلون مع الناس ويؤثرون فيهم، وهذا نفسه يبعد شبح الغربة عن استخدام الفصحى في الخطاب اليومي. ولعل هذا مرتبط بحجم امتداد التعليم، فكلما ضاقت الفجوة بين الفصحى والعامية بالثقافة والتعليم، كانت فرص جعل العربية الفصحى لغة خطاب ذات إمكانية كبرى. وإني لأتساءل ما المستغرب في أن تكون العربية لغة خطاب يومي؟!؟ ألم تكن كذلك يوما ما، قبيل الإسلام، عندما كانت اللهجات مصدر الاحتجاج اللغوي الأول للعربية؟ ولنتجاوز التاريخ قليلا إلى أيامنا هذه، فأنا أعرف أشخاصا، من العرب ومن غير العرب، ألتقي بهم في مختلف سياقات الحياة، فأجدهم لا يتكلمون إلا بالفصحى حتى في أبسط سياقات الحياة، ولا أرى أحدا يستنكر عليهم ذلك، بل إن الناس يظهرون إعجابهم بهم وبلغتهم. وهذا يؤكد لنا أن مسألة التخاطب بالعربية الفصحى مسألة ممكنة، إذا كان وراء هذا الاستخدام إرادة وعزيمة، وحب للعربية الفصحى، وارتباط بالنصوص التي وجدت فيها. ولا بد من النظر إلى الموضوع على أنه خيار فردي، والمرء حر في هذا الاختيار، إذا وجد نجاحا في التواصل بهذه الأداة. ولو لم يكن لهؤلاء الذين ينعتهم الكاتب بالتعريبيين إلا هذه الدعوة التي ستساعد على تضييق الفجوة بين العامية والفصحى، لكان كافيا أن نشكر لهم، ونقدر فضلهم، ونحترم جهودهم في هذا المضمار.
والآن إلى المقالة التي ذكرناها في بداية الحديث.
أول ما يواجهنا في هذه المقالة، هو هذا القطع أو الجزم المطلق، بأن دعوة الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية المتمسكين باللغة العربية، والمتمكنين منها، والمدافعين عنها، والعاشقين لها، أن يستعملوها مشافهة، أي أن ينطقوا بها في معاملاتهم اليومية، وفي جميع المواقف، هي، أي هذه الدعوة، كما يقول الكاتب، "يوطوبيا حقيقية وعدم حقيقي لن يتحقق له الوجود أبدا ومطلقا". وهذا القطع المطلق غير مناسب بتاتا، لأنه غير علمي، كما أنه يدل على جهل بتاريخ اللغات، لأن ما توصل إليه علماء اللغات، أن كل لغة من اللغات المعروفة في العالم، إنما تبدأ بسيادة لهجة من اللهجات التي لها نفوذ سياسي أو اجتماعي على سائر اللهجات، فتصبح اللغة المسيطرة في البلد الذي تمثله. ولذلك، فإن المنطق اللغوي يفترض أن تصبح اللغة الفصيحة هي اللغة السائدة في البلد، إذا ما وجدت الدعم السياسي والمجتمعي نتيجة عوامل كثيرة تقود إلى ذلك، أي أن منطق الكاتب منطق متهافت علميا ولغويا. ونحن مع الدفاع الواعي العلمي المدروس عن العربية، ولا يمكن أن نكون مع السباب والتحقير لدعوات الآخرين، وهم غيورون على لغتهم وتراثهم الحضاري، ويبدو أن الذين يدعون إلى اتخاذ العربية الفصحى لسان الخطاب في الحياة في المغرب ليسوا الوحيدين في العالم العربي، فالدعوة إلى هذا الأمر دعوة معقولة ومطلوبة لتضييق الفجوة بين الفصحى والعامية من ناحية، ولإنتاج جيل جديد يحترم لغته، ويتمسك بها، بدلا من تركه على موائد اللئام هنا وهناك، ليتيهوا لغويا وحضاريا.
