موازنات بين صور الشاعر السوري خليل مردم وصور غيره من الشعراء - 1

د. أيمن البيلي محمد البيلي

 ما من شاعر أراد لشعره البقاء ، ولأخيلته الثناء والفضل ولمعانيه السبق والاجتياز إلا وقد صقل موهبته بشىء من الاطلاع على معارض الأقدمين والمحدثين من بني فنه،فاقتحم عليهم خلوتهم ، وانغمس في تذوق معانيهم وأبعاد صورهم ، فسار على هدي من أمره ، وشق نهج الشعر من غير ضلال وقد استحكمت فيه بصيرته  المدركة،فأبدع واختلق وابتكر ، فإن جدد أظهر شخصيته ، وإن قلَّد عرف الفضل لأهله .

وإن من الخطأ أن نرى الشعر يلمح بشخصية صاحبه وهو في اللفظ أو المعنى أو الصورة قد امتثل لشاعر آخر ثم لا نعطي لكل ٍ حقه ، ونعيد لأهل الدار مؤونتهم، ولا يعني السبق في ذلك أن يكون الشاعر قديمًا ، ولا يعني التجديد أن يكون الشاعر حديثًا، فلكلٍ سمته في القصيد وأسلوب الشعراء كأسلوب الأدباء ، لكلٍ نهجه ، ولكلٍ وسيلته.
" وللفضل آثار ظاهرة ، وللتقدم شواهد صادقة ، فمتى وُجدت تلك الآثار وشوهدت هذه الشواهد ، فصاحبها فاضلٌ متقدم ، فإن عثر له من بعد على زلةٍ ، ووجدت له بعقب الإحسان هفوة انتحل له عذرٌ صادق ، أو رخصة سائغة ، فإن أعوز قيل :زلة عالم ، وقلَّ من خلا منها ، وأيُّ الرجال المهذب ، ولولا هذه الحكومة ، لبطل التفضيل، ولزال الجرح ولم يكن لقولنا فاضل معنى يوجد أبدًا ، ولم نسم به إذا أردنا حقيقة أحد ، وأى عالم سمعت به ولم يزل ولم يغلط ! أو شاعر انتهى إليك ذكره لم يهف ولم يسقط ! " .( 1 ) 
وشاعرنا قد مر على شعر الأقدمين والمحدثين مرور المحب للزيارة ، فأطال المقام وعرف الجيد من الأجود ، والرديء من الأردأ .

( 1 ) الوساطة بين المتنبي وخصومه– القاضي علي بن عبدالعزيز الجرحاني /ص4.

ونحن إذ بصدد التحليل لبعض صور الشاعروصور غيره لا نتمنى من الله إلا التوفيق والسداد في الحكم والتفضيل ، فكما ليس " من شرط صلة رحمك أن تحيف لها على الحق ، أو تميل في نصرها عن القصد ، فكذلك ليس من حكم مراعاة الأدب أن تعدل لأجله عن الإنصاف،أو تخرج فى بابه إلى الإسراف،بل تتصرف على حكم العدل كيف صرفك ، وتقف على رسمه كيف وقفك ، فتنتصف تارةً وتعتذر أخرى ، وتجعل الإقرار بالحق عليك شاهدًا لك إذا أنكرت ، وتقيم الاستسلام للحجة إذا قامت محتجًا عنك إذا خالفت " ( 1 )  .
وخليل مردم شاعر موهوب بطبعه ، وصقل موهبته بالاطلاع على أشعار السابقين مما سيظهر من خلال الموازنات ، كما أنه عاش في عصر ازدهر فيه الشعر العربي غاية الازدهار ، ولمعت فيه أسماءٌ كان لها من بعض الصور الانفراد ، ولبعض المعاني التميز الواضح ، فكان ذلك مسوغا للخيال الواسع الذي اتصف به شاعرنا ، وآثارًا بينة في مجمل  قصائده ، فالشاعر والأديب ابن بيئته ، كما كان لأدباء الشام وشعرائهم الآثار الواضحة في الارتقاء بموهبة الشاعر ، فحظي بنعمة الموهبة، ومُن عليه بالبيئة النافعة "ولا شك أنك تجد فرقًا واضحًا بين الأدباء العرب الذين عاشوا أول هذا العصر الحديث ، وبين من يعيشون بيننا الآن ، فأولئك ضعفت ثقافتهم ، فكانت  آثارهم لفظية وهؤلاء ظفروا بثقافة قوية متنوعة ، فجمعوا إلى سلامة العبارة  وجدة الموضوعات وثروة المعاني فصار الأدب قيمًا نافعًا " ( 2 ) .
 وقد بارى خليل مردم كثيرًا من الشعراء القدماء والمحدثين ، لعلمه بشعرهم والاطلاع عليه وحبه للعربية مما أتاح له اختيار الأفضل محاولاً في ذلك أن يبين عن شخصية شعرية ليست بالهينة ، وقد وازنت في هذا الفصل بينه وبين جلِّ هؤلاء الشعراء على قدر تذوقي وجهدي بما استقريت من دواوين  شعرهم ، ووازنت أيضًا بين صورٍ له لأدلل على أهم ما يتسم به من شاعرية ونفسية عكست تلك الشاعرية .

