مقدمة في عيوب الكلام في تراث العرب

أ.د. محمد رفعت زنجير


    مقدمــــــــة


تحتل اللغة في كل أمة موضعا في غاية الأهمية، فهي أحد أهم العوامل التي تشكل هوية الأمم، فيقال الأمة العربية والتركية والفارسية ونحو ذلك مما هو نسبة إلى اللغة بالدرجة الأولى، وأما الدين فهو الأكثر أهمية من حيث التشريع وتكوين هوية المجتمع الأيديولوجية وفلسفته واتجاهاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بيد أن الأديان عموما على أهميتها غالبا ما تكون عالمية متجهة إلى الإنسانية قاطبة، متجاوزة لنطاق أمة بعينها أو شعب بعينه، فهي تشكل قواسم مشتركة وفلسفة موحدة للحياة بين منظومة الأمم والشعوب التي تنتمي إليها، وأما اللغة فهي تشكل الهوية القومية لكل أمة، مما يثري الثقافات والتعددية في الرؤى بين أبناء الدين الواحد، ويعطي حدا كبيرا من التنوع في الفكر والآداب والفنون لكل أمة.
والأمة العربية هي الأكثر حظا بين الأمم لأن لغتها هي لغة الكتاب الخالد المنزل من السماء وهو القرآن الكريم، وهو كتاب معجز ببيانه وأسلوبه في الدرجة الأولى، ناهيك عن إعجازه في تشريعه وإخباره بالغيوب وذكره للحقائق العلمية، ونحو ذلك، مما جعل هذه اللغة لا تنفك عن الدين الحنيف، تنتشر حيثما وجد الدين، فتجاوزت بذلك صفة الإقليمية المحدودة، وصارت لغة عالمية، يعبر بواسطتها العربي والمسلم في أي بقعة من العالم عن ما يريد، وقد شعر المسلمون جميعا بأهمية هذه اللغة، ونهض العرب والأعاجم معا لخدمتها بعد الإسلام، ولقد برع الكثير من الأعاجم في التقعيد لعلوم هذه اللغة النحوية والصرفية والبلاغية إلى جانب إخوانهم العرب، وذلك من أمثال: ابن المقفع (ت 143هـ) سيبويه (ت 180هـ )، وأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 208هـ)، والجاحظ (ت255 هـ)، وابن قتيبة (ت 276هـ) وابن جني (ت 392هـ)، وعبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ)، والزمخشري (ت 537هـ)، والسكاكي (ت 606هـ)، وغيرهم من العباقرة الأفذاذ.
وقد حظيت هذه اللغة العربية الشريفة وآدابها منذ الجاهلية وبعد الإسلام بجهود جبارة لم تحظ بها أي لغة أخرى في زمانها، فتم جمع مادتها المعجمية وتدوينها، وتم تأسيس علم النحو ومدارسه المتعددة: الكوفية والبصرية والشامية والمصرية والأندلسية، وحظيت بقية علومها بالتدوين والتقعيد كالصرف والعروض، وتم جمع الأدب ودواوينه، ثم جاء دور البلاغة بعد ذلك، فتم تدوين علومها والتقعيد لتلك العلوم، وبهذا اكتمل صرح البناء اللغوي العظيم، وإنه لإنجاز تفخر به هذه الأمة، ولا سيما انه جاء في عصر لم تكن وسائل البحث العلمي فيه ميسرة ولا منشرة، ولكن الإرادة الصلبة لدى أولئك الأفذاذ من العلماء سيرت أمامهم الجبال.
ومما عني به السابقون: صفاء هذه اللغة، ونفي الغش والزغل عن مفرداتها، فهي لآلئ لا ينبغي أن تختلط بالحصا والتراب، يقول أبو العلاء المعري في هذا السياق: 
ومن الناس من لفظه لؤلؤ يبادره اللقط إذ يلــفظ
وبعضهم قولــه كالحصى يقال فيلغى ولا يحفظ
كما تم نفي الهجنة والعيوب عن أساليبها وتراكيبها، وأنجزت في ذلك دراسات متعمقة لأئمة اللغة والنحو والبيان، فكان هذا من أعظم الإنجازات في تاريخنا، لأن اللغة هي الوعاء الحضاري لفكر الأمة ونتاجها العلمي والأدبي.

أهمية البحث
إن اللغة هي هوية الأمة الحضارية، والتمسك بها والسعي إلى إحيائها وتطوير الدراسات حولها دعامة من أولى دعائم النجاح الحضاري لكل أمة تسعى أن يكون لها مستقبل مشرق في الغد القريب، وإذا أردنا معالجة العيوب التي تقع في استخدام اللغة وتعليمها نجدها تتعلق بأمرين:
الأول: النص الذي ينبغي أن يكون سهلا وميسرا.
ثانيا: المتكلم الذي ينبغي أن يكون متلافيا لأخطاء النطق، سواء كانت تلك الأخطاء خَلقية أو مكتسبة.
وقد تكلم سلفنا حول هذين الأمرين، ونحن نريد أن نقدم إضاءة حول جهودهم، لأن العلم حلقات متواصلة، وما حصل من تقدم في علم اللغات الإنسانية في عالمنا اليوم إنما كان مبنيا على جهود من قبلنا، ولعلنا بالاطلاع على جهودهم نستطيع أن نستفيد منها في معالجة العيوب في النطق واللغة والتأليف والبيان، فقد كان القوم أولي خبرة، ونأمل أن نستفيد من خبرتهم من ما قالوه في هذا الصدد، وأن نثمن ما قدموه لنا من معرفة في الميادين العلمية المختلفة، النظرية والتطبيقية منها على حد سواء.
 
حدود البحث
يأتي هذا البحث لمعرفة السياق العام لجهود علمائنا القدامى في معرفة العيوب التي تعتري الكلام والمتكلم حتى القرن الثامن الهجري، لأن اجتناب العيوب هو أساس العملية التعليمية السليمة، وقد عني بها العلماء، إلى أن استقرت وتبلورت على يد السكاكي (ت 606 هـ) ومن بعده على يد الخطيب القزويني (ت 739 هـ) (ت743 هـ) في كتابيه التلخيص، والإيضاح في علوم البلاغة والذي شرح فيه كتاب التلخيص.

خطة البحث
قبل أن نبدأ بذكر خطة البحث نود أن نذكر لمحة حول الفصاحة والبلاغة لأن هذا سيكون مدخلنا إلى الخطة.
الفصاحة عند العلماء من مقومات البلاغة، فكل بليغ فصيح وليس العكس، وذكر العلماء أن “الفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلم، والبلاغة يوصف بها الأخيران فقط” .
وأما البلاغة في الكلام فهي: "مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته” . 
وهي في المتكلم: "ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ” ، والبلاغة ذات مراتب متعددة“ولها طرفان: أعلى وهو حد الإعجاز وما يقرب منه، وأسفل وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات، وبينهما مراتب كثيرة، وتتبعها وجوه أخر تورث الكلام حسنا” .
ومن هذه التعريفات التي استقر عليها علم الفصاحة والبلاغة عند المتأخرين في مرحلة ما بعد السكاكي، نستطيع أن نحدد أربعة مستويات للبحث في العيوب التي تعتري اللغويات والآداب عموما:
المستوى الأول: البحث في المفردات.
المستوى الثاني: البحث في التراكيب.
المستوى الثالث: البحث في المعاني والأساليب والأغراض العامة للكلام.
المستوى الرابع: البحث في أحوال المتكلم من حيث فصاحته وبلاغته.
وسوف نتناول الحديث عن هذه المستويات من زاوية العيوب التي تعتريها مما ذكره القدماء ضمن مباحث أربعة، ونحاول فيها تتبع الأطر العامة لقوانين القدماء بإيجاز، وسنستهل البحث بمقدمة عن أهمية البيان وما يعتريه من العيوب مأخوذة من ظلال الكتاب والسنة، آملا أن أكون قد عرفت بجهود العلماء في هذا الصدد، وراجيا أن يوفقنا الله جميعا إلى مزيد من الجهود لتذليل طرق تعليم هذه اللغة وتجنب الأخطاء في نطقها وأساليبها المختلفة.

 
تمهيـــــد

البيان من أجل نعم الله على الإنسان، وهو من أهم خصائصه الإنسانية التي تميزه عن غيره من الكائنات الحية، والبيان وإن كان وسيلة للتخاطب والتعبير بين الناس كما هو معلوم، فهو صورة عن العقل الإنساني، وثمرة من ثمراته، وأثر من آثاره.
والبيان ضرورة للأنبياء والمرسلين عليهم السلام، لأنهم يواجهون أقوامهم بالحجة القاطعة والقول الفصل، فلا بد لهم من حسن البيان، بل هم عليهم السلام أئمة البيان في هذا العالم، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) .
ويأتي في مقدمة الأنبياء والمرسلين فصاحة وبلاغة صفوة الخلق محمد عليه السلام الذي اختص من بينهم بجوامع الكلم، حيث قال متحدثا بنعمة الله عليه:  (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض ومسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبييون) . وهو بالإضافة إلى تفضيله على الأنبياء عليهم السلام بجوامع الكلم، فقد فضل أيضا على بني جنسه من العرب ببلاغته وفصاحته حيث قال: (أنا أعربكم، أنا من قريش ولساني لسان بني سعد بن بكر). 
فعملية البيان في البداية والنهاية ضرورة للإنسان حتى يعيش على وجه الأرض، ويتواصل مع بني جنسه، وضرورة للأنبياء والمرسلين حتى يقيموا منهج الله في الأرض، وضرورة لأعداء هذا المنهج أيضا الذين نصبوا أنفسهم لمواجهة الأنبياء والمرسلين بالكلام المنمق أو زخرف القول كما ذكر القرآن الكريم، وفي هذا الصدد يقول الجاحظ (ت 255هـ): "وذكر الله تبارك وتعالى جميل بلائه في تعليم البيان، وعظيم نعمته في تقويم اللسان، فقال: (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان) ، وقال تعالى: (هذا بيان للناس) ، ومدح القرآن بالبيان والإفصاح، وبحسن التفصيل والإيضاح، وبجودة الإفهام وحكمة الإبلاغ، وسماه فرقانا كما سماه قرآنا، وقال: (عربي مبين) …وذكر الله عز وجل لنبيه عليه السلام حال قريش في بلاغة المنطق، ورجاحة الإحلام، وصحة العقول، وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر، ومن بلاغة الألسنة، والَلَّدَد عند الخصومة، فقال تعالى: (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) ، وقال: (وتنذر به قوما لدا) .." 
وهناك أحد الأنبياء من أولي العزم كانت لديه عقدة في لسانه، وهو موسى عليه السلام، وقد تعددت الأقوال في سببها، قيل إنه أصابه في لسانه لثغة، بسبب تبك الجمرة التي وضعها على لسانه، والتي كان فرعون أراد اختبار عقله بها ، وأيا كان السبب فما يعنينا أن تلك العقدة كانت ابتلاء من الله منذ الطفولة الباكرة، وهي تحول بين موسى عليه السلام والقيام بواجبه بالدعوة على الوجه الأكمل، وكان أعداؤه وفي مقدمتهم فرعون يأخذون عليه هذا العيب اللساني، فلم يكن أمام موسى إلا أن يلتجئ إلى الله تعالى في مناجاته له طالبا منه أن يحل تلك العقدة، وأن يساعده بابتعاث أخاه معه إلى الطاغية فرعون لأنه كان أفصح منه لسانا، ويستجيب الخالق الكريم بفضله لدعاء موسى عليه السلام، فيحل عقدة لسانه، ويبعث معه أخاه إلى فرعون طاغية العصور، فيؤديان رسالة ربهما على أكمل وجه وبأحسن بيان، وفي هذا الصدد يقول الجاحظ: "وسأل الله عز وجل موسى بن عمران عليه السلام، حين بعثه إلى فرعون بإبلاغ رسالته، والإبانة عن حجته، والإفصاح عن أدلته، فقال حين ذكر العقدة التي كانت في لسانه، والحُبسة التي كانت في بيانه: (واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي) .
