موازنات بين صور الشاعر السوري خليل مردم وصور غيره من الشعراء - 2

د. أيمن البيلي محمد البيلي


5-يقول خليل مردم واصفاً نهر(بردي): ( 1 )
نهـرٌ عرائسُه من عبقــرٍ عزفت
أهــلَّ كالطفل وضاءً مخايلــه
قامتْ حواضنُـه من جانبـِه على
يحبُو وينمــووما ينفكُّ مطَّـردًا
حتى يصير إلى مــلآن من صَلَفٍ لـه ولاحت بأرواحٍ وأشبــاحِ
دلت علـى مائر العطفين طمَّـاحِ
أغرّ أزهـر نضرِ الوجه نضَّــاحِ
بغـرةٍ ذات لألاءٍ وأوضَـــاحِ
صعبُ القياد جهـيرُالصوت رَحْراح

يصف مردم كعادته وصفًا دقيقا لا يحتمل غير التفصيل ، فيجعل للنهر عرائس من وادي الجن ( عَبْقَر ) ، تعزف له ويتراقص من حوله أرواح وأشباح، وهو في ذلك كالطفل لا يظهر منه سوى براءة الفطرة ، وقد رمى بنفسه في أحضانٍ متسعة كثيرة الاتساع ، وشاعرنا يدقق في أدق تفاصيل مياه النهر وأثر ذلك على مظهره العام الجمالي والمعنوي ، فيجعل لمياه النهر حواضن تضمه من جانبيه ، تلك الحواضن النضرة المزهرة والتي ارتوت من تلك المياه .
ولا يغفل خليل مردم أن يصف جريان الماء في النهر من أول خطوة له فيصفها بالحبو إلى أن تتعاظم تلك الخطوات، ويصبح جريان الماء متتابعًا في سيره فرحًا متلألئ الوجه،مزهوًا بنفسه متباهيا بصوته الجهير وانبساطه الخطير .
 
( 1 ) ديوان خليل مردم/60 ،61.(مائر): مار الشيء تحرك والمور: الموج، (مور) لسان العرب .(طماح): يقال رجل طماح بعيد الطرف، والطماح الكبر والفخر لارتفاع صاحبه (طمح) لسان العرب.( النضاح ): الذي ينضـح على البعير، أي يسوق السانية ويسقى نخلاً ،( نضح ) لسان العرب.(يحبو ):حبا الصبي حبوًا مشى على استه وأشرف بصدره ، والحبو أن يمشي على يديه وركبتيه (حبا) لسان العرب - ( مطردا ): المطرد المتتابع في سيره ولا يكبو ( طَرَدَ ) لسان العرب  .( صلف):الصلف مجاوزة القدر في الظرف والبراعة والادعاء فوق ذلك تكبرًا (صلف ) لسان العرب  (رحراح):  واسع منبسط ( رحح) لسان العرب.




ولكن إيليا ابو ماضي يسلك مسلكًا آخر نحو بَرَدى يُحسب له حين يقول: ( 1 ) 
واهبط على بَردى يصفِّق ضاحكًا
روحٌ أطلَّ من السماء عشيــَّةً
وصفا وشفَّ فأوشكتْ ضفاتُـه
بل أدمعٌ حورُ الجنان ذرفنـَـها
بَردى ذكَرتُك للعطَاشى فارتـووا
مرَّت بك الأدهارُ لم تخبثْ ولـم يستعطفُ التلعـاتِ والأعشابا
فرأى الجمالَ هنا فحنَّ فـذابا
تنسابُ من وجـدٍ به منسابـَا
شوقًـا ولم تملك لهن إيَابـَــا
وبنى النُّهـى فترشَّفوك رِضَـابا
تفسُد وكـم خبُثَ الزمان وطابا
فأظهر كل جمال للنهر على الإجمال ، ولم يتعرض لنقاط مفصلة عنه كما كان الحال عند مردم ، فأشار في وصف بديع ، وخيال لطيف إلى جمال النهر حين تجري مياهه وتتلاطم أمواجه وكأنه يصفق ويضحك ويستعطف كل أرضٍ تستمد منه نبتها، وكأنه لا يكتفى بفرح نفسه وبهجة روحه، بل يرى من واجبه أن يُسعد جيرانه وأحبابه من تلعات وأعشاب .
ولم يكن جمال هذا النهر قاصرًا على أهل الأرض، بل إن الروح التي أطلت من السماء لتستطلع ما على  الأرض من جمالٍ لم تمتلك نفسها حين رأت جمال (بردى)،فحنت وذابت وشاركها بردى هذا الإحساس ،فانساب من وجده، وكأن مياهه المنسابة دموع ذرفت من حور لا تستطيع ردها .
فأصبحت السماء مشاركة للأرض في الزهو بهذا الإبداع ، ويكفيه فخرًا هذا النهر أن مجرد ذكره للعطاشى رواءً ، وذكره لكل ذي عقل رشفًا رضابا حتى ولولم يره.
ويختم أبو ماضي رائعته بتجسيدٍ يكاد الطهر يمثله، والصفاء يشاكله، فمهما مرت الدهور على هذا النهر لم يخبث ولن يخبث ،بل سيطهر ويطهِّر، ويصفو ويُصفِّى ، وهو بذلك قد غلب الدهر نفسه ، فما أكثر الأزمنة التي خبثت بخبث أصحابها وفساد حياتهم .
 
( 1 ) ديوان إيليا أبو ماضي /165( التلعات ) : أرض مرتفعة غليظة  يتردد فيها السيل ثم يندفع منها إلى تلعة أسفل منها وهي مكرمة من المناسب (تلع) لسان العرب .     
ولا أكاد أقف عند وصف الشاعرين لهذا النهر حتى يراودني شعور بالتأني الشديد والدقة المتناهية والخطو الوئيد نحو ظهور كلا الشاعرين على الآخر ، وليس هذا بالأمر الهين ، إذ إنهما قد سلكا نفس المسلك نحو وصف للنهر على الجملة ،غير أن أحدهما وهو مردم فصَّل مع الإجمال، والآخر اكتفي بقيمة ( بردى) لديه ولدى الناس.

كما أن كلا الشاعرين قد اعتمد على الصورة كعماد من أعمدة المعنى، ورمز لا يستهان به في الإيحاء بالنفسية الشعرية ، لأن وصف الأنهار والطبيعة على الجملة تركن إلى الصورة والأخيلة لاعتماد نفسية الشاعر لدى المتلقي .

ومردم قد أهل علينا بصورة العرائس التي جاءت من وادي عبقر كي تعزف للنهر وتلوح له بالأرواح والأشباح ، والشاعر على الرغم من حسه المرهف وخياله الرقيق والذي يفرض عليه في مثل هذا الموقف التدقيق في اختيار عناصر ومكونات الصورة إلا أنه أشعرنا بالغربة العاطفية والرهبة من الصورة المرسومة للنهر ورفاقه الذين يعزفون له، ولا أكاد أرتاح وترتاح نفسي إلى قوله : " نهرٌ عرائسه " وأكاد أبدأ في معايشة الجمال والدخول في خيال بديع حتى يفاجئني بقوله : " أرواح وأشباح " فأخرج من الصورة مسرعًا حتى لو استوقفني أحد ، وتفتر نفسي ، ويتحول الإحساس بالجمال إلى خوف من النهر.

لذلك يقول المرزوقي  مفصلاً عيوب الشعر: " أن يكون فيه زيادة تفسد المعنى أو نقصان ، وألا يكون بين أجزاء البيت التئام ، أو تكون القافية قلقة في مفردها أو معيبة في نفسها ، أو يكون في القسم أو التقابل أو التفسير فساد ، أو في المعنى تناقض وخروج إلى ما ليس في العادة والطبع ، أو يكون الوصف غير لائقٍ بالموصوف " . ( 1 )


( 1 ) شرح ديوان الحماسة -  لأبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي ج1 /15- تحقيق أحمد أمين وعبدالسلام هارون - الطابعة الثانية - مطبعة التأليف والترجمة والنشر 1967م  .

وكي نعطي تلك الصورة أبعادًا تقربنا من الإحساس بغربتها وعدم ملاءمتها لجو النص  نعرج على الطلعة الراقصة الساحرة لأبي ماضي الذي رأى النهر ( يصفِّق ضاحكاً) فذاب اليأس وصاحبه العبوس بلا رجعة ، وينصح أبو ماضي كل يائس عبوس أن يهبط بين الصورة الواقعية لجمال الطبيعة وبين الصورة المتخيلة لهذا الإنسان الضاحك المصفق، ثم يشتد التلاؤم بين قوله : " يستعطف التلعات والأعشاب " ؛ لأن مجرد الابتسامة والبشاشة استعطاف وجذب لكل جميل  ، وذلك ما افتقدناه عند مردم ، فما أبعد جمال النهر وما فيه من حياةٍ ونسائم للحيارى وبين صور الأرواح والأشباح حتى ولو رقصت على عزف العرائس !، فإن ذلك لا يقيد وحشتها ولا يمحو فظاعة مظهرها.

فالطبيعة لا تتحدث ولا تشخص إلا هكذا ، وهذا ليس غضًا ولا انتقاصاً من أبيات مردم ، ولكن الاستهلال بمثل صورته لا يمكنك من إكمال الأبيات ، مع براعته في التصوير التفصيلي لمياه النهروجنباته على نحو يأخذك ويسحرك وينسيك وحشة البداية ليدلل الشاعر على " بعد المرمى ، وفرط المقدرة ، وليس يأتي بذلك إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر" ( 1 ) . 

فيشبه جمال مياه النهر بروعة الطلعة التي يُطل بها الطفل حين تضىء مخايله ، وكأن تلك 
المياه تتمايل هنا وهناك وترتكن على جوانب متسعة  رحبة محتضنة للأمواج المتتابعة ، 
وقوله : " أهلَّ كالطفل وضاءًا مخايله " صورة استعارية تناسب صفاء النهر ونقاءه ، لأن الطفل بطبيعته جُبِل على هذا الأمر ، كما أن تلك الاستعارة تستجلب من المتلقي المشاعر الرقيقة والأسماع الدقيقة.
 

 ( 1 ) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده - لابن رشيق القيرواني – ج1/302  .

وقوله :" مائِر العطفين " تصويرلجنبات النهر وشاطئيه في صورة شخص واسع الأفق ضخم الاحتضان عظيم الحنين لكل من لاذ به ، وهى صورة جديدة سبق إليها مردم وتحسب له، فأشعرتك بأفضلية الشاعر على أبى ماضي في هذا الاتجاه .

إذ إن إيليا أبو ماضي قد أفقدنا الإحساس بالابتكار مع جزالة ألفاظه وشرف معناه وجمال تصويره للموقف والحدث ؛ لأنه يحكى عن إعجابه بالنهر غاية الإعجاب دون تطرقه للتفاصيل التى وضحها بالصورة مردم .

 حتى إن إيليا أبو ماضى لما أراد وصف ضفاف النهر بالحنين لم يتطرق إلى سبب ذلك الأمر واقتصر على قوله: 

وصفا وشفَّ فأوشكت ضفَّاته تنساب من وجدٍ به منسابا

لأنه جعل النهر لديه يشارك الأحبة شعورهم ، وكأنه يملك من العشاق ما يجبره على ذلك ، لكن مردم سمى ضفاف النهر حواضن ونسبها إلى النهر، وكأنه لا يشاركه في تلك الحواضن أحد ، فأشعرك بعاطفة الأحبة وشوق الأصحاب والأحباب الذي أراده أبو ماضي ، فضلاً عن استعمال لفظة ( الحواضن )، وهو ما لم يكن عند أبي ماضي . 

ويزداد مردم جمالاً في الإبداع حين يجعل تلك الحواضن ذات وجه طلق نضر مزهر نتيجة لمياه الزهر التي تنساق إليه ، وكأنها ترد بعض الجميل لهذا الكريم فتفتح أحضانها له ، وتمد ذراعيها لتضمَّه .

وذلك التصوير الذي جاء به من خلال الاستعارة قد افتقدناه كليًا عند أبي ماضي ، بل اكتفى بتشبيه تلك المياه بدموع ذرفتها حور الجنان ، أما مردم فقد اعتمد على الاستعارة التي جعلت المشبه والمشبه به كالشيء الواحد ، خاصة عندما تصاعدت عاطفته أمام سريان ماء النهر وجعل التدرج في هذا السريان كالطفل يحبو أولاً  ثم ينمو ثم يطَّرد في مشيه وتتابع خطاه ،ويصير ذا غرةٍ متلألئة. 
وقول أبي ماضي : " وبنى النهى فترشَّفوك رضابا " لم يكن لها زيادة فائدة ، ولا أعلم ما الفرق أن يذكر الشاعر النهر للعطاشى أو يذكره لبنى النهى ؟ فالقصد هو ارتواء الاثنين، لا يختلف في ذلك ذو عقل أو غيره.

ويحسب لأبي ماضي اختيار القافية المناسبة للمعاني الواردة للنص والمناسبة أيضًا لجو النص العام ، إذ إن القصيدة تعبر عن رؤية عاطفية تظهر كثيرًا من المواقف الشعورية عند الشاعر نحو الطبيعة والجمال ، فكان اختياره لقافية ( الباء ) أنسب ، وشعرنا معه بتراقص الطبيعة الذي يعبر عن سحرها واستحواذها على الألباب والأفئدة والأبصار.

أما مردم فقد استعمل الحاء وهي صوت مهموس ومن الحروف الضعيفة ؛لذا يستعمل غالبًا في مواقف الضعف والعجز والتعبير عن الأنين والبكاء ، وكأن الشاعر لا يستطيع الكلام إلا همسًا ضعيفًا على الرغم من جو النص الذي يجبره على الخفة والنشاط والتفاؤل والتي ظهرت من خلال تعبيراته وتصويراته .

وإن حكمنا على أبى ماضي فهو سيد الإجمال والهمة والموسيقى وتذوق الطبيعة مع ما أخذ عليه ، أما مردم فمبدع التفاصيل ، قليل الهمة خامل الموسيقى ، لا يعطي لمشاعره مساحة أكبر من الانسياب حتى تفيض بكل ما لديها .

6-يقول خليل مردم واصفاً الطبيعة الساحرة على ضفاف بَردى : ( 1 ) 
ورب صفصافه قد أطرقت خجـلاً
جمُّ  التلفُّت ذو وجهين يدفعُـه
والزهريلوي بأعنـاقٍ ويبسُم عن
نشـوان أنفاسُه نمَّت عليه فمـن
يا أيها الشاربُ النشوان كم نفسٍ إذ شمَّر الحور عن ساقٍ كسبَّـاح
إذا تمايل زندُ التـِّـين بالـرَّاح
درٍّ ويرنو بعينٍ ذات تِلمـــاح
زاكٍ ومن عبقٍ بالسرِّ بـــوَّاح
وإن حرصت على الكتمان فضَّاح

 
(1) ديوان خليل مردم ص63 ( أطْرَق ): أطرق الرجل إذا سكت فلم يتكلم ، وأطرق أيضا أي أرخى عينيه ينظر إلى الأرض ( طرق ) لسان العرب .
     تمر بالزيزفون الريـحُ روايــةً          عن طيِّب النشر والأنفـاس فوَّاح
والجُلنَّار(1) إذا مال النسيم بـه         نارٌ مؤججـةٌ أوعُرفُ صيَّـاحِ
جناتُ عدن بها من كل فاكهةٍ          ومن ثِمَــار وأعنـابٍ وأطلاحِ







ويقول : أحمد شوقي: ( 1 ) 

الورد في سُرُر الغصون مفتـَّح
ضاحي المواكب في الرياضِ مميزٌ
مرَّ النسيمُ بصفحتيه مقْبِــلاً
هتَك الردى من حسنه وبهائِـه
ينبيك مصرعُه وكلٌ زائــلٌ
ويقائقُ النَّسرين في أغصانهــا
والياسمين لطيفُـهُ ونقيـُّــهُ
متألقٌ خَلَلَ الغصون كأنــَّه
والجُلَنَّار دمٌ على أوراقِـــه
وكأن مخزونَ البنفسج ثاكـل ٌ متقابل يُثنــي على الفتَّـاح
دون الزهـور بشوكةٍ وسلاح
مرَّ الشفاه على خـدودِ ملاحِ
بالليل ما نسجت يدُ الإصباح
أن الحيــاةَ كغـدوةٍ ورواح
كالدُرِّ رُكِّب في صدور رمَـاحِ
كسريـرةِ المتنزِّه المِسمــاح
في بُلجَةِ الأفنان ضوءُ صبـاح
قانِى الحروف كخاتم السَّفَّـاح
يلقَي القضاءَ بخشيةٍ وصـلاح
 

(1)( الجُلنَّار): بضم الجيم وفتح اللام المشددة زهرُ الرمان مُعَرَّب كُلنَّار (الجُلنَّار) القاموس المحيط .
  (عُرْف) : لحمة مستطيله في أعلى رأس الديك (عرف ) لسان العرب.
(2) الشوقيات / ج2-22 ( سُرُر): السرير هو ما يضطجع عليه والجمع أسِرَّة وسُرر وفي التنزيل على سُرُرٍٍ متتقابلين  ( سرر ) لسان العرب.
( ضَاحي ): الضَّاحي من كل شيء البارز الظاهر الذي لا يستره منك حائط ولا غيره مادة ( ضَحا ) لسان العرب- (الرَّدى): الهلاك ( ردي ) لسان العرب.
(يقائق النسرين ): ضرب من الرياحين قال الأزهري : لا أدري أعربي أم لا ( نسر ) لسان العرب.
( البُلْجة):آخر الليل عند انصداع الفجر  (بلج ) لسان العرب -( قاني ): شديد الحمرة (قنا )  لسان العرب .


كلا الشاعرين أبدى ارتياحه للطبيعة ، والجنان التي عمَّر الله بها أرضه ، ولكل سبيله ومنهجه في الحصول على ألطف معنى وأرق عاطفة يفيض بها هذا المعنى  . 

ولنقف على المشتركات التي وقف كل شاعرٍ عندها ، وأولاها كان الزهر الذي جعله خليل مردم من أعضاء الطبيعة الرئيسة ، والمساهم بشكل فعَّال في جمالها ، فجعله الشاعر يملك عنقًا يلوي به وإذا ابتسم ظهرت أسنانٌ كالدرفى اللمعان ،وله عين يلمح به فيدلل على ذكائه وفطنته وتلك صورة في حد ذاتها حاملة لمعانٍ كثيرة ،  وقد اعتمد على الاستعارة كصورة رئيسة ، فشبه الزهر بإنسان يلوى عنقه ويبتسم حتى تظهر أسنانه التي تشبه الدر وينظر بعينٍ لامحة ، نشوان نفسه من الراح.

