الترجمة ودورها في تجديد النحو

أ. ستار عايد العتابي

 

        بلغت العربية مبلغاً كبيراً من الانتشار في أرجاء الأرض جميعاً ، نتيجة توسع الدولة الإسلامية ، وهذا التوسع انعكس ايجابياً على آنتشار اللغة وعلومها في البلاد كلها ، لأنَّها لغة  الدين والقرآن الكريم . فنافست لغات تلك البلاد ولهجاتها .  ومن الطبيعي أنْ يتعلم أهل هذه البلاد العربية ، ليفهموا أمور دينهم أولاً ، وليعرفوا كيفية التعامل مع العرب ثانياً . فظهرت نتيجة هذا الاحتكاك  حركة فكرية ، وثقافية واسعة ، بلغت  ذروتها  في العصر العباسي . عصر الازدهار الحضاري العربي . والعربية  لغة غنية  بمفرداتها ومعانيها  وسهلة التراكيب ، إنّها (( أغنى ، وأبسط ، وأقوى، وأرق ، وأمتن ، وأكثر اللهجات الإنسانية  مرونة وروعة ،  فهي كنز يزخر بالمفاتن ويفيض بسحر الخيال وعجيب المجاز رقيق الحاشية مُهذَّب الجوانب رائع التصوير ))  . لهذا احتاجت اللغة العربية إلى التكيف مع غيرها من اللغات ، فكان هذا مدعاة لظهور حركة التعريب ، والترجمة من اللغات الأخرى وإليها والتعريب يعني : ((ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعان ٍفي غير لغتها ))  والتعريب في رأي العلامة طه الراوي: (( هو نقل الكلمة من لغة أجنبية إلى اللغة العربية بتغيير أو بغيره، ويسمى الإعراب أيضاً ))   والمعرَّب : (( هو  الكلمات التي نقلت من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ، سواء وقع فيها تغيير أو لم يقع ، وربما تناولته بالاشتقاق ))  .
           أما الترجمة  فهي الأخرى  عمل رائع  خدم العربية بما أعطت من مفردات كانت بعيدة عن لغتنا لذا (( تُعَدّ ُ الترجمة من الأعمال اللغوية التي تختص بآختيار الألفاظ  العربية  للمعاني الجديدة الواردة إلينا من لغات أخرى . وكانت من نتيجة هذا العمل أنْ تأثرت لغتنا الحديثة بأساليب جديدة لم تألفها العربية الفصحى من قبل وأدت الترجمة الحرفية الحديثة إلى دخول طرائق التعبير الأجنبية إلى لغة الصحف اليومية ثم تجاوزتها إلى المقالة الأدبية )) . وقد أفادت الترجمة العربية كثيراً إذ ْ : (( ليس من الغلو أنْ يقال إنّها  قاربت المثل الأعلى في تذليل اللغة العربية وتسييرها لقبول ألوان العلم على اختلافها ))  .  وزاد من أهمية الترجمة قدرة العربية على تقبُّل الجديد، سواء أكان هذا الجديد يأتي كما هو أم متشابها أم مشتقاً  أم ترجمة  حرفية ، فـ (( اللغة العربية قادرة على استيعاب العلوم ومظاهر الحضارة الجديدة بما فيها من طاقات ووسائل تساعد على النمو، والتقدم ، والازدهار))   . وحركة اللغة العربية ومسيرة تقدمها : (( لا تنتظر التواني وحركة الأعمال ولا تحتمل التمهل ، هذه حقيقة نشهدها ونلمس آثارها فمِنْ الحزم أنْ نتخذ من وسائلنا العلمية والعملية ما يلائمها ويأتلف معها ))  . ولا غرابة أنْ يترك عامل الترجمة أثره في العلوم جميعاً من طب ، وهندسة، وفلسفة ، وعلوم اللغة من نحو ، صرف ، وبلاغة ، ونقد . والباحث هنا يتلمس أثر الترجمة في تطور النحو العربي وتجديده  .