وأنبأنا الله تبارك وتعالى عن تعلق فرعون بكل سبب، واستراحته إلى كل شغب، ونبهنا بذلك على مذهب كل جاحد معاند، وكل محتال مكايد، حين خبرنا بقوله: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) . وقال موسى: صلى الله عليه وسلم: (وأخي هارون أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني)  وقال: (ويضيق صدري ولا ينطلق لساني)  . رغبة منه في غاية الإفصاح بالحجة، والمبالغة في وضوح الدلالة، لتكون الأعناق إليه أميل، والعقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع، وإن كان قد يأتي من وراء الحاجة، ويبلغ أفهامهم على بعض المشقة. ولله عز وجل أن يمتحن عباده بما شاء من التخفيف والتثقيل، ويبلو أخبارهم كيف أحب من المحبوب والمكروه، ولكل زمان ضرب من المصلحة، ونوع من المحنة، وشكل من العبادة. ومن الدال على أن الله تعالى حل تلك العقدة، وأطلق ذلك التعقيد والحبسة، قوله: (رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري)  إلى قوله: (قد أوتيت سؤلك يا موسى)  فلم تقع الاستجابة على شيء من دعائه دون شيء لعموم الخبر"  
وفي هذه القصة من العبر الكثير، ويهمنا هنا أن فيها ما يحثنا على ضرورة تحسين الأداء اللغوي لدى أطفالنا وكبارنا، وإذا تعسر ذلك بواسطة الطب الذي أمرنا النبي عليه السلام بالتماسه، فليكن باللجوء إلى الله مسبب الأسباب، وهو على كل شيء قدير.
وفي القرآن توجيهات وآداب كثيرة للبيان والمناقشة والحوار، فمنها ضرورة الكلام بصوت لا يتجاوز آذان السامعين فيؤذيهم، قال تعالى على لسان لقمان عليه السلام: (واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) ، وأمر باجتناب الكلمات الموهمة لأكثر من معنى بقصد التلبيس على المخاطب، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) ، والسبب في الآية أن المؤمنين كانوا يقولون للنبي عليه السلام إذا ألقى عليهم شيئا من العلم راعنا يا رسول الله! أي راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي (راعينا) فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا، اغتنموا الفرصة وخاطبوا به الرسول وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما هو بمعناها وهو انظرنا كما ذكر الزمخشري (ت 537هـ) . 
ويبدو أن اليهود كانوا مولعين بتحريف الكلام وتغييره، فإن من تجرأ على تحريف كلام الله لا يقوم شيء لصده وردعه عن غيه، قال تعالى:(من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) . والتحريف: الإمالة والإزالة "لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه غيره فقد أمالوه عن مواضعه" . واللي: الفتل والتحريف، "أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون (راعنا) موضع (انظرنا) و (غير مسمع) موضع لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا" .
وفي السنة النبوية حديث مفصل عن البيان، وقد مدحه النبي عليه السلام بشكل عام، فقد قال عليه السلام مشيدا بعظمة البيان وتأثيره في النفوس: (إن من البيان لسحرا) ، وقال عليه السلام: (إن من الشعر حكمة) . وقد اتخذ الإسلام الكلمة الموحية المؤثرة أداة لنشر الدعوة، وجعل رسالة الأديب المسلم  الذود عن هذه الدعوة، فعن البراء، قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم قريظة لحسان بن ثابت: (اهج المشركين، فإن جبريل معك) وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لحسان: (أجب عني، اللهم أيده بروح القدس) متفق عليه . 