والصورة مع حركتها الساطعة الظاهرة تظهر جمال وروعة انسجام الزهر مع ما حوله من عناصر طبيعية أخرى كالأشجار والغصون والطيور ، إلا أن الصياغة التي جاء عليها  هذا التصوير تستثير وقفة مع وصف هذا الزهر، حيث إن وصف الزهر بلوي عنقه مع قصد ميل العنق للدلالة على نشوة النفس والإحساس بروعة الطبيعة ، يعطي إحساسًا بالاعوجاج وأن هذا الزهر ربما أرغم على فعلته ، أو لا يعجبه شيء ما فأشار برأسه بهذا الليِّ إعراضًا نفسيًا عنه .

 
الاستعمال هو الفيصل بين شاعرٍ حذق وآخر يُستدرك عليه ؛ لأن " المعاني كلها متساوية ما دام العقل قادرًا على تكييفها ، ووجودها بتلك القوة ليس غاية الكمال،وإنما غاية الكمال العقلي أن تكون موجودة بفعل التحول من القدرة إلى الأداء" ( 1).


ثم انظر إلى قوله :
 
يا أيها الشارب النشوانُ كم نفس وإن حرصت على الكتمان فضَّاح

يخاطب الشاعرالزهر المنتشى ليعلمه أن خباياه مفضوحة للعامة ولا يستطيع كتمانها ، ولا أدري لماذا هذه الإطالة في الحديث عن الزهر ومع الزهر مع قلة المحصلة للمعنى المراد ؟ ، وكان بإمكانه أن يفعل مثل شوقي ، حيث كل بيت يفيض بالمعنى مع شدة الإيجاز والتركيز، فاستمع إليه وهو يصف الورد بقوله:

الورد في سرر الغصـون مفتـَّحٌ
ضاحي المواكـبِ  في الرياض مميزٌ متقابلٌ يثني على الفتــَّاح
دون الزهور بشوكةٍ وسلاح
فاستهل الصورة بأبدع وأرق ما يأتي من شاعرٍ متمرس ، وأجلسك مسترخيًٍا من تعب الحياة ، مطمئنًا من غدرها ، آمنًا من مخاوفها ، عاشقًا لها تبحث فيها عن جنانها كي ترى السحر النافع .

( الورد في سُرر الغصون مفتَّح ) فجعل للغصون أسرَّة والورد صاحبها ، مستريح عليها وهو في حالة ازدهار ، وتفتح يقابل بعضه بعضًا ، يشكر المولى عز وجل على تلك النعمة .


( 1 ) التناص الشعري قراءة أخرى لقضية السرقات د / مصطفى السعدني / 29 - مركز الدلتا للطباعة - القاهرة 1991م .

والورد في ذلك له موكبٌ ظاهر يراه الجميع مميزٌ بنظامه وجماله يملك من بين جميع الزهور حصنا وأسلحةً تحميه من نعمته وراحته واطمئنانه على سرر الغصون ، وإذا مر النسيم عليه تلقف فرصة لتقبيله كما تتلقف تقبيل الخدود الملاح، والصورة في قوله :

           مرَّ النسيمُ بصفحتيه مقبلاً مرَّ الشفاة على خدودِ ملاح

تعكس جمال وبلاغة التشبيه البليغ وكأنها صورة حية تنقل لنا تلهف هذا النسيم لتقبيل هذا الورد المدلَّل على الأغصان.

ولم يضطر شوقي بفطرته الشعرية وإحساسه العبقري إلى فرض بدائل تُعطي نفس المعنى الذي نقله إلينا عبر الإيجاز الوافي والمعاني المحكمة والعبارات المركزة والتي يحتويها تكثيف الفكرة .

ومردم لم يفعل ذلك ولم يستطع اللحاق بشوقي في هذا الأمر مع التجديد في فكرته وخياله الواسع ، ومع أن الحديث عن الورود والأزهار قد تعرَّض له جل الشعراء ، إلا أن شوقي في حديثه أنبأك بالتجديد ، وأسمعك ما تحب سماعه ، دون اللجوء إلى التقليد في الاستعمال أو التصوير .

