معايير بلاغة اللغة

د. خالد إبراهيم المحجوبي




من أوهام العوام ، أن معيار قوة وأصالة اللغة احتواؤها كثيراً من المحسنات البديعية ، وغزيراً من الكلمات غريبة المعنى ، قليلة الاستعمال ، من التي لا يعلم معانيها إلا من أدمن مطالعة المعاجم .

إن هذا مما لا يصلح معياراً للتفضيل ، ولا قسطاساً للتحسين. بل قد يكون دالاً إلى ضعف لغة صاحبها ، وهوان بنائها؛ لأن بعض الكاتبين يحاولون التعْمية باستعمال المحسنات المتكلفة، والألفاظ المعجمية المستغلقة ؛ كيما يُغطوا ضعفا يتمتعون به في مستواهم التفكيري ، أو التعبيري .

إن اللغة المتينة ، والبليغة لا تتحقق إلا عند توفر أشرُطٍ معينة محددة ، سواء في الكلمة المفردة ، أو في الجملة المركبة المسبوكة ، أو في الكلام المجموع المنظوم .

لم يتركوا أهلُ البلاغة الأمر هملاً ، حيث اهتموا ببيان ما يجب لتحقيق بلاغة الكلام ، وفصاحة الكلمة،وبراعةالنظم .(6)

لقد تقرر لدى البلاغيين أن الكلمة لا تكون فصيحة إلا بتوفر شروط أهمها:

1- أن تخلو من تنافر الحروف ، بمعنى عدم انطوائها على حروف متباعدة مخارجُها على نحو يظهرها متنافرة غير متناسقة صوتياً، صادمة للذوق السليم . من الأمثلة الشهيرة لهذا كلمات: الهعخع- مستشزرات . مع التسليم بأنه ليس كل كلمة احتوت حروفا متباعدة المخارج هي متنافرة ومرذولة ؛ لوجود كلمات مقبولة سلسة من ذلك : الجيش- علم - ملح – الشبع.

2- أن لا تكون الكلمة مهجورة غير مستعملة على الصعيد العملي ، كأن تكون كلمة أميتت وترك استعمالها عند فئات العرب الفصحاء . وهي التي يسميها البلاغيون الكلمات الوحشية. من ذلك كلمات : تكأكأ – جحلنجح- ارنخش-المثعنجر.

إذًا من المعيب أن تحتضن اللغة ما توحَّش من الكلام الموجه إلى قوم لا يأنسونه ، وهذا خلاف الحال الذي يكون فيه المخاطبون مستألِفين نحو تلك الكلمات والتعابير ، كأن يكونوا من أهل البادية المنقطعين عن تعابير الحضر .من هنا نجد الجاحظ يقول ((لاينبغي أن يكون [اللفظ] غريباً وحشياً ، إلا أن يكون المتكلم بدوياً أعرابيا ؛ فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي))(7)

هنا يجب أن أنبّه إلى أن بعض الناس يتوهمون أن الكلمات التي ترك أكثر الكتاب المعاصرين استعمالها ،داخلة في هذا الوصف وأنها مهجورة. الواقع أن هجرها من طرف هؤلاء كان من باب الجهل لا من باب العلم ؛ لذا فتركهم إياها لا يخرجها عن شرعية الاستعمال الذي لا يضره جهل الجاهلين .

إن من العقوق اللغوي تركنا استعمال التعابير الفصيحة التي أعرض عن استعمالها أكثر الكتاب المعاصرين المقصّرين؛ لأن في تركها إنقاصاً من الرصيد اللغوي العربي ، هذا الرصيد الذي لسنا في غنية عنه بل نحن في حاجة إليه إلى درجة الافتقار . كما أن الوفاء للغة يقتضي إغناء رصيدها بكميات محدثة مجدّدة من الكلمات والتعابير الواجب على المختصين ابتداعها على أصول سليمة ، ومرجعيات قويمة، بهدي من سنن العربية الفصحى وتقنياتها التجديدية ، التي منها -مثلاً- : النحت ، والتركيب المزجي ، فضلاً عن فتح باب القياس على السماع.

الكلام البليغ:

الكلام لا يكون بليغاً قويماً إلا بالتحافه على صفات أهمها:

1 - أن يكون موجزاً بريئاً عن الإطناب غير النافع. ومعيار كونه إطناباً غير نافع هو إمكانية الاستغناء عنه من غير أن يطرأ خلل إفاديٍ يؤثر في تمامية المعنى المراد إيصاله للمتلقي . لذلك لا يسوغ تحديد معنى الإطناب بكونه مطلق الزيادة الكلمية الكمية، وعموم التوسع في التعبير ؛ فمن المواضيع ما يقتضي استطرادات ،وتوسعات ، وتفرعات مطولة لا تضمن الفائدة إلا باجتراحها ،وتسطيرها كاملة، بحيث يقع الكاتب -لو تركها- في عيب الاختصار المخل .

