الأدب وتطور اللغة - 1

د. محمد سعيد حسب النبي
 
 
من المعلوم أن تطور اللغة يتوقف على عدد من العوامل منها العوامل الأدبية، وأعني بها كل ما تجود به القرائح من وسائل ومنتجات تؤدي إلى حفظ اللغة وتعليمها وتوسيع نطاقها وتكملة نقصها وتهذيبها من نواحي المفردات والقواعد والأساليب، وتسجيل آثارها واستخدامها في مختلف فروع الترجمة والتأليف.
ولما كانت هذه المنتجات الأدبية تساير حضارة الأمة، وتترسم نهضة المجتمع، وتتأثر بجميع ما يطرأ على الحياة الاجتماعية من تطور، وتترجم عن عقلية الجماعة ونظمها ومطامحها، ونظرها إلى الحياة وفهمها لحقائق الكون، ومبلغ تقدمها في ميادين العلوم والفنون، وما وصلت إليه في سلم الارتقاء، لذلك كانت الدعائم التي يعتمد عليها التطور اللغوي الناشئ عن ظواهر اجتماعية تدعو إليه مقتضيات العمران، وكلاهما تنعكس فيه ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية العامة، ويتمثل في بعض مقومات المجتمع واتجاهاته وما يكتنفه من شؤون.
ويرى علي عبد الواحد وافي في كتابه اللغة والمجتمع أن الفرق فيما بينهما يرجع إلى أمور ظاهرية أكثر منها حقيقية، ولا يكاد يعدو الناحيتين الآتيتين:
1-أن آثار الأمور الأدبية تتجه أولاً وبالتحديد إلى لغة الكتابة؛ بينما تتجه الظواهر الاجتماعية في صورة مباشرة إلى لغة المحادثة. وليس هذا إلا مجرد فارق سطحي؛ لأن كل تطور يصيب إحدى اللغتين (لغة الكتابة أو لغة المحادثة) يتردد صداه في اللغة الأخرى، فآثار العوامل الأدبية التي نحن بصددها –وإن اتجهت أولاً إلى لغة الكتابة- لا تلبث أن تظهر في لغة المحادثة؛ وآثار العوامل الاجتماعية وإن اتجهت مباشرة إلى المحادثة تمتد لا محالة إلى لغة الكتابة.
2- أن العوامل الأدبية تبدو في صورة أمور مقصودة تسيرها الإرادة الإنسانية، على حين أن الطوائف الاجتماعية تتمثل مظاهرها في أمور غير مقصودة، تحدث من تلقاء نفسها، وتبدو آثارها في صورة جبرية لا اختيار للإنسان فيها، ولا يد له على وقفها أو تغيير ما تؤدي إليه.
وهذا الفارق في رأي علي عبد الواحد وافي فارق ظاهري أيضاً أكثر منه حقيقي، لأن هذه الطوائف من العوامل على ما يبدو في بعضها من قصد واختيار، وفي بعضها الآخر من تلقائية وإجبار، تسير جميعاً في حقيقة الأمر، وفقاً للقوانين التي تسير عليها الحياة الاجتماعية؛ وتتجه جميعاً في السبيل التي يسلكها المجتمع في تطوره العام.
هذا، وللعوامل الأدبية مظاهر كثيرة منها: الرسم، والتجديد في اللغة، والبحوث اللغوية، وحركة التأليف والترجمة، وسوف نعرض بعض هذه المحاور على النحو الآتي:

الرسم:
لم يتح الرسم إلا لعدد قليل من اللغات الإنسانية، أما معظمها فقد اعتمدت حياته على مجرد التناقل الشفوي، فالشرط الأساسي لحياة اللغة هو التكلم بها لا رسمها: فكثيراً ما تعيش اللغة بدون أن يكون لها سند تحريري، ولكنه من المستحيل أن تنشأ لغة أو تبقى بدون أن يكون لها مظهر صوتي.
وعلى الرغم من ذلك فاللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجل عن الحصر؛ فبفضله تضبط اللغة، وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنتشر المعارف، وتنتقل الحقائق عبر الزمان والمكان، وهو قوام اللغات الفصحى ولغات الكتابة ودعامة بقائها، وبفضله كذلك أمكننا الوقوف على كثير من اللغات الفصحى ولغات الكتابة كالسنسكريتية والمصرية القديمة والإغريقية واللاتينية والقوطية، فلولا ما وصلنا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا منها شيئاً ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي.