انتقال اللغة من السلف إلى الخلف - 2

د. محمد سعيد حسب النبي

 

يستكمل علي عبد الواحد وافي في كتابه اللغة والمجتمع ظاهرة انتقال اللغة من السلف إلى الخلف؛ فيشير إلى العوامل غير الاجتماعية التي تؤدي إلى تطور اللغة في أثناء انتقالها من السلف إلى الخلف، فيرجع أهمها إلى أمرين يؤثر كلاهما في تطور الأصوات خاصة:

أحدهما: التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق في اللسان (قانون روسلو Rousselot)؛ فمن المقرر أن هذه الأعضاء غير جامدة على حالة واحدة، وأنها في تطور طبيعي مطرد في بنيتها واستعدادها ومنهج أدائها لوظائفها، وأنها في كل جيل تختلف عنها في الجيل السابق له. فحناجرنا وحبالنا الصوتية وألسنتنا وحلوقنا وسائر أعضاء نطقنا تختلف عما كانت عليه عند آبائنا الأولين إن لم يكن في بنيتها الطبيعية فعلى الأقل في استعداداتها، بل أنها لتختلف عما كانت عليه عند آبائنا المباشرين. غير أن هذا التطور يسير ببطء وتدرج حتى إن آثاره لا تكاد تحس بين جيلين متتابعين، ولكنها تبدو واضحة كل الوضوح بالموازنة بين جيلين من شعب واحد تفصلهما حقبة كبيرة من الزمن.
ومهما يكن من شيء، فإن كل تطور يحدث في أعضاء النطق أو استعدادها، مهما كان مبلغه، يتبعه تطور في أصوات الكلمات، فتنحرف هذه الأصوات عن الصورة التي كانت عليها إلى صورة أخرى أكثر منها ملاءمة مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق.
ومن ثم لم يكن بد من أن يحدث في أصوات كل لغة انحراف ما في أثناء انتقالها من السلف إلى الخلف، تبعاً لما يمتاز به أولئك عن هؤلاء من خصائص ناشئة عن التطور الطبيعي في أعضاء النطق، ولما تقضي به سنن الطبيعة من اختلاف هذه الأعضاء في كل جيل عنها في الجيل السابق له.
وقد كان لكشف هذا القانون أجلّ أثرٍ في نهضة البحوث اللغوية المتعلقة بالتطور الصوتي، وفي القضاء على كثير من النظريات الفاسدة القديمة. وقد جرت العادة بنسبة هذا القانو ن إلى روسلو Rousselot-كما يقول وافي- لأنه وقف قسطاً كبيراً من جهوده على دراسته، وتدعيمه بالأدلة القاطعة، وتحري حقائقه بطرق البحث القديمة وبطريقة جديدة لم يكد يسبقه أحد إليها وهي طريقة استخدام الأجهزة في دراسة الأصوات اللغوية، التي اشتهرت باسم طريقة "الفونيتيك التجريبي"، ومع ذلك فإن روسلو لم يكن أول من اهتدى إلى هذا القانون، بل قد سبقه إلى ذلك عدد كبير من الباحثين من أشهرهم هرمان بول Herman Pual.
وليس من الميسور وضع قواعد عامة مضبوطة لاتجاهات هذا التطور، لأن الأمر يختلف اختلافاً كبيراً باختلاف اللغات والبيئات والشعوب. ومن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات الجيم والثاء والذال والظاء والقاف، فقد أصبحت هذه الأصوات ثقيلة على أعضاء النطق في كثير من البلاد العربية، وأصبح لفظها على الوجه الصحيح يتطلب تلقيناً خاصاً ومجهوداً إرادياً وقيادة مقصودة لحركات المخارج. ولعدم ملاءمتها مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق في هذه البلاد أخذت تتحول منذ أمد بعيد إلى أصوات قريبة منها. ومن أمثلة ما ساقه وافي على ذلك: صوت (الجيم) الذي كان ينطق به معطشاً بعض التعطيش في العربية الفصحى قد تحول في معظم المناطق المصرية إلى جاف (جيم غير معطشة)، وفي معظم المناطق السورية والمغربية إلى جيم معطشة كل التعطيش. ومثل هذا حدث في كثير من اللغات الأوروبية، ومثال ذلك –كما أشار وافي- تطور الراء الفرنسية في منطقة باريس وما إليها. فقد كان ينطق بها قديماً في صورة مرققة، ثم أخذت تنحرف عن مخرجها تبعاً لتطور أعضاء النطق واستعدادها حتى قربت من آخر الحلق، فتحولت إلى صوت بين الراء والغين، وأصبح صوتها القديم ثقيلاً على الألسنة يتطلب لفظه من أهل هذه المناطق مجهوداً إرادياً وقيادة مقصودة لحركات المخارج.
ولا يقتصر أثر العامل الذي نحن بصدده على تحريف بعض أصوات الكلمة عن مخارجها الأولى، بل قد يؤدي إلى انقراض الكلمة برمتها انقراضاً تاماً من لغة المحادثة، وذلك أن ثقل الكلمة على اللسان أو عدم تلاؤم أصواتها مع الحالة التي انتهى إليها تطور أعضاء النطق في جيل ما، كثيراً ما يعرضها هي نفسها للزوال، وإلى هذا يرجع السبب في انقراض كثير من الكلمات العربية من لغات التخاطب في العاميات ومنها العامية المصرية على سبيل المثال.