فالكلمة الجميلة الساحرة المؤثرة أمضى الأسلحة عبر التاريخ، وقد استخدمها الأنبياء والمرسلون، والدعاة والمصلحون، استخدمها هؤلاء جميعا لتحمل أفكارهم وتحقق غاياتهم التي يسعون لها، والكلمة الجميلة في الإسلام تتميز عما هي في الآداب والفنون، فهي بالإضافة إلى جمالها، لا بد أن تكون سامية الهدف، صادقة الإحساس، نبيلة المحتوى، ولقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه رائد الأدب الإسلامي، وعمدة الأدباء المسلمين على مر الدهور، فقد ذاد عن النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلسانه بما هو أمضى من السيوف القاطعة، وأفتك من الرماح والأسنة، وكيف لا يكون كذلك وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالتأييد والتثبيت من جبريل مباشرة عليه الصلاة والسلام؟.
ويرى السهيلي أن الشعر كالنثر في الإباحة، وأن المذموم منه هو ما هجي به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد تحدث عن كراهة رواية أشعار الكفرة، فقال: "لكني لا أعرض لشيء من أشعار الكفرة التي نالوا فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شعر من أسلم وتاب، كضرار وابن الزبعرى، وقد كره كثير من أهل العلم فعل ابن إسحاق في إدخاله الشعر الذي نيل فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الناس من اعتذر عنه، قال: حكاية الكفر ليس بكفر، والشعر كلام، فلا فرق بين أن يروى كلام الكفرة ومحاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وردهم عليه منثورا، وبين أن يروى منظوما، وقد حكى ربنا سبحانه في كتابه العزيز مقالات الأمم لأنبيائها، وما طعنوا به عليهم، فما ذكر من هذا على جهة الحكاية نظما أو نثرا، فإنما يقصد به الاعتبار بما مضى، وتذكر نعمة الله على الهدى، والإنقاذ من العمى، وقد قال عليه [الصلاة و] السلام: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خيرا له من أن يمتلئ شعرا) ، وتأولته عائشة رضي الله عنها في الأشعار التي هجي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكرت قول من حمله على العموم في جميع الشعر، وإذا قلنا بما روي عن عائشة في ذلك، فليس في الحديث إلا عيب امتلاء الجوف منه، وأما رواية اليسير منه على جهة الحكاية، أو الاستشهاد على اللغة، فلم يدخل في النهي، وقد رد أبو عبيد على من تأول الحديث في الشعر الذي هجي به الإسلام، وقال: رواية نصف بيت من ذلك الشعر حرام، فكيف يخص امتلاء الجوف منه بالذم؟ وعائشة أعلم، فإن البيت والبيتين والأبيات من تلك الأشعار على جهة الحكاية بمنزلة الكلام المنثور الذي ذموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فرق، وقول عائشة الذي قدمناه ذكره ابن وهب في جامعه، وعلى القول بالإباحة، فإن النفس تقذر تلك الأشعار، وتبغضها وقائليها في الله، فالإعراض عنها خير من الخوض فيهـا والتتبع لمعانيها"  . 
وهذا الموقف من السهيلي يدل على رؤية نقدية واعية لدور الشعر والنثر في حياة الناس الأدبية، فلا يكره الشعر مطلقا، ولا النثر كذلك، وإنما يكره إذا كان ترويجا للحملة الجاهلية ضد الدعوة الإسلامية، ومع هذا فهو لم يقل بحرمته، لأن ناقل الكفر ليس بكافر.
