لذة التضحية

د. محمد سعيد حسب النبي

 تمر على صفحة الزمان عصور خابية، لا تسمع لها صوتاً، ولا تختلج العين من جانبها بقبس، وكأن الفلك قد قذف بها في عتمته الميتة، فهي في لحدها من مهد، ومن مهدها في لحد. وهناك أمم خُلقت وقد بث فيها القدر بصيرة نافذة تهديهم سواء السبيل، كما تبصر الشواهين مسارب الماء وهي تحلق في الفضاء، ومن هذه الأمم النوابغ دولة الإمارات، إنها ذلك النسيج الأممي المتفرد بحق. وأين في التاريخ أمة وثبت إلى الحياة القوية دون أن تهيئ نفسها لأسباب النبوغ الذي تعد التضحية أولى أشراطه.. يجيش بها صدرها إذا ما عصفت أمواج الحياة بها وبمن حولها؛ بعدما يحصحص الحق الذي لا يزيغ، فتبقى كريمة المحتد، كما تهبّ الأرياح على الماء فيتشابه الغمر والضحضاح، حتى إذا استقرت الأمواج ألفينا قاع الضحضاح قريباً، وغور الماء أبعد ما يصل إليه مسراب.

والتضحية من أجل الأوطان أسمى ما يبقى في حياة الشعوب، ورب فتى في هذا العالم يخرج من كنف أبيه، ويمضي على رأسه حائراً لا يجد في الحياة سبيلاً، وقد وضع في كفيه أعراضاً تؤول إلى زوال، أسماها في نفسه المال؛ فما أحراه أن يملأ كفيه بما يوزن به الرجال، فما هي إلا دورة أو دورتان في الحياة حتى تذوب الأعراض ويبقى ما يقدمه الرجال لأوطانهم من تضحيات، لو عرفوا فضلها لبذلوها والشوق رائدهم لها وحافزهم عليها.
ولا مكان للريب في أن هذا الحس كان نقطة انطلاق عارم لشعب الإمارات، حيث أدركنا الطبع الأصيل الذي خُلق منه، وعرفنا الشيء الذي يسوقهم الشوق إلى لقائه؛ إنها التضحية التي يلذّ لها جنود هذا الشعب؛ فمن ظفر بها بعث شوقاً جديداً لآمل فيها وراغب في نيلها؛ فهي تهيج في صدورهم، وتنشغل بها أفئدتهم.
وألم الفراق الذي يخلفه وداع الأحبة شيء أصيل في الطبع الإنساني، وبغيابه تغيب ذاتية الإنسان، والعقل الإنساني لن يستطيع أن يتخيل حياة مبرأة من الآلام، حتى وإن تمناها. وإرضاء أرواح من غاب عنا يكون في أداء واجبنا نحو الوطن، وهكذا أجاب كونفشيوس عندما سئل عن واجبنا نحو الأرواح، فقال بأن نتعلم كيف نؤدي واجبنا تجاه الأحياء.
ولقد ذهب علماء الدين وعلماء النفس وعلماء الحياة يجوسون خلال تلك الحالة التي يؤول إليها الشهيد، ولا يزالون يفعلون، أما الدين فقد حسم الأمر في أن هؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون، والتصور الديني حين يصل الشهيد بالله على هذا النمط الباهر؛ إنما يبعث على سعادة تجبر كسر كل حزين وتسكن ألم كل وجيع.