ويقول الكاتب في موطن آخر :"إن التعامل مع اللغة العربية كـ "يوطوبيا"... هو ما يسيء إلى هذه اللغة، ويجعلها حقا لغة متخلفة عن العصر والواقع، لأن عصرها وواقعها " يوطوبيان " وغير موجودين، ولا علاقة لهما بالعصر والواقع الحقيقيين والموجودين...". وهذا كلام لا يقول به مسلم صادق وعاقل، لأن اللغة يتوارثها الناس مع الحضارة التي يتوارثونها، ولا يختلف توارث الحضارة عن النسب الذي يمتد إلى أعماق بعيدة من الزمان، ولولا هذه الأعماق لما كان أحدنا، ولا الكاتب نفسه، موجودا، فأين الخيالية في هذا الأمر؟ إنه واقع ممتد حي تتوارث الأجيال هذا الامتداد وهذه الحياة عبر الدهر، وهذا لا يختلف كذلك عن نمو الشجرة، فبعض الأشجار، عندنا في فلسطين، يمتد عمره إلى مئات السنين، بل إلى آلاف السنين، وتبقى شجرة واحدة تتقلب على وجودها الأيام والأعوام وتبقى هي هي!؟! فواقع الحضارة وعصرها هو حياتها، وإن حضارتنا التي ورثناها، وننتمي إليها، هي حياتنا التي نحياها وفق قواعدها التي صبغتنا بصبغة الله، فهل نسمي هذا خيالا؟!؟ وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، فكيف توجد الأمم؟ وكيف تتوارث؟ وكيف تتشكل شخصيتها المتميزة جيلا وراء جيل؟!؟ ولعل هذه القراءة المتأنية تكشف عن علاقة هذا الكاتب بالحضارة التي استعار منها اسمه، فعلاقته بها علاقة خيالية لا واقع لها في قلبه وحياته، ولذلك حكم عليها بما يتلبس به هو في كينونته. أما الذين يحبون هذه الحضارة، ويعشقونها، فإنها تحيا فيهم، ويحيون فيها، قولا وعملا وتطبيقا جيلا وراء جيل، كما تتراكم سنوات العمر داخل المرء، ويضمها جسد واحد، على الرغم من تبدل الأحوال واختلاف ما فيها من أشكال أساليب العيش، لأن الفكرة والمنهج هما المهمان والباقيان.
ثم يقول في مكان آخر متهما اللغة العربية بالتخلف والإعاقة :"... ويجعلها حقا لغة متخلفة عن العصر والواقع"، "... هذه الإعاقة الذاتية التي تعاني منها العربية... أفقدتها القدرة على أن تكون لغة تخاطب وتداول في الحياة اليومية..."، "...وعندما يفرضها التعريبيون كلغة تدريس... تصبح المشكلة الحقيقية لهذا التعليم ... لغة التدريس التي هي العربية... لأن لغة معاقة لا يمكن أن تنتج إلا تفكيرا معاقا... فإذا كان تعليمنا معاقا ولا يعطي إلا تكوينا معاقا، فذلك لأن لغته معاقة...". إن ألفاظا كهذه، في اتهام العربية بالتخلف والإعاقة الذاتية، تنم عن جهل كبير بالعربية، كما أنها تكشف عن انسلاخ عن هذه الحضارة، وعن حقد دفين عليها وعلى لغتها. وخلاصة الأمر نحن من حقنا أن ندافع عن لغتنا وحضارتنا، وأن نسفه من يسفه لغتنا وحضارتنا، لأن هذه المقالة ومثيلاتها قد جرحت بعمق مشاعر الملايين الغيورين من العرب والمسلمين، فهم غيورون على قرآنهم ولغتهم التي هي لسان هذا القرآن كلام رب العالمين، وهل يصطفي رب العالمين لكلامه الكريم لسانا معوقا ومتخلفا كما وصف الكاتب اللغة العربية؟!؟! ومن المؤسف كذلك أن تسيء هذه المقالة إلى الأمم المتحدة التي خصصت يوما عالميا للاحتفاء بهذه اللغة الشريفة إجلالا وتقديرا لعظمة هذه اللغة. ومهما يكن من أمر، فإن الاعتقاد بهذه التفاهات يبقى أمرا شخصيا وخاصا، ولولا أنه بدأ بهذا الهبوط وبإعلانه لما اكترثنا لأقوال كهذه مطلقا، والله المستعان.