( 1 ) المصدر السابق / 2،3 .
( 2 ) الأسلوب- دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية أ/ أحمد الشايب/ 133.
1 - يقول خليل مردم ( 1 ) 
يا رضيع الكأسِ أفديك أخًا
آخت الخمرةُ فيما بيننــا في رضاعِ الكأس قُربي ورحمِ
بلبـانٍ وبـروحٍ وبــدمِ
ينادي شاعرنا على محبوبه متمنيًا افتداءه بكل ما يملك لأن الخمر آخت بينهما فصار هذا المحبوب ذات صلة ورحم بشاعرنا .
والتصوير من الشاعر واضح في تشبيه هذا الحب بالخمر التي تؤاخي وتؤلف بين الأحبة ، وكأنهما قد شربا من نفس الكأس.
ويظهر التشخيص أكثر وأكثر في جعل هذا الكأس سببًا في تلك المؤاخاة الشديدة لأنها بلبانٍ وروحٍ ودمٍ.
وقريب من هذا المعنى قول الحلاَّج :( 2 )
مُزِجت روحُك في روحي كما
فإذا مسَّـك شيءٌ مسَّنــي تُمزجُ الخمرُ بالماءِ الزلال
فإذا أنت أنا في كل حالِ
فشبه امتزاج روحه وروح محبوبه بامتزاج الخمرة بالماء الزلال ووجه الشبه هو شدة الاختلاط واستحالة الانفصال في كل ، وهذا الوجه هو الذي أكده شاعرنا في الشطر الثاني .
وعند التدقيق نجد أن المقصود واحد وهو أن الحبيب لمحبوبه كالشيء الواحد ، وأن إمكانية التفريق بينهما ربما يكون مستحيلاً ، وعند التأمل في العناصر التي ساعدت هذا المعنى على البروز تجد العنصر الرئيس هو ( الخمرة )، والعنصر المساعد هو الفعل (آخت ) عند مردم ، والفعل ( مُزجت ) عند الحلاَّج .
واستعمال مردم للخمرة كان بمثابة القيام والنهوض بالمعنى من مجرد ألفاظ ساكنة إلى أشخاص متحركة ، وقد جاء ذلك من خلال ارتكازه على الاستعارة في الصورة 


(1) ديوان خليل مردم / 31    .    
(2) ديوان الحلاج / 33  .
بجوانبها المختلفة ، فجعل النداء في أول أبياته دليل التشخيص والحركة إذ لا ينادي إلا عاقل ، ثم رافق هذا النداء بالدعاء لمحبوبه ( أفديك أخًا ) فجمع بين الصورة وجلاء حبه الشديد بتمنى فداءه في شطر واحد ، وهذا يحسب له ، فضلاً عن وصف المحبوب بالرضيع ليكون بذلك صورة كنائية تعكس مدى خبرة محبوبه في هذا الشأن ،كما أن المجاز المرسل في قوله : ( الكأس ) وعلاقة المجاورة تنهض بتلك الكناية ، وتقوم بالصورة كلها ، فتبدو محاسنها وتتجلى مفاتنها .
هذا بالنسبة للخمر عند مردم ، أما عند الحلاج فقد جاءت عنده مجرد عنصر من عناصر المشبه به أراد به إجادة الصورة وإصابة الشبه ويكاد يكون معنى أبياته بمجملها لا تترك أثرًا معنويًا ينتمي إلى الشعر بقدر ما ينتمي إلى النثر .
أما بالنسبة للفعلين ( آخت ، مزجت ) فهما لإظهار مدى الآثار المترتبة على تلك الخمرة ، والمؤاخاة أقوى من المزج ، وقد استعملها مردم كحسـن تعليل لقوله: " يا رضيع الكأس "  فأجاد وأبدع ، أما الحلاج فلم يشر إلى ذلك ، مع اشتراك كل منهما في البعد عن التكلف والخلو من الصنعة مع الفارق ، فإن مردم أوجز في المعنى وأضاف لكل لفظ زيادة فيه ،وبكل عبارة صورة نهضت بمراده فكانت عنده " شمائل القول حلوة ، والقدرة على التصرف عاضده، والطبع الذي هو دعامة المنطق متدفقًا ، وموارد الكلام عذبه ، ومصادره رحبه ، خارجة عن الشركة ، سليمة من تكلف الصنعة ،فتلك هي البلاغة ، وهناك انتظام شمل الإبانة "  (1) .
وشبيه بقول الحلاج  قول عمر بن أبى ربيعة: ( 2 )
    كنَّا مثل الخمر كان مزاجُها بالماءِ لا رنقٌ ولا تكديرُ
فسبق ابن أبي ربيعة الحلاج في التشبيه بمزج الخمر إذا خالطها الماء الصافي مع اختلاف الصياغة.

