المنهج الفكريّ عند الجاحظ
د. نوال بنت سيف البلوشية
لكلّ مفكرٍ، وكاتبٍ منهج في التّفكير، وكيف لا يكون ذلكَ مع صاحب البيان والتّبين، إذ تجلى ذلك المنهج في زاده العلميّ بصورة عامة والأدبيّ على وجه الخصوص، فالطّابع العقليّ المنطقيّ واضح القسمات فيما بحث وتتطرّق. إذ كان يُخضع الأشياء الّتي يتناولها للنّقد، ويجعل الشّكَ طريقًا إلى اليّقين، ولا يقبل في إثبات الحقيقة سوى العيان والخبر الصّادق الّذي يحتكمه العقل، ولا يُسلّم عقله إلا لمسلمات الإسلام من القرآن والسّنّة.
وإذ ما تناول موضوعًا للبحث؛ جمع الآراء المتضاربة كلّها، ليعرض أمام عقله الفكرة، ونقيضها، ويدافع عن كلّ منها دفاعًا يوهمكَ أنّها تلكَ الفكرة الّتي يُناصرها، لكن سرعان ما تجد القوة نفسها في دفاعه عن نقيضها؛ فتراه يكتب في ذم الشّيء ومدحه بالدّرجةِ نفسها من القوةِ؛ ذلك طريقه في تحليل الأشياء بمنهج الشّك واليّقين.
ولا يكتفي الجاحظ بعرض أفكاره بين الشّك واليقين، وإنّما كان ينتقدها، فقد نقد بعض العادات والقيم السّائدة في عصره، وحمّلته نزعتهُ النّقديّة إلى انتقاد بعض المذاهب الفكريّة، إلا إنّه اتسم بالموضوعيّة في نقده؛ ليثبت ما يقبله العقل والمنطق فيما ينقد.
ومع الشّك واليقين والأسلوب النّقديّ، نجد الجدليّة فيما يطرح من موضوعاتٍ ؛ كوسيلةٍ للكشف عن الحقيقة باحتكاك الآراء الّتي تكون دهليزًا إلى اليّقين. وكان الجاحظ في أسلوبه الجدليّ يقدّم أدلة تثبت صحّة الرّأيين المتناقضين؛ بشواهدٍ يستقيها من الشّعر، والقرآن، والسّنّة، وما سُمع عن العرب - السّماع-، وقدّ كان في نظريته الجدليّة لا يكتفي بعرض الأدلّة للرّأيين؛ بلّ يوضحهما على ضوء العقل والمنطق.
وللوصول إلى الحقيقة في طرحه لأبحاثه الطّبيعيّة والاجتماعيّة، لم يكتفي الجاحظ بالأدلّةِ، وإنّما كان يستخدم الاستقراء؛ إذ يتأمل ما يتصل بها، وما ينتج عنها، كي يستنبط أحكامه بصورة شاملة، مدعّمة بالواقعيّة ؛ لذلك نجد الواقعيّة واضحة في المعطيات المحسوسة الّتي كان يتناولها في طرحه.
ومع الاستقراء والجدليّة والشّك واليقين اتّسم منهجه بالشّموليّة؛ والشّموليّة لدى الجاحظ هي الموسوعيّة، والأخذ بمختلف حقول المعرفة؛ لذا نجد في زاده العلميّ؛ أنّه قدّ كتب في مختلف الموضوعات.
نستنتج مما سبق:
* لم يكن هدف الجاحظ من كتبه، نقل المعارف والعلوم فقط، وإنّما كان هدفه الأسمى؛ إيقاظ العقول وفق منهجٍ فكريّ منطقيّ رصين.
المصادر
الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر:
- الحيوان ج١( ١٩٤٥). تحقيق عبد السّلام مُحَمَّد هارون، مكتبة الحلبيّ، القاهرة.
- البيان والتّبين( د: ت). تحقيق عبد السّلام مُحَمَّد هارون.
- رسائل الجاحظ ( ١٩٦٥). تحقيق عبد السّلام مُحَمَّد هارون، مكتبة جزآن، القاهرة.
|
|
|