        ونتيجة لظهور الجيل مِمَنْ درس في الجامعات الأوربية ، والأمريكية، فدرس العربية من جانب آخر . جانب لا يهتم بتجديد الضوابط  التركيبية للوحدات  ، الوحدات النحوية ، بل يعتمد على أساس الشكل الظاهري إسقاط التعليلات المنطقية والفلسفية من مادة النحو . ويقف هؤلاء في دراستهم لنصوص النحو واللغة عند الشكل والظاهر،  فيصفونه على ما فيه دون إخضاعه للتفسيرات والتعليلات الأخرى  . ومن نتيجة الترجمة والاختلاط ، ظهر جيل آخر ، آمن بتوليد النحو متأثراً بنظرية النحو التحويلي التوليدي ، التي قادها العالم الأمريكي ( نعوم جومسكي  أو تشومسكي ) الذي ألف كتاباً أسماه ( البنى التركيبية أو البنى النحوية ) عام 1957م ، ثم تبعه بالأفكار نفسها بكتاب آخر أسماه ( وجوه من نظرية النحو ) عام 1965  . فقد أثرت أفكار هذا العالم على جيل كبير من الباحثين العرب الذين حاولوا دراسة النحو العربي في ضوء نظرية النحو التحويلي التوليدي ، فأصبح عندهم ((  ليس ضرورياً أنْ تظهر كل مكونات  الجملة في تركيبها  السطحي ــ كالضمائر  المستترة مثلا ــ  وليس هذا إلاّ دليل على  أنَّ التركيب السطحي للجملة لا يمثل ما هو عليه تركيبها العميق الذي يحتوي مكوناتها الأساسية قبل جريان قواعد التحوُّل عليه ))  . فما هي نظرية النحو التحويلي التوليدي ؟ . 
       إنَّ نظرية النحو التحويلي التوليدي تبنى على (( محاولة دراسة القابلية اللغوية لدى الإنسان وأنّه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلاّ إذا توسع الدرس اللغوي فشمل إلى جانب الظواهر اللغوية أو التراكيب السطحية اللغوية ، التراكيب العميقة والتحولات التي تطرأ على هذه التراكيب  قبل أنْ تصبح ظاهرة ))  .  إذن  ترتبط هذه النظرية بالإنسان ، ونتاجه العقلي خاصة ، فتعالج ((  اللغة من منطلق أنّها مكون من مكونات العقل يخصص الخصائص الصوتية ، والتركيبية ، والدلالية لمجموعة غير متناهية من الجمل المحتملة ))  . وعندهم أنّ القاعدة النحوية تتضمن (( قوانين محدودة، تولِّد التركيبات النحوية الأساسية في اللغة ، وتتضمن مفردات معجمية  ، زيادة على التمثيل الفنولوجي لهذه المفردات ، والعناصر النحوية : جاءَ الرجلُ ، الرجلُ جاءَ . فـ ( الرجلُ جاءَ ) ومن جهة نظر التحويليين هي الأصل ))  والذي يريده جومسكي من توليد القواعد هو : ((ببساطة  نظام من القوانين التي تعطي بشكل واضح ومحدد أوصافاً بنيوية للجمل ، ومن الواضح أنَّ  كلَّ متكلم لغة قد ملك زمام قواعد توليدية تجسد معرفته بلغته وذواتها ... فإنَّ القواعد التوليدية تحاول تعيين ما يعرفه المتكلم ، وليس  ما يقوله من معرفته تلك ))  . وقد أثرت هذه الأفكار التي دخلت إلى العرب عن طريق الترجمة ، ومن خلال دارسين عرب درسوا علومهم عند الغرب ، فتركت آثاراً واضحة على كثير منهم ، فجعلتهم يعيدون النظر في الأصول  النحوية القديمة ؛ لأنَّ : (( التراكيب اللغوية على اختلاف مستوياتها توجب علينا أنْ نعيد النظر في كثير من المسلمات النحوية القديمة ، محاولين إعادة ترتيبها آو حتى تعريفها مستهدفين الدقَّة والوضوح الذين نتوخاهما في وصفنا اللغة أو كتابتنا لنحو اللغة )) ، والجانب الوظيفي لوحدات اللغة ليس أمراً غريباً على نحاتنا العرب بل : ((رأوا أنَّ الجملة تتكون من عدّة وحدات يتباين بعضها عن البعض الآخر بما يؤديه من معان ٍلغوية ، وهي غير المعاني الدلالية )) ،  ومتابعة الوظيفة اللغوية التي تؤديها التراكيب اللغوية  في النحو تدعونا  جدِّياً إلى ((إعادة كتابة النحو العربي متخذين من نظرية النحو التوليدي التحويلي منهجاً في درسنا ومعيدين دراسة  تلك المسلمات التي أخذ بها قروناً طويلة من الزمان ))   . 