2- أن يخلو من غموض المعنى: كثيرا ما يغمض المعنى أو يغيب تبعاً لسوء استعمال الكلمات المعبَّر بها ، أو سوء توظيف التراكيب والعوامل اللفظية، أو عدم إتقان السبك اللفظي المنظوم الذي له عيوب غزيرة ، من أشهرها : تتابع الإضافات ، وإطالة الفصل بين فعل الشرط وجوابه ، و بين العامل ومعموله .

وفي أحايين كثيرة يصل المعنى إلى الضدّ مما أريد له أن يصل . فإذا تحقق هذا العيب في نص ما كان أبعد ما يكون عن صفة البلاغة، بل قد يفقد شرعية كونه كلاماً أصلاً.

إن من المعايب أن يحترف الإنسان الكتابة حال َ تجرده عن صفة الإتقان اللغوي ،والمـُكْنة البلاغية . وقد استقل أكثر الكاتبين المعاصرين واستهانوا باللغةالفصيحة، فضلاً عن الفصحى ؛ فصار -عندهم- الانشغال بها ترفاً ، وتكلّفاً ؛ فأعرضوا عنها مُصاعرين خدودهم ، ولسان حالهم يقول:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع

بل إن من هؤلاء من صار يستنقص اللغة (الكتابة) البليغة العالية ، ويتهم أهلها بالتقعّر، والتكلف ؛ كل هذا في محاولة لستر ما يمور في دواخلهم من نقص بلاغي ،وفقر لغوي . هذا النقص والفقر ذهب ببعضهم إلى اتهام اللغة العربية نفسها بالفقر والعجز عن مجاراة التطور ،والمعاصرة البيانية التعبيرية.

كثيرون ملكوا مواهب ، ووُهبوا ملكات بديعة في مجالات التفكير ،والتعبير ،وإبداع المعاني والصور . لكنهم فقدوا إمكانيات الإتقان اللغوي الأصيل ؛ لذلك جاءت كتاباتهم باهتة شوهاء ، كئيبة عرجاء ، غير مفصحة عن واقع مواهب كاتبيها، ولا حقيقة عقول صانعيها ، وقد كانوا في غنية عن كل هذا إن هم سخّروا من أوقاتهم ، وبذلوا من جهودهم قدراً مناسباً ولائقاً في مضمار الإلمام باللغة وأوضاعها، والبلاغة وإبداعها.

طريق الكاتب البليغ:

ليس من الممتنع تكوين كاتب بليغ اللغة ، فصيح الكلام ، فهذا أمر متاح بشرط الإتيان بأمور أهمها :

1- الاهتمام الجدي المتّصل بمطالعة المعاجم اللغوية الموضوعة لبيان معنى الكلام العربي الأصيل في أوضاعه الأصلية ،وجذوره وتصاريفه ، وبخاصة المعاجم الأصيلة كمعجم العين المنسوب للفراهيدي. ومعجم جمهرة اللغة لابن دريد ، والصحاح للجوهري.ولسان العرب لابن منظور .

2- إدمان مطالعة وتلاوة النصوص والمكتوبات العربية القديمة، التي كتبت في عصور سلامة اللغة ، وقبل استعجامها ، وبخاصة النصوص التي اعتمدت أساساً للاستشهاد النحوي والصرفي ، وعلى رأسها القرآن المجيد ، والمرويات الحديثية ، وأشعار الجاهليين، وغيرهم من المسلمين المحتج بأشعارهم. وكذا كتابات المشتهرين بالبلاغة والفصاحة والبراءة عن العجمة واللحون ، أمثال عبد الحميد الكاتب 132هـ،والجاحظ255هـ، وأبي حيان التوحيدي414هـ. فإن في مطالعة كتاباتهم من المتعة الشيء الوفير ، ومن المنفعة الجزل الغزير.

وقد كان الجاحظ فوق صوابٍ حين قال : ((ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع ، ولا آنق ولا ألذ في الأسماع ، ولا أشدُّ اتصالاً بالعقول السليمة...ولا أجود تقويماً للبيان من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء ،والعلماء البلغاء ))(8)

3- الاهتمام بالكتابات الحديثة –في كل المجالات والتخصصات-لمن اشتهر بالاستقامة اللغوية ،والبراعة البلاغية ، من أضراب مصطفى الرافعي ، ومحمود شاكر في اللغة والأدب ، ومحمد الغزالي في الدين ، والجواهري في الشعر، وشبلي شميل في الاجتماع والطب ، وزكي نجيب محمود في الفلسفة.

4- العمل على استثمار أعمال المبدعين المعاصرين من الأدباء والشعراء ، لا على المستوى المعجمي اللغوي ، إنما على مستوى التقنيات التعبيرية ، والتصرّفات الإبداعية في الصور والأخيلة. واعتصار اللغة التقليدية ، وتفعيلها بتوليد تراكيب مبدعة، وتصاوير طارفة .

إن اجتماع هاته الأربعةِ النقاط كفيل بخلق كاتب محقق لبلاغة اللغة ، ولغة البلاغة. بريء من العي ّ، ِوالتكلف ، والهجنة ، والرطانة ، بعيدٍ عن التشدق والتفيهق.