بينما مردم يكاد يعتمد على عبارات قد سبق استعمالها دون أن يتميز هو بإجادة استعمال يوحي بجمال صورته وفرضية عباراتها ، مع الأخذ في الاعتبار أن الشاعرين
اعتمدا على وزن واحدٍ وقافية واحدة ، فتقدم شوقي وتأخر مردم .

 
( 1 ) سورة الواقعة : آية 15 ، 16 .

ولنتأمل الصنعة عند شوقي فنجدها تسوق أمير الشعراء إلى أجمل ما يكون دون تكلف أو جفاء أو معاناة من المتلقي لتحديد ما يريده الشاعر ، بخلاف مردم الذي يجبرك على الوقوف مع كل عبارة كي تفكر هل تلائم ما قبلها أو ما بعدها ؟، وهل يمكن استبدالها بأخرى أم لا؟ ، ولندلل على هذا الكلام بالوقوف على تصوير كلا الشاعرين  (للجلنَّار) مثلاً.

فشوقي شبه الجلنَّار بالدم وعلى أوراقه حروفٌ شديدة الحمرة ليشبه بذلك خاتم السفَّاح ، بينما يقول مردم : 

والجُلَّنار إذا مال النسيمُ به نارٌ مؤجَّجة أو عُرف صيَّاح

فعلق حمرة الجلنار بمرور النسيم عليه ، كي يشبه النار الشديدة أو عرف الديك ، وهو تصوير ليس في محله ولا يتميز بالدقة لأن زهر الجلَّنار يتميز بالحمرة النسبية التي تختلف من زهرة إلى أخرى ، وهي صفة أساسية فيه ، لا يحتاج فيها أن يميل مع النسيم كي تظهر تلك الحمرة .

وكأن قول مردم : " إذا مال النسيم به " تقييد لتلك الحمرة حيث إذا فقد النسيم فقدت الحمرة ، وهذا غير صحيح .

كما أن اعتماد الشاعر على التشبيه البليغ  لم يشفع له ، إذ إن عنصر المشبه به قد فقد شدة الشبه بالمشبه وهذا خلل واضح ، فالنار المؤججة والتي تحولت من البياض إلى الاصفرار إلى الاحمرار لا تشبه بحمرتها مهما بلغت شدتها الجُلنَّار في حمرته الآخذة الساحرة التي أرادها الشاعر ، وقصدها من خلال التشبيه .

كما أن عرف الديك لا يشترط حمرته الشديدة ؛ لأن أعراف تلك الطيور تختلف من ديك إلى آخر ، فليس الشبه محددًا قويًأ فيصح  معه التشبيه ، وإذا انتزعنا وجه الشبه من الطرفين لا نستطيع تحديده بالحمرة الشديدة ، لأن ذلك متحقق في المشبه فقط بينما المشبه به ضعيف من تلك الناحية.
أما شوقي فلم يلجأ إلى التشبيه البليغ ، بل ذكر الأداة ورغم ذلك فقد بلغ بصورته ما لم يصل إليه مردم ، وهل هناك احمرار يضاهي الدم ، ثم تعرض لوصف أوراق هذا الزهر وهو ما لم يتعرض له مردم ؛فجعل الحروف المنقوشة عليها شديدة الحمرة فتخيل جلَّنار كالدم ،وأوراقه عليها ما يشبه الدم في حمرته ، فكيف تكون الصورة ؟لذلك وصف أبو نواس محبوبته بحمرة الوجنتين فقال : ( 1 )
يا من بمقلتيه العقـــار
ماذا الصُدودُ متى فطنــ وبوجنتيه الجُلًّنـــارُ
ـتُ له لك الرحمنُ جَارُ
كما أن قول شوقي: " كخاتم السفاح " ناسب ذكر الدم ، ولاءم قوله: " قاني الحروف"، فجاءت صورته مناسبة الأطراف متناغمة العناصر متلائمة مع ما ترمي إليه .