( 1 ) حلية المحاضرة - لابن المظفر الحاتمي/ 13.
( 2 ) ديوان عمر بن أبي ربيعة / 110- دار الكتاب العربى- بيروت – الطبعة الثانية – 1416هـ - 1996م .

وقد أخذ البحتريُّ هذا المعنى من عمر بن أبي ربيعة ، فأحسن وقال: ( 1 )
إني وجدتك من قلبي بمنزلةٍ هي المصافاةُ بين الماء والراحِ
لقد جعل مكانتها في قلبه غايةً في الصفاء والنقاء مع الاختلاط بشغاف قلبه كما الماء والخمر في امتزاجهما ، وهو نفس المعنى الذي أراده الحلاج مع إيجاز البحتري وحسن صياغته ورقة تشبيهه مع قوته ، ودقة التقديم والتأخير ، وانتقاء اللفظ مع العناية بالصورة ، غير أن صورة خليل مردم أباحت بأسرار متعددة وفاضت بالمعاني المتتالية ، فإن زدت في العبارة زدت في المعنى ، وإن زدت في المعنى زادت الصورة جمالاً .
¬
2 - يقول خليل مردم :( 2 )
            تركت من حاجبيها أثرًا مرهفًا والسيفُ إن دقَّ مضى
دقق شاعرنا في العيون فوجد ما أسره منها الحواجب فلمابحث عن السبب رأى انجذابه لتلك العيون كان بسبب دقة حواجبها وبراعة دقتها كالسيف كلما كان حادًا دقيقًا قام بدوره ، ونفذ إلى مصابه ، وأسرع في غرضه ، ويبدو من الشاعر الدقة في التصوير، فهو لا يقصد نفوذ أثر الحواجب حين تأمله في العيون بل يقصد أن هذا الأثر صار بارزًا واضحًا لما مضت صاحبة تلك العيون وتركت هذا الأثر، بدليل الفعل (تركت ) ، وكأنه كلما تخيل حواجبها استجلبته دقة جمالها وحلاوة أسرها ، وقد استعمل جملة ( والسيف إن دقَّ مضى ) ، كجملة معلِّلة مؤكدة أخذها من الواقع لنقف بجانبه ونعذره فيما ألمَّ به جرَّاء تلك الحواجب .
وقريب من هذا المعنى قول إبراهيم الطباطبائي :( 3 )
        وتنكَّبَتْ من حاجبٍ قوسًا لها يرمي سهام الغُنج من تلاَّتها 

( 1 ) ديوان البحتري /ج1/179  . 
( 2 ) ديوان خليل مردم / 32     .     
( 3 ) ديوان إبراهيم الطباطبائى /48 – مطبعة العرفان – العراق – 1332 هـ .
(تنَكَّب ): تنكب القوس أي ألقاها على منكبه ،( نكب ) لسان العرب- (الغُنج):امرأة غَنِجَة : حسنة الدلَّ والغُنجُ ملاحة العينين و الغُنجُ في الجارية تكسر وتدلل، مادة ( غنج ) لسان العرب - (تلاَّتها): تلَّة يتُلُّه تَلاًّ فهو متلُول قرعه وقيل ألقاه على عنقه وخده ،(تلَل) لسان العرب .
إن حواجب تلك المرأة لها من الأثر في القلب ما يشبه إصابة السهام  من القوس هدفها، وكلا الشاعرين أرادا هذا المعنى أوشبيهًا به مع استعمال كل منهما أداةًَ معينة وعناصر محددة لإظهار البراعة في التصوير وحسن الخيال .