        ثُمَّ ظهرت بعد زمن نظريتان هما انعكاس لآراء جومسكي ( نظرية الحالة النحوية ،  ونظرية  العلاقات النحوية )  وترك هذا أثراً على النحاة العرب المحدثين ، وحاولوا إدخال هذه النظريات إلى العربية ورأوا بأنَّ ((نظرية الحالة النحوية تصلح للتطبيق على اللغة العربية ، لأنّها تتميَّز بوجود نهايات للكلمات فيها ، هي عناصر لغوية  تحدِّد الوظائف النحوية لها ، وهو مفهوم يختلف عن الإعراب الذي يشترك في تحديده عناصر أخرى كالموقعية ، كما أنَّ تغيُّر الحركات الإعرابية قد لا يدل بالضرورة  على تغيُّر الوظائف النحوية ... قلنا : جاءَ زيدٌ ، وجاءَ زيداً ، وجاءَ زيد ٍ، فكان الأمر سيَّان ، وسيبقى  (  زيدٌ ،  وزيداً  ، وزيد  ٍ)  حاملة لمعنى الفاعلية ))   ، ومثل هذا الكلام بعيد عن الدقّة ، (( وهو كلام ٌ غيرُ دقيق ٍ، لأنّ ذلك لا يتعلق بالدلالة حسب ، وإنما يتداخل مع معيار القبول اللغوي ، فالنمط اللغوي لا يمكن تحليله ، إذا لم يكن صحيحاً ، ومن ثُمَّ لا يجوز  الاستئناس به للتدليل على نظرية نحوية ))  . ويرى الباحث هذا التداخل يبتعد عن روح النحو العربي ، وقوانينه المتوارثة ، بل يجعل القاريء لمثل هذه الجملة يبتعد عن مسار الحقيقة اللغوية  ، التي تمنح الرتبة المكانية أو الموقعية  في الحجة . أما النظرية الأخرى التي تتعلق بالعلاقة النحوية : ((فهي تُحدِّد المسند إليه أو المفعول به ، أو المفعول غير المباشر من حيث التسلسل والترتيب داخل الجملة ، وتستخدم هذا التسلسل والترتيب في سبيل تحديد المراكز التي تحتلها فيما يسمى عند التحويليين راسم أركان الجملة))  . والمعنى أنَّ هذه النظرية تقوم على تحديد العلاقة بين الجملة المبنية للمعلوم ، والجملة المبنية للمجهول . والعربية في هذا تختلف تمام الاختلاف عن غيرها من اللغات ، لأنَّ الفاعل في الجملة المبنية للمجهول يحذف ليحل محله المفعول به ليصبح نائباً عنه ، أما  في اللغات الأخر ولاسيما الانكليزية فإنَّ الفاعل ضروري الوجود في جملة المبني للمجهول . والمهم الذي يراه الباحث في ظهور هذه النظريات ، وطريقة دخولها في الواقع اللغوي العربي ، دليل على مكانة الترجمة في ﺇغناء النحو العربي بالجديد من الأفكار ، وعلى الرغم من أنَّ بعض هذه النظريات ، لايرقى بالمستوى المطلوب الذي عُرف عن النحو العربي خاصة ، ولغتنا عموماً ، إلاّ أنَّها تعطينا فكرة واضحة  المعالم تفيد أنَّ لغتنا لها القدرة  على التجدُّد والتطوُّر مع كل ما ينتجه العقل البشري من أفكار جديدة ، أما الأفكار الداعية إلى التجديد  والتيسير في النحو العربي إلاّ نتاج الترجمة . فكثير من الباحثين الذين ظهروا بأفكار تدعو إلى  تيسير العربية ، فمنهم من تأثر بما في اللغة التركية من قواعد وأساليب  ، ومنهم المتأثر بالفرنسية والانكليزية وغيرها   .  