ولعل الأدهى، من هذا كله وأمر، أن الكاتب، بينما العالم العربي، ومعه العالم الإسلامي، منشغلان بتأكيد احترام اللغة العربية، وإيجاد السبل لرفع منزلة الفصحى، كعقد المؤتمرات، ومنها انعقاد المؤتمر الدولي للغة العربية في دبي، وغيرها من النشاطات الداعمة لهذا التوجه، يغرد خارج هذا السرب بمدح من يتكلمون العامية حتى في المؤتمرات الداعمة للفصحى، فيقول مادحا من كانوا ينطقون بالعامية في مؤتمر يعنى باللغة الفصحى:"... ويلوم السيد موسى الشامي، رئيس الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية العرب الذين يراعون الواقع ولا ينساقون مثله وراء "اليوطوبيا" على عدم استعمالهم للعربية حتى في الاجتماعات الرسمية. فهو يقول (أي الشامي) :" لاحظنا ونحن حاضرون في الملتقى الدولي للغة العربية الأخير بدبي أن عددا من المتدخلين يتحدثون بالعامية المصرية والسورية، وهم في الوقت ذاته يدافعون عن العربية، فانطلقت حملتنا تحمل المثقفين والمدافعين عن لغة الضاد المسؤولية بأن نبدأ من أنفسنا أولا". فرغم أن هؤلاء العرب هم المعنيون، أكثر من المغاربة، بلغتهم العربية، إلا أنهم يفضلون استعمال لهجاتهم... لأنهم واقعيون وليسوا "يوطوبيين" مثل السيد الشامي... وهذا ما يفسر لماذا يحتل المغرب المراتب المتأخرة في ما يخص التربية والتعليم مقارنة مع دول المشرق العربي، وضمنها فلسطين المحتلة والمحاصرة التي هي متقدمة على المغرب من حيث جودة التعليم والسبب هو أن المغرب يستعمل لغة معاقة كلغة للتدريس ... والنتيجة أن تعليمه معاق ومتخلف". وليعلم الكاتب حقيقة مهمة أن لغة التدريس في المشرق العربي هي العربية الفصحى، وإذا كان يرى تقدم المشرق في التعليم يعود إلى هذه الواقعية التي ذكرها، ويدعو إليها، ويلوم الآخرين على دعوتهم لاتخاذها لغة تدريس، فهو مخطئ تماما، لأن هذا التقدم الذي يلمسه في التعليم إنما مرده إلى سياسة اتخاذ الفصحى لغة تدريس، وأن الإعاقة والتخلف اللذين يتحدث عنهما الكاتب في التعليم بالمغرب، إنما مرده إلى هذه الأصوات الناشزة التي تعوق نجاح برنامج اتخاذ العربية لغة تدريس، وهم يفضلون الفرنسية والإنجليزية على العربية.        
ويخرج الكاتب من هذه الدوامة ليقنعنا بأنه يعشق العربية عشقا لا مثيل له حيث يقول : "... كاتب هذه السطور عاشق للعربية التي يحبها ويقرأها يوميا ويكتب بها من حين لآخر. لكن سأجني عليها وأظلمها وأخون عشقي لها إذا حاولت أن أستعملها في التخاطب الشفوي..."، وإني لأتساءل : أي عشق هذا للعربية؟ وأي عاشق غير سوي ينعت عشيقته بألفاظ نابية كالتي رأيناها قبل قليل، وأقلها التخلف والإعاقة؟ أهكذا يكون العشق والهيام؟ إن هذه النظرية الجديدة من العشق لا تكون إلا في سياقات غير سوية، أو الذين يريدون أن يخدعوا الناس بهذا اللون العجيب من الحب!؟!