7 – يقول خليل مردم واصفاً شمس الغوطة : ( 2 ) 
والشمسُ من خللِ الغصون على الثرى كدراهمٍ ألقت بها يدُ ناثر
شبه الشمس وهي تظهر من بين الغصون كالدراهم المتناثرة على الأرض ، ليظهر جمال الأرض بجمال الشمس والعكس ؛ لأن أرض الغوطة إذا نثر عليها أحدٌ دراهمًا لمعت الدراهم ، وأظهرت جمال خضرة الأرض معها .
ويقول صفي الدين الحلي : (3)
وكأنما الأغصان سوق رواقــصٍ
والشمسُ تنظر من خلال فروعها قد قُيِّدت بسلاسلِ الريحان
نحو الحدائقِ نظرة الغيران
فشبه الشمس وهي تطلُّ من بين فروع الأغصان على الحدائق بإنسان ينظر نظرة غيرة ، وحذف المشبه به ودلل عليه بالفعل ( تنظر) الذي يلائم الإنسان على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية .
 
( 1 ) ديوان  أبي نواس /298.
( 2 ) ديوان خليل مردم / 77 (الغوطة ): موضع بالشام كثير الماء والشجر ، ومدينة دمشق تسمى ( غوطة )  ( غوط ) لسان العرب .
(3) ديوان صفى الدين الحلى/341 .

واعتمد صفي الدين على الصورة الاستعارية اعتمادًا كليًا  فى قول : " والشمس تنظر" بخلاف مردم الذي اعتمد كليا على التشبيه ، والاستعارة أمكن وآكد من التشبيه ولا يمكن أن يكون التشبيه مكانها في مكان هي أولى به ، لأن تأثيره لا يضاهيها ، لاختلاف مقاصد وتأثير كل منهما .
وعند التدقيق ترى الشمس عند صفي الدين رقيقة غيورة ، وهي في مثل هذا الموطن الذي ينتشر فيه الجمال في كل مكان ؛ فأخذت تختلس النظرات الغيورة من خلال فروع الأغصان ، وتوزعت نظراتها هنا وهناك والذي يستدعي تفرق أشعتها على الحديقة بأكملها ، ثراها وأشجارها ، وثمارها وأزهارها ، وهو ما لم يكن عند مردم لأنه ركز على التصوير الشكلي ، حيث اكتفى بإظهار لمعان الشمس في صورة دوائر صغيرة واعتمد على الدراهم وسيلةً لهذا الغرض ، فأبرز معنى وغابت عنه معانٍ كثيرة أفاض بها صفي الدين الذى ركز على الجانب النفسى من خلال قوله: "نظرة الغيران".

وقول مردم :" على الثرى " يقابله عند صفي الدين قوله :" نحو الحدائق " وهذا دليل على عمومية الجمال للشمس عند صفي الدين وتقييده عند مردم ، مع أنه يهتم بإظهار كل صغيرة في سحر الطبيعة.
وقول صفي الدين :" من خلال فروعها " أجمل تعبيرًا في نظرة الشمس نحو الحدائق من قول مردم : " من خلل الغصون " ؛ لأن النظر من خلال الفروع أكثر تعددًا من النظر خلال الغصون ، وكان أولى بمردم ما دام قد اعتمد على نثر الدراهم على الأرض أن يتخذ النظر من بين الفروع بديلاً عن الغصون ؛ لأن تفرق الدراهم على الأرض وكثرتها يناسب الفروع .
وفي الختام نجد الرقة والعذوبة والانسجام بين الألفاظ والصورة أهم ما تميز به صفي الدين عند وصفه للشمس بين جمال الطبيعة ، فضلا عن التجديد المقبول في قوله:"نظرة الغيران " فخلع كل إحساس جميل ورائعٍ على الشمس ، وكأنها امرأة تتصف بالغيرة ،أما مردم فلم يأت بجديد ، بل أشعرك بالتقليد دون التأثير.