صراع اللغات - 3
د. محمد سعيد حسب النبي
ناقشنا في مقالين سابقين الحالات التي تغلب فيها لغة من اللغات لغة أخرى وفق ظروف معينة، ولكن لاشك أن هنالك حالات لا تقوى فيها إحدى اللغات على التغلب فيما يرى علي وافي في كتابه اللغة والمجتمع؛ فيشير إلى عدم تغلب لغة على أخرى وبقائهما معاً جنباً لجنب، وضرب وافي أمثلة على ذلك من تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحديث. فاللغة اللاتينية لم تقو على اللغة الإغريقية، مع أن الأولى كانت لغة الشعب الغالب، وذلك لأن الإغريق –مع خضوعهم للرومان- كانوا أعرق منهم حضارة وأوسع ثقافة وأرقى لغة؛ وقد سبق أن أشرنا في مقال سابق أن انهزام لغة الشعب المغلوب أمام لغة الشعب الغالب لا يحدث إلا إذا كان الشعب الثاني أرقى من الشعب الأول في جميع هذه الأمور. ولهذه الأسباب نفسها لم تقو لغة الشعوب الجرمانية التي قوضت الإمبراطورية الرومانية الغربية في فاتحة العصور الوسطى على التغلب على اللغة اللاتينية في البلاد التي قهرتها بمناطق (الجول- فرنسا وما إليها). واللغة اللاتينية لم تقو على التغلب على لغات أهل بريطانيا العظمى، على الرغم من أن الشعب الغالب كان أرقى كثيراً من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته. وذلك لأن الجالية الرومانية في الجزر البريطانية لم تكن شيئاً مذكوراً ولم تمتزج امتزاجاً كافياً بأفراد الشعب المغلوب. وقد تقدم في مقال سابق أن الغلب اللغوي لا يتم في مثل هذه الحالات إلا إذا أقامت في البلاد المقهورة جالية يعتد بها من أفراد الشعب الغالب وتم الامتزاج بينها وبين أفراد الشعب الآخر. واللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغة الفارسية، على الرغم من فتح العرب لبلاد فارس وبقائها تحت سلطانهم أمداً طويلاً، وذلك لأن الشعب العربي لم يكن إذ ذاك أرقى حضارة من الشعب الفارسي، ولقلة عدد الجالية العربية بفارس وضعف امتزاجها بالسكان، ولانتماء اللغتين إلى فصيلتين مختلفتين (فالعربية من الفصيلة السامية والفارسية من الفصيلة الهندية-الأوروبية) –كما يشير وافي. واللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغات الإسبانية على الرغم من فتح العرب للأندلس وبقائها تحت سلطانهم نحو سبعة قرون. وذلك لانتماء العربية إلى فصيلة غير فصيلة اللغات الإسبانية، ولعدم امتزاج الشعوب القوطية بالشعب العربي. واللغة التركية لم تقو على التغلب على لغة أية أمة من الأمم التي كانت خاضعة للامبراطورية العثمانية بأوروبا وآسيا وأفريقيا، على الرغم ن بقاء هذه الأمم مدة طويلة تحت سلطان تركيا. وذلك لاختلاف فصائل اللغات (فالتركية من الفصيلة الطورانية على حين أن لغات معظم الأمم التي كانت خاضعة لتركيا من الفصيلة السامية –الحامية- أو الهندية –الأوروبية)، ولأن الترك كانوا أقل حضارة وثقافة من معظم الشعوب التي كانت تابعة لهم، ولقلة عدد جاليتهم في بلاد هذه الشعوب، ولضعف امتزاجها بالسكان.
والفرنسية لم تتغلب على عربية الجزائر تغلباً كاملاً على الرغم من بقاء الجزائر تحت نير الاستعمار الفرنسي البغيض نحو مائة وثلاثين سنة وعلى الرغم مما بذلته فرنسا من جهود جبارة ليتم للغتها التغلب، وذلك لاختلاف اللغتين في الفصيلة.
ولكن عدم تغلب إحدى اللغتين لا يحول دون تأثر كل منهم بالأخرى، فقد تأثرت اللاتينية بالإغريقية في أساليبها وآدابها واقتبست منها طائفة كبيرة من مفرداتها. وقد تركت اللغة العربية آثاراً قوية في الإسبانية والبرتغالية، وبخاصة في المناطق التي كانت تسمى بالأندلس أو أندلوسيا حيث دام سلطان العرب عدة قرون. والصراع بين العربية والفارسية، وإن لم ينته إلى تغلب إحداهما، قد ترك في كل منهما آثاراً واضحة في الأخرى، وبخاصة في ناحية المفردات. والصراع بين التركية ولغات الأمم التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد ترك في التركية آثاراً قوية من هذه اللغات وبخاصة من اللغة العربية، وترك كذلك في كثير من هذه اللغات آثاراً ظاهرة من التركية. والصراع بين الفرنسية وعربية الجزائر ترك في هذه اللهجة الأخيرة آثاراً قوية من اللغة الفرنسية.
وعليه؛ فمتى اجتمعت لغتان في بلد واحد لا مناص من تأثر كل منهما بالأخرى، سواء أتغلبت إحداهما أم كتب لكلتيهما البقاء. غير أن هذا التأثر يختلف في مبلغه ومنهجه ونواحي ظهوره ونتائجه في الحالة الأولى عنه في الحالة الثانية. فإذا كان الغلب كتب لأحدهما نراها تسيغ كل ما تأخذه من الأخرى مهما كثرت كميته، فيستحيل إلى عناصر من نوع عناصرها، فتزداد به قوة ونشاطاً، بدون أن تدع له مجالاً للتأثير في بنيتها أو تغيير تكوينها الأصلي؛ على حين أن المغلوبة لا تقوى على مقاومة ما تقذفها به الغالبة من مفردات وقواعد وأساليب ولا تكاد تسيغ ما تتجرعه منها؛ فيتخمها ويضعف بنيتها، فتخور قواها وتفنى أنسجتها الأصلية شيئاً فشيئاً حتى تزول، كما كان شأن الإنجليزية الغالبة مع النورماندية المغلوبة كما سبقت الإشارة. وإذا كان البقاء قد كتب لكلتيهما تعمد كل منهما إلى ما تأخذه من الأخرى فتسيغه وتفيض عليه من حيويتها وتقاوم آثاره الهدامة، فتبقى كل منهما متميزة الشخصية موفورة القوى سليمة البناء، كما كان من شأن الفارسية مع العربية.
|
|
|