ولعل أعجب ما في المقالة الإعجاب بالماضي المغربي عندما كانت لغة التدريس غداة الاستقلال هي الفرنسية، حيث يقول :"... فلولا جنون التعريب لأمكن التعامل مع العربية بناء على طبيعتها وقدراتها الحقيقية وليس "اليوطوبية"، فتدرس كلغة لا يمكن الاستغناء عنها نظرا لوظيفتها الثقافية والتراثية الهامة، لكن مع التدريس بلغة أخرى موجودة في الأصل كلغة أم وتخاطب. وهذا ما كان عليه الأمر غداة الاستقلال، حيث كانت الفرنسية لغة التدريس والعربية لغة تدرس. والنتيجة معروفة : تكوين فكري وعلمي وثقافي جيد للتلميذ، وتمكن جيد كذلك بالعربية التي كانت تدرس كلغة وليس كـ "يوطوبيا" نحلم بها ولكن لا وجود لها في أي مكان...". ونحن نسأل الكاتب : إلى متى ستبقى الفرنسية لغة تدريس في المغرب؟ وهل التدريس بالفرنسية في بلد عربي يشي بالاستقلال؟ إن من أغرب الأمور أن يدعو كاتب إلى التعليم بالفرنسية مما يعني العودة إلى الوراء، ورفض التطوير الصحيح للغة التدريس التي هي الصورة المثلى لتحقيق رمز مهم من رموز الاستقلال الوطني واللغوي والثقافي.
غير أني سأكشف للقارئ الكريم دوافع هذا الشطط في الكتابة على هذا النحو، فهناك معركة حامية الوطيس بين تيارين في المغرب الحبيب : تيار يدعو إلى نصرة العربية، وتيار آخر يرى أن وجود العربية في المغرب لون من ألوان الاستعمار، وللأسف فإن جل من يناصرون هذا القول السفيه هم من أنصار الأمازيغية. وللتأكد من هذا ما عليك إلا أن تطالع المقالات والردود التي تنهال كالمطر على صفحات المجلة الإلكترونية المغربية "هسبريس" لترى بأم عينك حجم هذا الاختصام وفحواه وخطورته. وما عرف هؤلاء وهؤلاء أن هذا الاحتدام يؤثر على وحدة الشعب المغربي، وهو أمر في غاية الخطورة. وإني لأتساءل : متى كانت هناك خصومة بين العربية والأمازيغية اللتين عاشتا معا أدهارا وهما تصارعان معا الغزاة والمحتلين منذ الأندلس حتى وقت قريب؟ إنهما لغتان أختان لشعبين عريقين آن الأوان لتأكيد وحدتهم الوطنية والفكرية على أساس الدين القويم، ولقد كانت هذه حياة الشعوب الإسلامية باستمرار، حيث تقف العربية بجانب أخواتها من لغات الشعوب الأخرى باحترام متبادل. إن التعدد اللغوي أصبح ظاهرة طبيعية في هذا العصر، فلماذا الاقتتال في موضوع محسوم إنسانيا؟ والأغرب من هذا أن المتخاصمين مسلمون يحبون القرآن وعربيته، ولا ندري ما الذي يجنيه الفريقان من إضاعة الوقت في الخصام بدلا من إيجاد صيغة للحب والوئام والبناء في المغرب الذي هو محتاج إلى كل دقيقة عمل للرقي والازدهار؟ وافرض أن هؤلاء الأنصار للعربية نجحوا في جعل العربية لغة خطاب في التعليم، فما الذي يضير الكاتب ومناصريه؟ إنها دعوة جميلة وتصور جميل يرد الأشياء إلى أصولها وعراقتها، كما أنها خطوة في طريق الوصول إلى حالة التطابق بين المنطوق والمكتوب، كما يتمنى الكاتب ويحلم على نحو ما يرى في اللغات الأجنبية، إن كان هذا صحيحا، لأننا نعرف مثلا أن اللغة الإنجليزية التي نقرأها ونكتب بها، هي لغة أهل لندن وضواحيها، ويكاد الإنجليزي الذي يذهب إلى مقاطعة ويلز لا ينجح في التفاهم مع الناس هناك لاختلاف كبير بين اللهجتين. وأخيرا أستعير قول الرسول الكريم، عليه السلام، عندما قال:" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".