فللترجمة دور مهم في ﺇغناء العربية بالجديد من المصطلحات والنظريات . والنحو لكونه جزءاً من العربية أخذ نصيبه الوافر منها ، حين جعلت النحاة العرب يعيدون التفكير في صياغة أبواب النحو وترتيبها من جديد ، والبحث عن نقاط الصعوبة فيه ليذللوها ويحرصوا على بقاء روح  النحو الأصلية دون مساس . فصار تأثر عدد غير قليل من نحاة العصر الحديث بالمنهج الوصفي ، ولاموا النحاة الأوائل لآعتمادهم على المنطق والفلسفة : (( لقد برز في الوطن العربي عدد من النحاة الذين تأثروا بالمنهج الوصفي وعدّوه المنهج الصحيح لدراسة العربية ، ثُمَّ أنحوا باللائمة على النحو الموروث  لآعتماده على المنطق والفلسفة )) . ثُمَّ تحوّل نظر النحاة  من المنهج الوصفي الذي برز في أوروبا ، وأمريكا ، إلى منهج آخر يعرف بالمنهج التحويلي الذي يهتم بـ  (( البنية العميقة للكلام ويحاول أنْ يربط بينها وبين ما تتحول إليه من بنية سطحية أيّ تركيب لغوي ملفوظ أو مكتوب )) .
            وخلاصة القول ، إنَّ للترجمة أهمية كبيرة في ديمومة التواصل بين محيط اللغة الداخلي والخارجي ، ليكون سهلاً على روادها الاطلاع على الجديد في مجالات علومها . 
الهوامش 
  - التعريب ومستقبل اللغة العربية - عبد العزيز بنعيد الله - معهد البحوث والدراسات العربية - 1975 / 8 .
2 - حركة التعريب في العراق- د . أحمد مطلوب - مؤسسة الخليج للطباعة والنشر – 1983/ 104 .
3 - تاريخ علوم اللغة العربية - طه الراوي - بغداد   1949/ 48 .
4 - عوامل تنمية اللغة العربية - د . توفيق محمد شاهين - ط1- القاهرة1980/ 133 .
5 -  الدراسات اللغوية في العراق / 287 , 288  .
6 -  حركة الترجمة في المشرق الإسلامي - رشيد الجميلي - بغداد  1986 /382 .
7 -  حركة التعريب  في العراق /241 .
8- رأي في بعض الأصول اللغوية و النحوية /  83 .
9 - ينظر/ نظرات في النحو - مرتضى جواد باقر - مجلة كلية الآداب - جامعة البصرة - العدد 11  السنة التاسعة - البصرة 1976 /102 وما بعدها .
10 -  ينظر / علم  اللغة المعاصرة ( مقدمات وتطبيقات ) -  د . يحيى  عباينه - دار الكتاب - الأردن 2005/ 56 .
11 -  نظرات في النحو  - مجلة كلية الآداب / 105 .
12 - نظرات في النحو- مجلة كلية الآداب / 107 .
13 - علم اللغة المعاصر/ 56 .
14 -  المصدر نفسه / 66 .
15 - جوانب من نظرية النحو - نعوم جومسكي - ترجمة - مرتضى جواد باقر -  مطبعة جامعة الموصل 1985 / 31 ، 32 .
16- نظرات في النحو  - مجلة كلية الآداب / 107 .
17 - المصدر  نفسه /108 .
18  - المصدر نفسه /109 .
19- ينظر / علم اللغة المعاصر /124 و 125 .
20 -  علم اللغة المعاصر / 125 .
21- المصدر نفسه /125 .
22-  المصدر  نفسه /126 .
23- ينظر الفصل السابق من البحث / ص 214 وما بعدها .
24 - فصول في اللغة والنقد - د . نعمة رحيم العزاوي - بغداد – 2004/ 36 .
25 -  المصدر نفسه / 37 .