فأما مردم فعدته في ذلك المثل في قوله :" والسيف إن دقَّ مضى " والاتكال عليه في تحديد غرضه وبيان ما أراده من معنى، وباقي البيت يتحدث عن أثر الحواجب بعد أن تركته محبوبته ، فالخيال أضيق والتصوير أقل ، مع ما فيه من حسن تصرف مع الأمثال وجذبها من الواقع ،لأثر ألم به وإحساس سيطر عليه ، وقوة الحاجب تظهرمن خلال قوله : " والسيف إن دق مضى " ، وعلى المتلقي أن يفهم الباقي دون عناء أو مشقة .

وأما الطباطبائي فيفاجئك بلوحةٍ خلابة؛ كي تحكم أنت على إحساسه عندما تقف مكانه مجروحًا من هذا الحاجب ، ، فجرد من حاجبها قوسًا، وصار هذا القوس يرمي سهامًا نحوه ليصيبه ، ونسبة السهام إلى ( الغُنج ) هي نسبة حسي إلى معنوي؛ لأن ملاحة وتدلل الحسناء لا يقل إصابةً في القلب قدر إصابة السهم المنطلق من القوس ، وقد أحسن الشاعر الديباجة فحسنت معه الصورة ، وأشعرنا أن العيون هي التي ينطلق منها السهام وليس القوس ، وهو ما لم يكن عندخليل مردم، والجمع بين القوس والسهام فيه مراعاة نظير ، ليعلن الشاعر أنه قد استسلم بتلك الحروب المعلنة من تلك العيون الآسرة ، وهو ما افتقدناه عند خليل مرم ؛ مما يدلل على تفوق الطباطبائى، من حيث الدقة في التخيل وحسن الديباجة والتركيز على الفكرة الرئيسية للبيت مع البراعة في التفصيل، والتحليل مع الإيجاز .
 3  - يقول خليل مردم مظهراً جمال العين التي اكتحلت وتزينت : ( 1 ) 
وعلى أجفانها من كُحْلها ظلمةٌ من بينها النجم أضَا


 ( 1 ) ديوان خليل مردم / 32           .     


فجعل من الكحل على تلك الأجفان ظلمة،لكنها ظلمة مطلوبة ومحبوبة لأنه لولاها ما ظهر ضياء العين ولا نورها، والتي شبهها شاعرنا بالنجم.
وقريب من هذا المعنى قول ابن سناء الملك: ( 1 ) 
         يا للرجال ويا لها من فتنةٍ
        والعينُ مثلُ العين لكن هذه في وضع ذاك النقطِ وسْط النون
كُحِّلت بحسنِ وقاحةٍ ومجــونِ 
يتعجب الشاعر من أمرين :
 الأول: حال الرجال بعد أن شاهدوا جمال تلك العيون .
 الثاني : حال تلك العيون وما تميزت به من جمال فاتن ، وهو بذلك يعذر الرجال لأنه يقف موقفهم ، ثم يظهر السبب وهو دقة وروعة سواد العين وبياضها ، وهو لا ينكر أن هذا تتفق فيه جميع العيون غير أن تلك العيون قد اكتحلت بما يجذب كل الرجال إليها وبطريقة تلفت جميع العيون لها.

وكلا الشاعرين قصدا بيان جمال العيون من بين سواد كحلها ،لكن مردم راعى شرف المعنى في دقة الصورة ، فهو لا يهتم بحال من شاهد تلك العيون المكتحلة بقدر ما يهتم بوصف جمال تلك العيون، إذ لا معنى لذكر الرجال إذا كان الغرض وصف شيء آخر، فجعل بيته يعتمد على تشبيه ضمني يقصد منه تشبيه الأجفان المكتحلة التي تظهر جمال العيون من بينها بظلمة الليل الذي يُظهر جمال النجوم ،وهو هنا يعتمد على المقاربة من الواقع فليس للنجوم نورٌ إلا في الليل ، كذا نور العيون لم يظهر جمالها إلا وسط تلك الأجفان المكتحلة ، فأحببنا الظلمة دون رأي منا ولا اختيار ، وتلك جودة في التعبير وحسن صياغة من الشاعر ، تفوق بها على ابن سناء الملك الذي كان همه فيما يبدو وصف حالةٍ لا تتعلق كليًا بحالة خليل مردم ، حيث ابتعـد عن شرف المعنى الذي جاء نتيجة للخلل في التصوير .
فما فائدة قوله: " والعين مثل العين" ؟ ، وهي إلى النثر أقرب ، ثم أي فتنة لتلك العيون 

(1) ديوان ابن سناء الملك /858 .

