البيان - 2

د. محمد سعيد حسب النبي

 

يستكمل المنفلوطي في كتابه المختارات ما أورده أحد الكتاب الذين عاصروه في البيان، فطفق يقول: رأيت أكثر الكاتبين في هذا العصر بين اثنين؛ إما رجل يستمد روح كتابته من مطالعة الصحف وما يشاكلها في أساليبها من المؤلفات الحديثة والروايات المترجمة، وربما كان كتاب تلك المخطوطات أحوج إلى الاستمداد من قارئيها، فإذا علقت بنفسه تلك الملكة الصحافية ألقى بها في روع قارئ كتابته أدوَنَ مما أخذها فيدلي بها آخذها كذلك إلى غيره أسمجَ صورة وأكثر تشويهاً. وهكذا حتى لا يبقى فيها من روح العربية إلا كما يبقى من الأطلال البالية بعد كر الغداة ومر العشي. 
والثاني: طالب قُصارى ما يأخذه عن أستاذه نحو اللغة وصرفها وبديعها وبيانها ورسمها وإملاؤها ومفرداتها ومتونها ومؤتلفاتها ومختلفاتها، وأمثال ذلك من آلاتها وأدواتها، أما روحها وجوهرها فإن أكثر أساتذة البيان علماء غير أدباء، وحاجة طالب اللغة إلى أستاذ يُفيض عليه روح اللغة ويوحي له بسرها، ويفضي إليه بلبها وجوهرها أكثر من حاجته إلى أستاذ يعلمه وسائلها وآلاتها.
وأتفق مع الكاتب في أنه لا فرق بين أستاذ الأخلاق وأستاذ البيان، فكما أن طالب الأخلاق لا يستفيده إلا من أستاذ كملت أخلاقه وحسنت آدابه، كذلك طالب البيان لا يستفيده إلا من أستاذ مبين. 
وبعد، فلا يرى لك يا طالب البيان العربي سبيلاً إليه إلا من مزاولة المنشئات العربية منثورها ومنظومها، والوقوف بها وقوف المثبت المتفهم لا وقوف المتنزه المتفرج، فإذا رأيت أنك قد شغفت بها وكلفت بمعاودتها والاختلاف إليها وأن قد لذَّ لك منها ما يلذُّ للعاشق من زورة الطيف في غِرة الظلام؛ فاعلم أنك قد أخذت من البيان بنصيب فامض لشأنك ولا تلو على شيء مما وراءك حتى تبلغ من طلبتك ما تريد.
ولا تحدثنك نفسك أني أحملك على مطالعة المنشئات العربية لأسلوب تسترقه أو تركيب تختلسه، فإني لا أحب أن تكون سارقاً ولا مختلساً. على أنك إن ذهبت إلى ما ظننت أني أذهب إليه في نصيحتك لم يكن درَكك درَكاً، ولا بيانك بياناً، وكان كل ما أفدته من ذلك أن تُخرج للناس من البيان صورة مشوهة لا تَناسب  بين أجزائها، وبردة مرقعة لا تشابه بين ألوانها، وإنما أريد أن تحصل لنفسك ملكة في البيان راسخة تصدر عنها آثارها بصورة واحدة حتى لا يكون شأنك شأن أولئك الذين قد علقت ذاكرتهم بطائفة من منثور العرب ومنظومهم فقنعوا بها وظنوا أنهم قد بلغوا من اللغة ما أرادوا. فإذا جد الجِد وأرادوا أنفسهم على الإفصاح عن شيء من هواجس نفوسهم رجعوا إلى تلك المحفوظات ونبشوا عن دفائنها فإن وجدوا بينها ما يدل على المعنى الذي يريدونه انتزعوه من مكانه انتزاعاً وحشروه في كتابتهم حشراً. وإلا فإما أن يتبذلوا باستعمال التراكيب الساقطة المشنوعة أو يهجروا تلك المعاني إلى أخرى لا علاقة بينها وبين سابقاتها ولاحقاتها. فهم لابد لهم من إحدى السوءتين؛ إما فساد المعاني واضطرابها، أو هجنة التراكيب وبشاعتها.
فاحرص الحرص كله على ألا تكون واحداً منهم، واحذر أن تصدق ما يقولونه في تلمس العذر لأنفسهم عن ذلك من أن اللغة العربية أضيق من أن تتسع لجميع المعاني المستحدثة، وأنهم ما لجؤوا إلى التبذل في التراكيب إلا لاستحالة الترفع فيها، فاللغة العربية أرحب صدراً من أن تضيق بهذه البسائط من المعاني بعد ما وسعت من دقائق العلوم ما لا قبل لغيرها باحتماله وقدرت من هواجس الصدور وأحاديث النفوس وضمائر السرائر الذي عيت به اللغات القادرات.
وليس الشأن في عجز اللغة وضيقها؛ وإنما الشأن في عجز المشتغلين بها عن الاضطراب في أرجائها، والتغلغل في طياتها، واقتناعهم من بحرها بهذه البلة التي لا تثلج صدراً ولا تشفي ألماً.
وكل ما يؤخذ عليها من الذنوب أنها لا تشتمل على إعلام لهذه الهنات المستحدثة وهو في مذهب الكاتب أقل الذنوب جرماً وأضعفها شأناً ما دمنا نعرف وجه الحيلة في علاجه بالاشتقاق إن وجدنا السبيل إليه أو التعريب والوضع إن عجزنا عن الاشتقاق. فالأمر أهون من أن نحار فيه وأصغر من أن نقضي أعمارنا في الوقوف ببابه والأخذ والرد في شأنه والمساجلة والمناظرة في اختيار أقرب الطرق إليه وأجداها عليه.
واعلم أنه لابد لك من حسن الاختيار فيما تريد أن تزاوله من المنشئات العربية، فليس كل متقدم ينفعك، ولا كل متأخر يضرك، ولا أحسبك إلا واقفاً بين يدي هذا الأمر موقف الحيرة والاضطراب، لأن حسن الاختيار طِلبة تتعثر بين يديها الآمال. وتقطع دونها أعناق الرجال، فالجأ في ذلك إلى فطاحل الأدباء الذين تعرف ويعرف الناس لهم ذوقاً سليماً، وقريحة صافية، وملكة في الأدب، كأنها مصفاة الذهب. فإن فعلت وكنت ممن وهبهم الله ذكاء وفطنة وقريحة خصبة لينة صالحة لنماء ما يلقى فيها من البذور الطيبة عدت وبين جنبيك ملكة في البيان راسخة يتناثر منها منثور الأدب ومنظومه تناثر الورود والأنوار من حديقة الأزهار.