والآثار التي وردت في ذم البيان كلها لها سبب وتأويل وليست مطلقة، فالبيان إذا أصبح خلبا يقلب الحق باطلا والباطل حقا، أو دريئة للمتكسبين به، أو أداة للتفاصح والتعالي على الناس فهو مرفوض من هذه الجهة، وقد عرض الجاحظ (ت 255هـ) لهذا الأمر فقال: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه، تخللَ الباقرة بلسانها) . وقيل: (لو كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب). قال صاحب البلاغة والخطابة، وأهل البيان وحب التبيين: إنما عاب النبي صلى الله عليه وسلم المتشادقين والثرثارين، والذي يتخلل بلسانه، تخللَ الباقرة بلسانها، والأعرابي المتشادق، وهو الذي يصنع بفكيه وبشدقيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباء أهل المدر، فمن تكلف ذلك منكم فهو أعيبُ، والذم له ألزم… وليس الصمت كله أفضلَ من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضلَ من السكوت كله، بل قد علمنا عامة الكلام أفضل من عامة السكوت" 
ويضيف الجاحظ في سياق آخره رده على من زعم كراهية البيان مطلقا: "وقد زعمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (شعبتان من شعب النفاق: البذاء والبيان، وشعبتان من شعب الإيمان: الحياء والعيّ)  ونحن نعوذ بالله أن يكون القرآن يحث على البيان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على العِيِّ، ونعوذ بالله أن يجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البَذاء والبيان، وإنما وقع النهي على كل شيء جاوز المقدار، ووقع اسم العِيِّ على كل شيء قصَّر عن المقدار، فالعِيُّ مذموم والخطل مذموم، ودين الله تبارك وتعالى بين المقصر والغالي" . ويبين الجاحظ أن النبي إنما عاب المتشدقين بالبيان، يقول: (وعاب [يقصد النبي] الفدَّادين ، والمتزيدين في جهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق، ورُحْب الغلاصم، وهدل الشفاه" .
 
 
المصادر والمراجع


1- أدب الكاتب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ص (14-15). دار المطبوعات العربية، بيروت.
2- أسرار البلاغة، للجرجاني، تحقيق هـ. ريتر، دار المسيرة، الطبعة الثالثة، 1403هـ / 1983م.
3- إعجاز القرآن، للباقلاني (ت 403 هـ)، تحقيق السيد صقر، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة.
4- الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني (ت 739 هـ) (739 هـ)، شرحه د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الخامسة، 1403هـ/1983م.
5- البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي بمصر، الطبعة الرابعة، 1395هـ/1975م.
6- التلخيص، للخطيب القزويني (ت 739 هـ)، شرحه عبد الرحمن البرقوقي، دار الفكر العربي.
7- دلائل الإعجاز، للجرجاني، تحقيق محود شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة.
8- ديوان المعاني، للعسكري، عالم الكتب.
9- الروض الأنف، للسهيلي، دار الفكر، بيروت، 1409هـ / 1989م.
10- سر الفصاحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1402هـ / 1982م. 
11- العمدة في صناعة الشعر ونقده، ابن رشيق القيواني تحقيق د. مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ / 1983م.
12- عيار الشعر، شرح عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1402هـ/1982م.
13- فقه اللغة وسر العربية، للثعالبي، تحقيق خالد فهمي، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1418هـ / 1998م.
14- فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، دار الفكر.
15- القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ / 1987م.
16- قانون البلاغة في نقد النثر والشعر، للبغدادي (ت 517 هـ)، تحقيق د. محسن فياض عجيل، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ/1981م.
17- قصص الأنبياء، لابن كثير، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت،  1413هـ / 1993م.
18- كتاب الحيوان، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1388هـ / 1969م.
19- كتاب الصناعتين، تحقيق د. مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ/1981م.
20- الكشاف، تحقيق مصطفى حسين أحمد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1406هـ /1986م.
21- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، لابن الأثير، تحقيق د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، دار نهضة مصر، القاهرة.
22- مختارات البارودي، مشروع مكتبة الجامعة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1404هـ / 1984م.
23- مرقاة المفاتيح، للقاري، المكتبة الإمدادية، باكستان.
24- المزهر في علوم اللغة وآدابها، للسيوطي، تحقيق محمد أحمد جاد المولى بك، وعلي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1406هـ / 1986م.
25- مشكاة المصابيح، للتبريزي، بتحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الثالثة، 1405هـ/1985م.
26- المعجم الوسيط، الدكتور إبراهيم أنيس وآخرون، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر.
27- الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، للمرزباني تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، القاهرة.
28- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، راجعه محمد علي الضباع، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.
29- نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق كمال مصطفى، الطبعة الأولى، مكتبة الخانجي، القاهرة.
30- الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البيجاوي طبعة عيسى البابي الحلبي.