إذا اشترك في الإحساس بها جميع الرجال ؟ ، أليس من العيب على الشاعر أن يشرك 
الآخرين في حبه وإحساسه ؟ ، ثم أي وقاحة ومجون يمكن أن تكون لعين آسرة جذابة ، إلا إذا كانت في موطن غير موطنها وظروف مغايرة كليًا للظروف التي كانت فيها عين مردم .

كما أن قوله : " في وضع ذاك النقط وسط النون " كلام إنشائي لا داعي له ، وكان من الممكن أن يأتي ابن سناء بأفضل من هذا لو تجنب لغة النثر وتعبيرات أصحاب الرسائل.
أما مردم فتوجه همه إلى الإبداع فيما يبدو من تمكنه فى التعبير بأبسط تعبير، وإيفائه بالمقصود كل إيفاء .

4 - يقول خليل مردم : ( 1 ) 
للشمس إذ هجَعت أضغاثُ أحلام أما ترى الأفقَ أمسى لوحَ رسامِ
يشبه الشمس حين غروبها وتلوينها للأفق بألوان مختلفة بالمرأة التي ترى في منامها أضغاث أحلام،  ودلل على تلك المرأة بالفعل ( هجعت )، على سبيل الاستعارة المكنية، واستعمال الشاعر هنا لعبارة ( أضغاث أحلام ) قصد منه اختلاف مظهر الشمس حين الغروب عن مظهرها المعتاد بما ينعكس على الأفق بالجمال والخلابة، بدليل الشطر الثاني (  أما ترى الأفقَ أمسى لوحَ رسامِ ) . 
وقد استعمل بعض الشعراء عبارة ( أضغاث أحلام ) لكن بمقاصد متفاوتة مثل لسان الدين بن الخطيب حين قال : (2)
ولا تغـترر يومًا بخـادع زخرفٍ
ولكن نحو نور الحق تعشُو فكلُّ ما فإن وجودَ النور أضغاثُ أحلامِ
سواه فحجب من ظلالٍ وأوهامِ


(1) ديوان خليل مردم /57   .    
(2) ديوان لسان الدين بن الخطيب /125 .

ينصح الشاعر إخوانه بألا يغتروا بزخارف الحياة، مستندًا في مقصوده على قوله تعالى:(وما الحياةُ الدنْيا إلا متاعُ الغرور ) وينصح بالركون دائمًا إلى الحق ؛لأن ما سواه 
وإن أعجب به الناس أوهام وأباطيل .
وقد استعمل مردم عبارة ( أضغاث أحلام ) كعنصر من عناصر الصورة، وهو يريد بها تغير لون الشمس في الأفق ،وكأنها في حال الشروق والضحوة مستيقظة ،وفي حال الغروب نائمة حالمة، لكن أحلامها أضغاث، مما يعني أن تلك الأحلام مزعجة مضطربة غير مرغوب فيها ، وهو هنا يناقض الشطر الثاني حين جعل تلك الأضغاث ريشة ترسم الأفق بألوان زاهية، فصار الأفق معها لوحة مرسومة ، فلم يوفق في استعمال الصورة الملائمة، لأن العرب " إنما تفاضل بين الشعراء ......لمن وصف فأصاب وشبه فقارب ، وبده فأغزر ، ولمن كثرت سوائر أمثاله ، وشوارد أبياته " ( 1 ).

أما ابن الخطيب فاستعمل عبارة ( أضغاث أحلام ) استعمال المدقق المصيب، مع الأخذ عليه تجنبه للصورة مع أن الحال في النصح يقتضى التصوير للإقناع والتأثير، وقوله:"إن وجود النور أضغاث أحلام " تشبيه حذف أداته ووجه الشبه منه بما يستدعى بلاغته، وهو يوضح بهذا التشبيه مراده ونصحه، لأن تجارب الحياة تثبت ضياع الآمال الباطلة والزخارف الفارغة ، وقد أجاد ابن الخطيب حينما استعمل ( أضغاث الأحلام ) مشبها به فى وصف من يغتر بالخداع . 

كما أن قوله :" كل ما سواه فحجب من ظلال وأوهام " تشبيه بليغ آخر يشير فيه إلى أن كل ما عدا نور الحق يشبه الحجب التي تبنى من الأوهام، فلا أساس لها يقويها أو يشد من أزرها، ولولا تلك العبارة المصورة  لقيمة نور الحق لقلنا إن جملة ( فإن وجود النور أضغاث أحلام ) ليس لها مصداقية ،وناقصة الواقعية ؛ لأن من النور نور الحق ،فأجاد ابن الخطيب وتقدم على مردم .
 
(1) الوساطة بين المتنبى وخصومه - للقاضى الجرجانى /33 .