الأدب وتطور اللغة - 2

د. محمد سعيد حسب النبي


نستكمل هنا ما ناقشناه في المقال الماضي حول الرسم وأساليبه، حيث يشير علي عبد الواحد وافي في كتابه اللغة والمجتمع إلى أن أساليب الرسم التي استخدمت في مختلف اللغات ترجع إلى أسلوبين اثنين:

أحدهما- أسلوب الرسم المعنوي:
وهو الذي يضع لكل معنى صورة خطية خاصة، وقد استخدم هذا الأسلوب في لغات كثيرة منها الصينية والمصرية القديمة. ولا يعلم وافي على وجه اليقين أول أمة استخدمته؛ ولكن يظهر من شواهد كثيرة أنه أقدم أساليب الرسم الإنساني. وترجع الصور الخطية التي تستخدم في هذا الأسلوب إلى نوعين، فأحياناً تكون صوراً حقيقية للأشياء التي يراد التعبير عنها أو لأجزاء من هذه الأشياء؛ كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشمس بدائرة في وسطها نقطة، وإلى القمر بقوس في وسطه نتوء، وإلى الزنبق بثلاث فروع من شجرته في طرف كل منها ثلاث زنبقات، وإلى الصقر بصورته واقفاً.. وهلم جرا. 
وأحياناً تكون مجرد رموز مصطلح عليها للتعبير عن الأشياء والمعاني، كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشهر بصورة هلال في وسطه نجمة، وإلى اليوم بدائرة في وسطها نقطة، وكما يشير الرسم الصيني لمعنى "الإنسانية" بخطين يتكون منهما شكل يشبه رقم (^).
ولهذا الأسلوب من الرسم عيوب كثيرة، فهو أسلوب بطيء يقتضي الكاتب إسرافاً كبيراً في الوقت والمجهود، ولكثرة صوره ورموزه تبعاً لكثرة المعاني والأشياء، يقتضي تعلمه وتعليمه جهوداً شاقة وزمناً طويلاً، ولذلك يقضي كثير من الصينيين زهرة شبابهم في المدارس بدون أن يتموا تعلم الرسم الصيني، وهو لا يقوى على تأدية وظيفته إلا في صورة ناقصة مبتورة، إذ من المستحيل، مهما كثرت صوره وتعددت رموزه، أن ينتظم جميع ما يخطر بالذهن الإنساني من معان وأفكار وجميع ما ينطق به اللسان من ألفاظ وعبارات. هذا إلى أنه بمقتضاه لا يوجد للمعنى الواحد أكثر من صورة واحدة، مع أنه في معظم اللغات الإنسانية، كثيراً ما يوجد للمعنى الواحد عدة ألفاظ مترادفة، فاستخدامه في حالات كهذه يوقع في اللبس ويؤدي إلى الاضطراب.
ثانيهما- أسلوب الرسم الصوتي:
وهو الذي يضع لكل صوت صورة خاصة، وقد استخدم هذا الأسلوب من الرسم في كثير من اللغات القديمة، ويستخدم الآن في معظم الشعوب المتمدينة. وترجع الصور الخطية التي استخدمت في هذا الرسم إلى طائفتين: إحداهما الصور المقطعية، وهي التي ترمز إلى مقاطع كاملة، ويشير وافي في كتابه إلى عدد من النماذج المهمة في هذا السياق منها: يرمز في الهيروغليفي بشكل الشفتين إلى مقطع "را" وفي المسماري بصورة اليد إلى مقطع "سو" والأخرى الصور الهجائية وهي التي ترمز إلى أصوات ساكنة كما يرمز في الرسم العربي بهذا الحرف "ل" إلى صوت اللام مجردة من جميع الحركات. ويظهر أن قدماء المصريين كانوا أول من استخدم هذا الأسلوب بنوعيه (المقطعي والهجائي) منذ أكثر من ثلاثين قرناً قبل الميلاد. فمن بين صور الخط الهيروغليفي ما يرمز إلى مقاطع صوتية (صورة الشفتين مثلاً التي تعبر عن مقطع "را") بل ومن بينها ما يرمز إلى مجرد أصوات ساكنة (صورة الشفتين مثلاً التي أصبحت ترمز فيما بعد إلى صوت الراء الساكنة غير المتبوعة بأية حركة، كما هو شأن الراء في الحروف الهجائية العربية). غير أن قدماء المصريين لم يستخدموا هذا الأسلوب وحده، بل مزجوا بالأسلوب الأول. فالرسم الهيروغليفي خليط من الرسم الصوتي والرسم المعنوي، يستخدم بجانب الصور المقطعية والهجائية صوراً حقيقية ورمزية.
ومن الراجح أن الفينقيين هم أول من استخدم الأسلوب الهجائي وحده، وقد اضطرهم إلى ذلك نشاطهم التجاري وكثرة تنقلهم وتعدد علاقاتهم بمختلف الشعوب، فقد كانت هذه الشؤون تقتضيهم في جميع أعمالهم السرعة في الحركة، والاقتصاد في المجهود، وتحري وجوه الدقة. والأسلوب الهجائي هو أسرع أساليب الرسم، وأيسرها، وأدناها إلى الكمال. وليس من شك في أنهم قد حاكوا في أسلوبهم هذا ما كان يشتمل عليه الخط الهيروغليفي من صور هجائية. على أنه قد ثبت أنهم أخذوا أخذاً عن هذا الخط نحو ثلاثة عشر حرفاً من حروفهم.
وقد انتشرت حروف الهجاء الفينيقية في معظم أنحاء العالم القديم واستخدمها كثير من شعوبه؛ ومنها تفرغت بشكل مباشر أو غير مباشر جميع حروف الهجاء التي استخدمت فيما بعد في مختلف اللغات الإنسانية. ويمكن أن أحيل القارئ إلى تفاصيل ذلك في كتاب اللغة والمجتمع لعلي عبد الواحد وافي.